إِنَّ التَّصنيفَ في الرَّدِّ على أهل الأهواء بابٌ عظيمٌ من أبواب النُّصحِ للأُمَّة، وصِيَانَتِهَا مِمَّا يَشُوبُها في دِينِهَا، وتَعَبُّدِها، وسُلُوكها، وتَوحِيدِها لِرَبِّها.
بَيْدَ أنَّه لا يَنْبَغِي أَن يَلِجَ هذا البَابَ الجِهادِيَّ؛ إِلاَّ مَنْ أَتْبَعَ في العِلْمِ سَبَبا، وطابَ مَسْلَكًا ومَشْرَبا.(1)
ومِمَّنْ اتَّصَفَ بهذا الوَصْفِ الأَنِيق، وتَحَقَّقَ فيه هذا الشَّرطُ الوَثِيق، فقام بهذا الواجب الشَّرعيِّ خَيرَ قِيَام: شيخُ علماء الجزائر الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله؛ إذِ انْبَرَى لأَهلِ الباطل ـ بكِتَاباته المُفِيدة ـ ورمَاهم بشِهَاب السُّنَّة الثَّاقِب، وأرشَدَ المسلمين إلى طريق الحَقِّ اللاَّحِب.
وإنَّ المتَأمِّل فيما رَقَمَهُ الشَّيخ رحمه الله، يَجِدُ أنَّ أَكثرَ الطَّوائف التي نالَتْهَا سِهَامُ نَقْدِه، هي طائفة الصُّوفيَّة التي كان لها ـ في عَهْدِه ـ انتشارٌ كبير في القُطرِ الجزائري، وكانت لشُيوخها حُظْوَةٌ عند سُلُطَات الاحتلالِ الفرنسي، وكُلُّ هذا لم يَمْنَعْهُ مِنْ بَيََان الأُمور التي يَعيبُها عليهم، فكان له في الردِّ عليهم مواقِفُ محمودة، وفي بيان مُخَالَفَاتِهِم مقالاتٌ بالهُدَى مَعقُودَة، ميَّزَ فيها الحقَّ من الباطل والحَالِيَ من العَاطِل.
ونستعرض فيما يلي جُمْلَةً من أقواله في الصُّوفية ومواقفه منها:
موقفه من هذه التَّسمية
لقد دَعَا الشيخ الإبراهيمي رحمه الله المسلمين بكُلِّ حَزمٍ وعَزمٍ إلى الخُلُوصِ من النِّسبَة إلى لَقَب «الصُّوفية» الذي لم يُسَمِّ اللهُ عز وجل بِهِ عِبَادَه، ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم، والاستغنَاءِ بالأَلقاب الشَّرعية الوَارِدَة في الكتاب والسنَّة عن الألقاب المُحدَثَة الوَارِدَة من الكُفَّار، فيقول: «ثُمَّ ما هذا التصوُّف الذي لا عهدَ للإسلام الفِطْرِيِّ النَّقِيِّ به؟! إنَّنا لا نُقِرُّه مَظْهَرًا من مظاهر الدِّين، أو مَرتبةً عُليَا من مَرَاتِبِه، ولا نَعترفُ من أَسمَاء هذه المراتِبِ إِلاَّ بما في القاموس الدِّيني: النُّبوَّة والصِّدِّيقيَّة والصُّحبَة والاتِّبَاع، ثم التَّقوى التي يتفاضَلُ بِهَا المؤمنون، ثُمَّ الوَلاية التي هي أَثَرُ التَّقوى».
إلى أَنْ قال: «وهل ضَاقَتْ بِنَا الأَلفَاظُ الدِّينيَّة ذاتُ المفْهُوم الواضح، والدِّقَّة العجيبة في تحديد المعاني؛ حتَّى نَستَعِيرَ من جَرَامِقَة اليونان أو جَرَامِقَة الفُرس هذه اللَّفظةَ المُبْهَمَة الغَامِضَة، التي يتَّسِعُ معناها لِكُلِّ خَيرٍ ولِكُلِّ شَرٍّ؟!»(2).
