خُطورَة التَّبَرُّج للشيخ الناصح و العالم الفاضل عبد الرزاق البدر. 2024.

خطبة جمعة بتاريخ / 4-8-1436 هـ

إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يُضلِل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، وصفيُّه وخليلُه ، وأمينُه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا شرًا إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعدُ أيها المؤمنون : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه. وتقوى الله جل وعلا هي خير الوصايا وأعظمها ، وهي وصية الله تبارك وتعالى للأولين والآخرين من خلْقه كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ }[النساء:131] .
معاشر المؤمنين : إنَّ نعمة الله جل وعلا علينا بهذا الدين نعمةٌ عظيمة ومنَّةٌ جسيمة ؛ فإن الدين كلُّه محاسن في هداياته العظيمة وتوجيهاته القويمة وإرشاداته السديدة ، ومن ذلك -يا معاشر المؤمنين- ما يختص بالمرأة المؤمنة من حماية فضيلتها ورعاية شرفها والعناية بعفَّتها وإبعادها عن مواقع الردى والفتنة والشرور .
عباد الله : ولهذا جاء الإسلام في جملة هداياته للمرأة بنهيها عن التبرج ومنعها منه وتحذيرها من فعله ، لما يترتب عليه من شرورٍ عظيمة وآفاتٍ جسيمة وأخطارٍ وخيمة على المرأة نفسها وعلى المجتمع الذي تعيش فيه .
وبادئ ذي بدء -عباد الله- لنتأمل في هذا المقام في آيةٍ كريمةٍ عجيبٌ أمرها في هذا الباب ؛ ألا وهي قول الله عز وجل : {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60] .
فتأمل رعاك الله ، وتأملي أيتها المرأة المسلمة هداك الله في أمر الله عز وجل للمرأة الكبيرة المسِنَّة التي لا مطمع فيها لا ترجو نكاحًا ولا تطمع فيه ولا يطمع فيها أيضًا الرجال ؛ نهاها الله سبحانه وتعالى أن تتبرج بزينةٍ بأن تُظهِر شيئًا من زينتها أو تضعُ شيئًا يجمِّلها ويحسِّنها فيكون ذلك داعيةً للفتنة وموجبًا لإثارة الشر .
يقول في هذا المقام الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى موضحًا ما تشتمل عليه هذه الآية الكريمة من هداية عظيمة : «وإذا كان العجائز يُلزَمن بالحجاب عند وجود الزينة ولا يُسمح لهن بتركه إلا عند عدمها وهنَّ لا يفتن ولا مطمع فيهن ؛ فكيف بالشابات الفاتنات !! ثم أخبر سبحانه أن استعفاف القواعد بالحجاب خيرٌ لهن ولو لم يتبرجن بزينة ؛ وهذا كلُّه واضحٌ في حث النساء على الحجاب والبُعد عن السفور وأسباب الفتنة» انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
عباد الله : ولقد جاء في القرآن والسنة نصوص كثيرة في هذا الباب مبينةً عظم شأن هذا الأمر ووجوب بُعد المرأة عن التبرج وأن هذا خطرٌ عليها ومضرةٌ لمجتمعها وأنه من خطوات الشيطان وأعمال الجاهلية ، قال الله عز وجل :{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}[الأحزاب: ٣٣] ؛ فبيَّن جل في علاه أنَّ تبرج المرأة بالزينة عملٌ قبيحٌ من أعمال الجاهلية القبيحة وشنائع فِعالها .
عباد الله : وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا ؛ قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا)) ؛ وهذا من أدل ما يكون على أن تبرج المرأة من كبائر الذنوب وعظائم الآثام ومن موجبات دخول النار .
وجاء في سنن البيهقي من حديث أبي أُذَيْنَة الصَّدَفِيّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((خَيْرُ نِسَائِكُمُ الْوَدُودُ الْوَلُودُ الْمُوَاتِيَةُ الْمُوَاسِيَةُ إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ ، وَشَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَاتُ الْمُتَخَيِلَّاتُ وَهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ ؛ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلَّا مِثْلُ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ)) وهو قليل جدًا في الغربان .