ويَرَى الشَّيخ الإبراهيمي رحمه الله أنَّ الانتسابَ إلى إِحدَى الطُّرق الصوفية، والتَّسمِّي بِهَا؛ يَتَضمَّنُ ثلاثة مَحَاذير:
الأول: أنْ يَعتَقدَ صَاحِبُ هذه النِّسبَة أنَّها أَشرفُ من الانتساب إلى الاسم الذي سَمَّانا الله عز وجل به ورسولُه صلى الله عليه وسلم وهو «المسلمون»، كما جاء في قوله تعالى: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ﴾[الحج:78]، أي أنَّ الله عز وجل هو الذي سمَّاكم بالمسلمين في هذا القرآن ومن قَبْلِ هذا القرآن(3).
وفي حديث الحَارِثِ الأَشْعَري رضي الله عنه مرفوعًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «فَادْعُوا المُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ، بِمَا سَمَّاهُمُ اللهُ عز وجل: المُسْلِمِينَ، المُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللهِ عز وجل»(4).
وفي هذا يقول الشيخ رحمه الله مُخاطِبًا أتباع الطَّريقة التِّيجانية: «إنَّ العاقل لا يَنتَحِلُ نِسبَةً أو وَصْفًا؛ إِلاَّ إذا اعتقَدَ أنَّه يَكتسِبُ بذلك شَرَفًا لم يَكُنْ له، وأنتُم قَبْلَ أنْ تكونوا تِيجانيِّين؛ كُنْتُم مسلمين، أَفَلْم يَكْفِكُمْ شَرفُ الإسلام حتَّى التَمَستُم ما يُكَمِّلُه من هذه النِّسَبِ المُفَرِّقَةِ؟! أمْ أنَّ الإسلامَ ـ في نَظَرِكُم ـ قَاصِرٌ عَنْ أَنْ يَصِلَ بِأَهلِه إلى درجات الشَّرَف الرَّفيعة، فجئتُم تَلتَمِسون الشَّرفَ والرِّفْعَةَ في غَيرِه؟!»(5).
المحذُور الثَّاني: أنَّ هذه النِّسَبَ المُخترَعَةَ عُنوانٌ للفُرقَة والتَّحَزُّب، وعبَّر الشَّيخ الإبراهيمي رحمه الله عن ذلك بقوله ـ في ما سبَقَ من كلامه ـ: «هذه النِّسَب المُفَرِّقَة».
المحذور الثالث: أنْ يَعتَقدَ أَصحابُ هذه النِّسبَة أنََّّهم أَرفَعُ قَدرًا من العَاطِلين منها، ومن العاطلين منها سَادَاتُ أَولياءِ الله من الصحابة رضي الله عنهم، وفي هذا قال الشيخ رحمه الله تَتِمَّةً لكلامه الآنِفِ الذِّكْرِ: «فاحذَروا؛ فإنَّ من النَّتَائج اللاَّزمة لصَنِيعِكُم هذا نتيجةٌ قَبيحةٌ جدًّا في حُكْمِ الشَّرع، وفي حُكْمِ العَقل، وهي أنَّ أَصحابَ هذه النِّسَبِ يعتقدون أَنَّهم أَرفَعُ قَدرًا من العَاطِلِين منها، ومن العاطلين منها: أبو بكر وعمر وجميعُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم».