عباد الله : ومما جاء في هذا الباب -باب عدم التبرج والتحذير منه- ما ثبت في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : جَاءَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ رُقَيْقَةَ رضي الله عنها إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام : ((أُبَايِعُكِ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكِي بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَلَا تَسْرِقِي، وَلَا تَزْنِي ، وَلَا تَقْتُلِي وَلَدَكِ ، وَلَا تَأْتِي بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ يَدَيْكِ وَرِجْلَيْكِ ، وَلَا تَنُوحِي ، وَلَا تَبَرَّجِي تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)) ؛ فعدَّ ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في جملة الأمور التي يبايع النساء عليها عند دخولهن في هذا الدين العظيم . وعليه فإن المتبرجة نقضت هذا العهد العظيم والميثاق الكريم والبيعة الشريفة التي أخذها النساء الأوَل وهنَّ يبايعن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
والتبرج -يا معاشر المؤمنين- من خطوات الشيطان الآثمة ودعواته الفاتنة المضرَّة بالنساء وبالمجتمع كله ؛ يقول الله تبارك وتعالى: { يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}[الأعراف:27] .
عباد الله : والتبرج آفةٌ عظيمة ومضرةٌ جسيمة على المجتمعات ؛ فإن المجتمع المسلم إذا وُجد فيه النساء المتبرجات وكثُرن في المجتمع أضررن بالمجتمع ضررًا عظيما ، وأصبحن بهذا التبرج داعياتٍ للرذيلة ، ناشراتٍ للفساد محركاتٍ ومهيجاتٍ للفتنة ومثيراتٍ لمطامع كل من في قلبه مرض ؛ وهذا مبتغى أعداء دين الله من المرأة للفتك بالمجتمعات المسلمة ، ولهذا قال أحد أعداء الدين : "انزعوا الحجاب من المرأة المسلمة وغطوا به القرآن" ؛ أي أنكم إذا وصلتم إلى هذه الدرجة فقد قضيتم على المجتمع المسلم وتمكَّنتم من إشاعة الشرور والرذيلة والفساد فيه ، مما يحقق هلاك المجتمع ودماره .
فالحذر الحذر -يا معاشر المؤمنين- ولنتقِ الله سبحانه وتعالى ولنرعَ هذه الأمانة ، وعلى المرأة أن تتقي الله عز وجل ولتحذر أشد الحذر من أن تكون من هؤلاء النساء أهل هذا الوصف الذميم .
حمى الله نساءنا وبناتنا ونساء المسلمين ، وهداهن إلى كل خير وفضيلة ، وأعاذهن بمنِّه وكرمه من كل شر ورذيلة .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية :
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينُه على وحيه ؛ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه .
معاشر المؤمنين : روى النسائي في السنن الكبرى عن عمارة بن خُزيمة بن ثابت قال : كُنَّا مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه فِي حَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ ، فَلَمَّا كُنَّا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ إِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ فِي هَوْدَجِهَا وَاضِعَةً يَدَهَا عَلَى هَوْدَجِهَا ، فَلَمَّا نَزَلَ دَخَلَ الشِّعْبَ وَدَخَلْنَا مَعَهُ فَقَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَكَانِ ، فَإِذَا نَحْنُ بِغِرْبَانٍ كَثِيرٍ فِيهَا غُرَابٌ أَعْصَمُ أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ وَالرِّجْلَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا كَقَدْرِ هَذَا الْغُرَابِ مَعَ هَذِهِ الْغِرْبَانِ)) . ورواه الحاكم في مستدركه وقال : ((وَاضِعَةً يَدَهَا عَلَى هَوْدَجِهَا فِيهَا خَوَاتِيمُ)) . ورواه أبو يعلى في مسنده وقال : ((فِإِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ عَلَيْهَا جَبَائِرَ لَهَا – أي أساور في معصمها من ذهب أو فضة – وَخَوَاتِيمَ وَقَدْ بَسَطَتْ يَدَهَا إِلَى الْهَوْدَجِ)) .
لنتأمل يا معاشر المؤمنين في هذه القصة العظيمة والموقف العجيب من هذا الصحابي رضي الله عنه عندما رأى امرأةً على هودجها ، ومن المعلوم أن الهودج لا يكشف من المرأة شيئا إلا أنها أخرجت يدها فقط وعليها بعض الحلي ، فقال رضي الله عنه ما قال وتذكَّرَ كلام النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في شأن النساء ؛ فكيف به رضي الله عنه وأرضاه لو رأى ما تبدَّلت إليه حال كثير من النساء في كثير من المجتمعات من وقوع شنيعٍ في التبرج وإظهار المفاتن وإبداء المحاسن غير مباليات بشرع الله وحدوده جل في علاه ؛ فاتناتٍ مجتمعاتهن مثيراتٍ للفاحشة والرذيلة عياذًا بالله .
فعلى المرأة أن تتأمل في هذه النصوص العظيمة وأن تتذكر وقوفها بين يدي الله جل وعلا ومفارقتها لهذه الحياة وأنَّ الله عز وجل سائلها يوم تلقاه عن هذه الأعمال الشنيعة والجنايات الفظيعة . ألا فلتتقِ الله كل امرأة مسلمة تخاف مقامها بين يدي الله تبارك وتعالى .