موقفه من الصَّالحين المنسوبين إلى التَّصوُّف
يُقِرُّ الشَّيخ رحمه الله بِوجُود رِجَالٍ صالحين وأئمَّةٍ مَرضِيِّين ـ عبر التَّاريخ الإسلامي ـ مَنْسُوبين إلى التصوُّف؛ إلاَّ أنَّه يُصِرُّ على تَسميَتِهِم باسمٍ شَرعِيٍّ قُرآني ألا وهو «صَالِحُو المؤمنين»؛ استنادًا إلى قَولِ الله عز وجل: ﴿إِن تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ الله هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِير﴾[التحريم:4]، ويعتقد أنَّ صلاحَهم هذا كان نَتِيجةَ اتِّبَاعِهم للكتاب والسُّنَّة، والعَمَلِ بهما، ولم يَكُنْ نتيجةَ التَّربية الصُّوفيَّة، وانتهاجِ مَسْلَك التَّصوُّف، وفي هذا يقول الشيخ رحمه الله: «ونحن نعلمُ من طريق التاريخ ـ لا من طريق الشُّهرة العامَّة ـ أَنَّ بعض أَصحابِ هذه الأسماء الدَّائرة في عالَمِ التصوُّف والطُّرُق، كانوا على استِقَامةٍ شَرعيَّةٍ، وعَمَلٍ بالسُّنَّةٍ، ووقُوفٍ عند حُدود الله، فهم صالحون بالمعنى الشَّرعي، ولكنَّ الصَّلاحَ لم يَأْتِهِمْ من التَّصوُّف أو الطُّرق؛ وإنَّما هو نتيجة التَّديُّن، وفي مثل هؤلاء الصَّالحين الشَّرعيين إنَّما نختلف في الأسماء؛ فنحن نُسمِّيهم صالحي المؤمنين، وهم يُسَمُّونهم صوفيَّة وأصحاب طُرُق؛ فيا ويلهم! إنَّ طريقةَ الإسلام واحدةٌ، فما حاجةُ المسلمين إلى طُرُقٍ كثيرة؟!»(6).
عرضُ الشَّيخ رحمه الله
لنشأة التَّصوُّف وتطوُّره
لقد تحدَّث الشيخ الإبراهيمي رحمه الله بإِسهَاب عن نَشأةِ الفكر الصُّوفي، وتطوُّره، والمراحل التي مرَّ بِهَا، والأصول التي بُنِيَ عليها، ومدى اصطِبَاغه ببعض الدِّيانات المحرَّفة والحضارات البَائِدَة، فإلى تفصيل ذلك:
أولا ـ نشأة التصوُّف
يرى الشيخ رحمه الله أنَّ الصُّوفيَّة نَزْعَةٌ مُستَحدَثَةٌ في الإسلام، وأنَّ زمنَ ابتداعها هو النِّصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، ومكان ظهورها هو بغداد عاصمة الخلافة العبَّاسية، وفي هذا يقول: «والصوفية، أو الطُّرُّقِيَّة ـ كما نُسمِّيها نحن في مَواقِفِنا معها ـ هي نَزْعَةٌ مُستَحدثَةٌ في الإسلام، لا تَخْلُو من بُذُورٍ فارسيَّة قديمة، بِمَا أنَّ نشأةَ هذه النَّزعة كانت ببغداد في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، واصطباغُ بغدادَ بالألوان الفارسيَّة في الدِّين والدُّنيا معروف، وتدسُّسُ بعض المتنطِّعين من الفُرس إلى مَكَامِنِ العقائد الإسلامية لإفسادها، لا يَقِلُّ عن تَدَسُّس بعضهم إلى مَجَامع السياسة، وبعضهم إلى فضائل المجتمع وآدابها لإِفسادها»(7).
أمَّا سبب ظهور التصوُّف ـ في نظر الشيخ رحمه الله ـ، فهو غُلُوُّ طائفة من المسلمين في التعبُّد؛ حيث قال: «وغَلَتْ طوائفُ منهم (أي: من المسلمين) في التَّعبُّد، فنجَمَتْ ناجِمَةُ التَّصوُّف والاستِغْرَاق»(8).
ثانيا: تأثُّر الصُّـوفيَّة ببعض الدِّيانات المحرَّفة والحضارات البَائِدَة
يرى الشيخ رحمه الله أنَّ لبعض الحضارات القديمة ـ كالحضارة الفارسية ـ، والدِّيانات المحَرَّفَة ـ كالنَّصرانية ـ، والدِّيانات الوَثَنِيَّة ـ كالبَرهَمِيَّة ـ تأثيرًا بالِغًا في نشأة الفكر الصُّوفي، ويتجلَّى هذا مَلِيًّا في بعض المظاهر المشتركة بينها وبين التصوَّف، وقد مرَّ بنا قول الشيخ رحمه الله إِنَّ الصوفية «لا تَخْلُو من بُذُورٍ فارسيَّة قديمة».