وإنَّا لنسأل الله جل في علاه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبأنه الله الذي لا إله إلا هو أن يمنَّ على نسائنا وبناتنا بلباس الحشمة والعفاف والستر والصيانة ، وأن يعيذهن من موجبات الفتنة وأسباب الشرور ودعاة الرذيلة بمنِّه وكرمه سبحانه .
ألا وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما} [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بها عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم . اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجله ، أوله وآخره ، علانيته وسره . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

ﺃﺇﺳـ ﻉٍ ـﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﺇﺃﻭٍﻗـﺂﺗَﻜُـﻢ ﺑﻜُـﻞ ﺥَ ـﻴﺮٍ
ﺩﺁﺇﺋﻤـﺎَ ﺗَـﺒﻬَـﺮٍﻭٍﻧﺂﺁ ﺑَﻢَ ـﻮٍﺁﺿﻴﻌﻜـ
ﺃﺇﻟﺘﻲ ﺗَﻔُـﻮٍﺡ ﻣِﻨﻬﺂ ﻉَ ـﻄﺮٍ ﺃﺇﻵﺑﺪﺁﻉ
ﻭٍﺃﺇﻟـﺘَﻤـﻴُﺰٍ
ﻟﻚ ﺍﻟﺸﻜﺮ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻗﻠﺒﻲ
أحسن الله اليك.
المهم التدبر و العمل بما جاء فيها من النصح الدلالة الى الخير و التحذير من الشر.

شَهْرُ شَعْبَانَ حِكَمٌ وأَحْكَامٌ، للشيخ الفاضل نجيب جلواح. 2024.

شَهْرُ شَعْبَانَ.. حِكَمٌ وأَحْكَامٌ(1)

الحمدُ لله الذي جعلَ لعبادِه مَواسمَ يَسْتكثرون فيها مِن القُرُبات والعملِ الصَّالح، وأَمَدَّ في آجالهم فهُم في أَبوابِ الخَيْرِ بين غادٍ ورائِح، ومِن هذه المَواسم المُبارَكات، التي على المسلمِ أنْ يَغْتنمها لِزَرْع الطَّاعات، والتَّزوُّد بالباقِيات الصَّالحات: شهر شَعبان.
وفي هذا المقال تَذْكير بفَضْل هذا الشَّهر، الذي يَغْفُل عنه كثير مِن النَّاس، كما أَخْبرنا بذلك نَبيُّنا صلى الله عليه وسلم، وهذا لِنَسْتعِدَّ له بالاجتهاد في الطَّاعة، اقْتداءً بنَبيِّنا وقُدْوتنا صلى الله عليه وسلم، وللإكثار فيه مِن الصِّيام؛ لأنَّ «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»(2).
وقَبْل الشُّروع في المَطْلوب، أُقدِّم ـ بين يدَي المَوضوع ـ ذِكْر ما قِيل في معنى هذا الشَّهر:
شَعْبان: اسمٌ للشَّهر المَعروف، الَّذي بين رَجَب ورَمَضان، وقِيل: سُمِّي (شعْبَان): لِتَشَعُّبهم فِيهِ، أَيْ: تَفَرُّقهم فِي طَلب المِيَاه(3).
وقِيل: سُمِّي كذلك: لِتَشَعُّب القبائل فيه(4)، أو لِتَشَعُّبهم في الغارات(5).
قال ثَعْلَب رحمه الله: «قال بعضهم: إنَّما سُمِّي شَعبانُ شعبانَ لأنَّه شَعَبَ، أيْ: ظهر بين شَهْرَيْ رَمضان ورَجَب»(6).
وقال ابن حجر رحمه الله: «وسُمِّي شَعبان: لِتَشَعُّبهم في طَلب المياه، أو في الغارات بعد أنْ يَخْرُج شَهْر رَجَب الحرام، وهذا أَوْلى مِن الذي قَبْله، وقِيل فيه غير ذلك»(7).
وقد يُقال ـ أيضًا ـ: إنَّه سُمِّي بذلك لِتَشَعُّب الخير فيه بالنِّسْبة للصَّائم، وهذا بِناءً على ما جاء في حديثٍ: أخرجه الرَّافعي في «تاريخه» عن أنس بن مالك رضي الله عنه مَرفوعًا: «إِنَّمَا سُمِّي شَعْبانَ؛ لأَنَّهُ يَتَشَعَّبُ فِيهِ خَيْرٌ كثِيرٌ لِلصَّائِمِ فِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّةَ»، ولكنَّ هذا الحديث لا يَثْبُت(8).
وقد اخْتَرْتُ ـ في هذا المَقال ـ بعض الأحاديث الصَّحيحة الواردة في السُّنَّة المُطهَّرة، في أبواب مُتنوِّعة، ممَّا له صِلةٌ وعَلاقة بِشَهر شَعبان، وجَعلتها تَحْت أَبْواب مُناسِبة، كما تَرْجم لها أهل الحديث أو قَريبا مِن ذلك، ثُمَّ أَتْبعتها بذِكر ما حَوَته مِن حِكَم وأَحْكام، ممَّا هو مَبْثوث في شُرُوحات أهل العِلم، وهذا على وَجْه الاختصار والإيجاز، وأَسألُ الله تعالى أنْ يَنْفع به كاتِبه وقارِئه ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون* إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيم[الشعراء: 88-89].
1 ـ فَضْل لَيلة النِّصْف مِن شَعبان:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلاَّ لاثْنَيْنِ: مُشَاحِنٍ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ»(9).
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَطْلُعُ الله إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»(10).
وعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ اطَّلَعَ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَيَغْفِرُ لِلمُؤْمِنِينَ وَيُمْلِي لِلكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ»(11).
قال الألباني رحمه الله: «وجُمْلة القَول أنَّ الحديث بمجموع هذه الطُّرق صحيح بلا ريب، والصِّحَّة تَثْبُت بأقلَّ منها عددًا، ما دامتْ سالمةً مِن الضَّعف الشَّديد، كما هو الشَّأن في هذا الحديث، فما نَقله الشَّيخ القاسمي رحمه الله في «إصلاح المساجد» (ص 107) عن أهل التَّعديل والتَّجريح: أنَّه ليس في فَضْل ليلة النِّصف مِن شعبان حديث صحيح، فليس ممَّا يَنْبغي الاعتماد عليه، ولئن كان أحدٌ منهم أَطلق مِثْل هذا القول فإنَّما أُوتي(12) مِنْ قِبَل التَّسرُّع وعَدم وسع الجُهد لِتَتبُّع الطُّرُق على هذا النَّحو الذي بين يَديك، والله تعالى هو المُوفِّق»(13).
ويَكفي هذه اللَّيلة المُباركة فَضْلا: أنَّ الله تعالى يَغْفر فيها لجميع خَلْقه إلاَّ لأهل الحِقْد والبَغْضاء والشَّحْناء، وفي هذا دَعْوة إلى العَفْو عن المُسيء والتَّجاوُز عنِ المُخْطئ، والجَزاء مِن جِنْس العَمل.
والمُشاحِن: هو المُعادي، والشَّحْناء: هي العَداوة. وقال الأَوْزاعي: «أَراد بالمُشاحِن ها هُنا: صاحِب البِدْعة، المُفارِق لجَماعة الأُمَّة» (14).

ولا يَفوتُني ـ بهذه المُناسبة ـ التَّنْبيه على أنَّه لم يَصِحَّ شَيء في فَضْل قِيام هذه اللَّيلة، إذْ كُلُّ ما ورد في ذلك لا يَسْلَم مِن ضُعْف، و ممَّا رُوي في هذا الباب: ما أَخرجه ابن ماجه (1388) والبَيْهقي في «شُعَب الإيمان» (3555) عَنْ عَلِيِّ ابنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلاَ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلاَ مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ، أَلا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ، أَلاَ كَذَا، أَلاَ كَذَا، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ»(15).
قال عليٌّ القاري رحمه الله: «واعْلَم أنَّ المَذكور في «اللَّآلي»: إنَّ مائة رَكعة في نِصف شَعْبان بـ «الإخْلاص» عَشْر مرَّات في كلِّ رَكعة مع طُول فَضْله للدَّيْلمي وغيره: مَوضوع، وفي بعض الرَّسائل، قال عليُّ بن إبراهيم: وممَّا أُحْدِث في لَيلة النِّصف مِن شَعْبان: الصَّلاة الأَلْفيَّة، مائة رَكعة بـ «الإخْلاص» عَشْرًا عَشْرًا بالجماعة، واهْتَمُّوا بها أَكثر مِن الجُمَع والأَعْياد لم يَأْتِ بها خَبَر ولا أَثَر إلَّا ضَعيف أوْ مَوضوع، ولا تَغْترَّ بِذِكر صاحب «القُوت» و«الإِحياء» وغيرهما، وكان للعَوامِّ بهذه الصَّلاة افْتِتان عظيم، حتَّى الْتَزم بسببها كَثْرة الوَقيد، وتَرتَّب عليه مِن الفُسُوق وانْتِهاك المَحارم ما يُغني عن وَصْفه، حتَّى خَشِي الأَولياء مِن الخَسْف، وهَرَبوا فيها إلى البَرَارِي»(16).