وقال الشيخ ـ أيضا ـ في هذا الصَّدَد: «وأمَّا المذاهب الصُّوفيَّة فهي أَبْعَدُ أَثرًا في تَشْوِيه حقائق الدِّين، وأشدُّ مُنَافاةً لرُوحِه، وأَقوَى تأثيرًا في تَفْريقِ كلمة المسلمين؛ لأنَّها ترجع في أصلها إلى نَزْعَةٍ غامضة مُبْهَمَة، تستَّرت في أوَّل أمرها بالانقطاع للعبادة، والتجرُّد من الأسباب، والعُزُوف عن اللَّذَّات الجسديَّة، والتَّظاهُر بالخصوصيَّة، وكانت تأخُذُ مُنْتَحِلِيهَا بشيءٍ من مظاهر المسيحيَّة، وهو: التَّسليم المُطلَق، وشيءٍ من مظَاهِرِ البَرهَمِيَّة وهو: تعذيبُ الجسد وإرهاقُه؛ تَوَصُّلاً إلى كمال الرُّوح ـ زعموا ـ، وأين هذا كلُّه من رُوح الإسلام وهَديِ الإسلام؟!»(9).
ثالثا ـ أطوار التصوف ومراحله:
يرى الشيخ الإبراهيمي رحمه الله أنَّ بدعة التصوُّف ـ مثل كلِّ بدعة أُحْدِثَتْ في هذه الأمَّة ـ كان أَوَّلُها صغيرا يُشْبِهُ الحقَّ، ثُمَّ عَظُمَت، وصارت دِينًا يُدانُ بِهَا، ويُستَنْتَجُ من كلام الشيخ رحمه الله أنَّ الصُّوفيَّة مرَّتْ بثلاث مراحل:
الأولى ـ مرحلة التَّأسيس:
وهي تتميَّز بالبَسَاطة، وتَنحَصِرُ في الاجتهاد في العبادة، وشيءٍ من الرَّهبانية والتبتُّل، وكفِّ النَّفس عن الشَّهوات، وتربية الأَتْبَاع على ذلك، ومرَّ بنا قول الشيخ رحمه الله: «تستَّرت [الصُّوفيَّة] في أوَّل أمرها بالانقطاع للعبادة، والتجرُّد من الأسباب، والعُزُوف عن اللَّذَّات الجسديَّة، والتَّظاهر بالخُصُوصيَّة».
ويقول الشيخ رحمه الله ـ أيضا ـ: «وكانت [أي: الصوفيَّة] في أوَّل ظهورها بسيطةً تنحصر في الخلْوَة للعِبَادة، أو الجلوسِ لإِرشَاد وتَربية مَن يَشْهَدُ مَجَالسهُم».
إلى أن قال: «ومَبْنَى هذه النِّحلَةِ ـ في ظاهر أَمْرِهَا ـ [على] التَّبَتُُّل والانقطاع للعبادات التي جاء بِهَا الإسلام، ومجاهدة النفس ـ من طريق الرِّيَاضَة ـ بفَطْمِها عن الشَّهوات، حتَّى تَصفُوَ الرُّوح، وتَشِفَّ وتَرِقَّ وتتأهَّلَ لمُشَارَفَة المَلإِ الأَعلى، وتكونَ بمَقْرُبَةٍ مِنْ أُفُقِ النُّبُوَّّة، وتتذَوََّقَ لَذَّةَ العِبَادَةِ الرُّوحِيَّة»(10).
ويرى الشَّيخ رحمه الله أنَّ الصوفيَّة مُذْ نَشأَتهِا كان المنتسبون إليها طَرَائِقَ قِدَدا، وذهبوا مذَاهِبَ عَدَدا؛ بَيْنَ غَالٍ ومُقتَصِد، وقَريبٍ من الحقِّ ومُبْتَعِد، وفي هذا يقول الشيخ عَقِبَ كَلامِه السَّابِق: «وقد افتَرقَ النَّازِعُون إلى هذه النَّزعَة ـ مِنْ أَوَّلِ خُطوَةٍ ـ فِرَقًا، وذهبوا فيها مَذَاهِبَ؛ من القَصْدِ الذي يُمَثِّلُه أبو القاسم الجُنَيْد، إلى الغُلُوِّ الذي يُمَثِّلُه أبو منصور الحَلاَّج، إلى ما بَيْن هَذَيْن الطَّرَفَيْن».
الثانية ـ مرحلة التَّأصيل: وفي هذه المرحلة صار التصوُّف عِلْمًا مُستَقِلاًّ، له أُصولهُ، ومُصطَلَحاتُه الخَاصَّة به، وصُنِّفَت فيه الكتب والدَّواوين، وفي هذا يقول الشيخ رحمه الله تتِمَّةً لكلامه السَّابق: «ثُمَّ استَفْحَلَ أمرُها [أي: الصوفية]، فاستَحَالت عِلمًا مُستَقِلاًّ يُشَكِّلُ مُعجَمًا كاملاً للاصطلاحات، ودُوِّنَتْ فيها الدواوين التي تُحَلّل وتَشرَح، وتَصِفُ الألوان البَاطِنَة للنَّفْسِ، وتُبَيِّنُ الطَّريق الموصِلَ إلى الله، والوسيلة المؤدِّيَةَ للسَّعَادة، وكَيفِيَّة الخَلاص من مَضَائِقِ هذه الطَّريق وأَوْعَارِهَا».
الثالثة ـ مرحلة التَّدجِيل:
وفي هذه المرحلة استحالت الصُّوفيَّة إلى نِسبَة مُجَرَّدة من جميع المعاني، ينتسب إليها كل من دبَّ ودرج، لا عن طريق التَّربية؛ ولكن عن طريق الدَّجَل والشَّعوَذَة، وخاضوا في شرح أُمور غيبيَّة، وأصبح مذهبُهم قائما على السِّرِّيَّة والتَّكتُّم، فتوافقت وتلاقَت مع الفِرَق الباطنية وغيرها من النِّحَل الفاسدة.
يقول الشيخ الإبراهيمي ـ تَتمِيمًا لكلامه السابق ـ في بيان هذه المرحلة: «ثم انتقلت[الصوفية] في القرون الوسطى من تلك الأعمال التي تستُرُ أصحابَها، إلى الأقوال التي تفضحُهُم، فخاضوا في شرح مُغَيِِّبات…».
وقال رحمه الله: «ثُمَّ أَمِرَ أَمْرُ هذه الصُّوفيَّة، وتَقَوَّتْ على الزَّمَن، والتَقَت مع الباطنية ـ وغيرها من الجمعيات ـ التي تَبنِي أَمْرَها على التَّستُّر على طَبيعَةٍ دسَّاسة، وعِرْقٍ نَزَّاعٍ، ومِزَاجٍ مُتَّحِدٍ، واختلطت تعاليمُ هذه بتعاليم تلك، وتشابهت الاصطلاحات، وابتُلِيَ المسلمون من هذه النِّحل بدَاءٍ عُضَال.
وقد اتَّسَعَ صدرُها بعد أن تعدَّدَتْ مذاهبُها، واختلفت مشاربُها في القرون الوسطى والأخيرة من تاريخ الإسلام، فانضَوى تحت لِوَائها كُلُّ ذي دِخلَة سَيِّئة، وعقيدة رَدِيئَة، حتَّى أصبح التَّصوُّف حِيلَةَ كُلِّ مُحتَال، وحِلْيَة كُلِّ دَجَّال»(11).
وقال ـ أيضا ـ: «وانتهى بِهَا الأمر في القرون الأخيرة إلى نِسبَةٍ مُجرَّدَةٍ من جميع المعاني، ينتسب إليها ـ تَقَحُّمًا ـ كُلُّ مَنْ هبّ ودبّ، لا يطلُبُها من طريق علمٍ ولا تربية، ولكن من طريق الشَّعوذة والحِيلَة»(12).
رابعا: صلة التصوُّف بالاستعمار:
وصَفَ الشيخ رحمه الله الحال التي آلَ إليها التصوُّف في الأعصار الأخيرة، وكيف أنَّه أصبح مطيَّةً للمُحتَلِّين الكافرين؛ إذ صُنِعَ على أَعيُنِهِم، وصار خَادِمًا لمآرِبِهم، فقال: «ثم تدلّت [الصُّوفية] دَرَكَةً أخرى، فأصبحت وَسِيلةَ مَعاشٍ، ومَصْيَدَةً لابتِزَاز أموال العامَّة، وانتهاكًا لأَعرَاضهم، وهناك التقَتْ مع الاستعمار في طريق واحد، فتَعَارَفَا، وتَعَاهَدَا على الوَلاَء…».
إلى أن قال: «إنَّ الاستعمار الفرنسي ما رسَتْ قواعدُه في الجزائر ـ وفي شمال أفريقيا على العموم ـ وفي أفريقيا الغربية وفي أفريقيا الوسطى؛ إلاَّ على الطُّرق الصوفية وبواسطتها، ولقد قال قائدٌ عسكري فرنسي معروف كلمةً أحاطت بالمعنى من جميع أطرافه، قال: «إنَّ كَسْبَ شيخَ طريقةٍ صوفيَّةٍ أَنْفَعُ لنَا من تجهيز جيشٍ كامِلٍ، وقد يكونون ملايين، ولو اعتمدنا في إِخضاعهم على الأموال والجيوش لمَا أَفادَتْنَا ما تُفِيدُه تلك الكلمةُ الواحدة من الشيخ، على أنَّ الخُضُوع لقُوََّتِنَا لا تُؤْمَنُ عَوَاقِبُه؛ لأَنَّه ليس من القلب، أمَّا كلمةُ الشيخ، فإنَّها تَجْلِبُ لنا القلوبَ والأبدانَ والأَموالَ أيضًا»(13).
ووصف الطُّرُق الصُّوفيَّة قائلا: «هي مَطَايا الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ووسطها وغربها، ولَولاَها لم يَتِمَّ له تَمَامٌ»(14).
موقف الشيخ الإبراهيمي
من كتب الصوفية
قال الشيخ رحمه الله في بعض كتب الصوفية: «إنَّ انتشارَ هذه الدَّفَاتر في هذه الأُمَّة المسلمة يَفُوقَ انتشارَ الأَوْبِئَةِ والطَّوَاعين فيها، وإنَّ الواجب على علماء هذه الأمة أنْ يَحمُوها من تلك الكتب، كما يُحمَى المريضُ من بعض الأطعمة وبعض المياه التي تَمُدُّ المرضَ، وتَزيدُه إِعضَالاً، وإنَّ أَيْسَر ما تَستَحِقُّه تلك الكُتُب هو الإِحرَاق»(15).
ومن الكتب التي ذكرها الشيخ رحمه الله: كتاب «طبقات الصُّوفيَّة» لعبد الوهاب الشعراني، حيث أشار إلى بعض شيوخ الصوفية المُتَرجَمِين فيه، وحقيقة حالِهم، فقال: «أَصبحت هذه الكلمة ـ التي غَفَلُوا عنها ـ [أي: الصُّوفية] أُمًّا وَلُودًا تَلِدُ البَرَّ والفاجر، ثُمَّ تَمَادَى بِهَا الزَّمن، فأصبحت قَلعةً مُحَصَّنَةً تُؤْوِي كُلَّ فاسق، وكُلَّ زنديق، وكُلَّ مُمَخْرِق، وكُلَّ دَاعِر، وكُلَّ سَاحِر، وكُلَّ لِصٍّ، وكُلَّ أَفَّاكٍ أَثيم، وانظر: «طبقات الشَّعراني الكبرى»، وما طُبِعَ على غِرَارِهَا من الكُتُب؛ تَجِدْ أَصنافَ المُحْتَمِين بهذه القَلعة، وهم بِبَرَكة حِمَايَتِها طُلَقَاءُ مِنْ قُيُود الشَّريعة»(16).