كما أُنَبِّه ـ أَيضًا ـ على عَدَم مَشْروعِيَّة تَخْصيص صَوْم يَوم لَيلة النِّصف مِن شَعبان، لِعَدم وُرُود ما يَدلُّ عليه، لذا قال المُباركفوري: «والحاصِل أنَّه ليس في صَوْم يوم لَيلة النِّصف مِن شَعبان حَديث مَرفوع صحيح أو حَسَن أو ضَعيف خَفيف الضُّعف، ولا أَثَر قَوِيٌّ أو ضعيف»(17).
2 ـ قَضاء رَمضان في شَعْبان:
ذَكرتْ أُمُّ المُؤمنين عائشة رضي الله عنهما أنَّ الأَمْر الذي كان يَمْنعها وسائِر نِساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن تَعْجيل قضاء رَمضان حتَّى يَأتي شَعبان: هو الشُّغْل مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أحاديث أَذْكُر منها ما يلي:
1 ـ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنهما تَقُولُ: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»(18).
2 ـ وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنْ كَانَتْ إِحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقْضِيَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ»(19).
3 ـ وعَنْها ـ أيضًا ـ رضي الله عنهما قَالَتْ: «مَا كُنْتُ أَقْضِي مَا يَكُونُ عَلَيَّ مِنْ رَمَضَانَ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم»(20).
«والمُراد مِن الشُّغْل: أَنَّها كانتْ مُهَيِّئة نَفْسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَرَصِّدة لاسْتِمْتاعه في جميع أَوقاتها إنْ أراد ذلك، وأمَّا في شَعْبان فإنَّه صلى الله عليه وسلم كان يَصُومه، فتَتفرَّغ عائشة لِقضاء صَوْمها… وممَّا يُسْتفاد مِن هذا الحديث: أنَّ القضاء مُوسَّع، ويَصير في شَعْبان مُضيَّقًا، ويُؤْخَذ مِن حِرْصها على القضاء في شَعْبان أنَّه لا يجوز تَأْخير القضاء حتَّى يَدخُل رَمضان، فإنْ دَخل فالقضاء واجبٌ ـ أيضًا ـ فلا يَسْقُط»(21).
وتَجْدُر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنَّ بعض العُلماء يرى أنَّ الجُملة الواردة في هذه الرِّواية الأُولى، وهي: «الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» لَيستْ مِن قَول أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنهما بل مُدْرَجة في الحديث.
قال الألباني رحمه الله: «واعْلَم أنَّ ابن القَيِّم والحافظ وغيرهما قدْ بَيَّنا أنَّ قوله ـ في الحديث ـ: «الشُّغل مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم» مُدْرَج في الحديث، ليس مِن كلام عائشة، بل مِن كلام أَحَد رُواته، وهو يحيى بن سَعيد، ومِن الدَّليل على ذلك قول يحيى في رواية لمسلم: «فَظَنَنْتُ أنَّ ذَلِكَ لِمَكَانِهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم». ولكنْ هذا لا يَخْدُج فيما ذَكرنا؛ لأنَّنا لم نَسْتدلَّ عليه بهذا المُدْرَج، بل بِقَوْلها: «فَمَا أَسْتَطِيعُ…»، والمُدْرَج إنَّما هو بيان لِسبب عَدم الاستطاعة، وهذا لا يَهُمُّنا في الموضوع، ولا أَدْري كيف خَفِي هذا على الحافظ حيث قال في ـ خاتمة شَرْح الحديث ـ: «وفي الحديث دَلالة على جَواز تَأْخير قضاء رَمضان مُطلقا سواء كان لعُذْر أو لِغَير عُذْر؛ لأنَّ الزِّيادة كما بَيَّناه مُدْرَجَة…»؟! فخَفِي عليه أنَّ عَدم اسْتِطاعتها هو العُذْر، فتَأَمَّل»(22).
3 ـ شَعْبان أَحبُّ الشُّهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَصومه:
فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي قَيْسٍ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: «كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصُومَهُ: شَعْبَانُ، ثُمَّ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ»(23).
فإنْ قِيل: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخُصُّ شَعْبان بكَثْرة الصِّيام فيه، في حين لم يُعرف عنه مِثل ذلك في شَهْر المُحرَّم، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم هو القائِل: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ»(24)؟
إنَّ جماعةً مِن أهل العِلم أَجابوا عن ذلك بقولهم: إنَّ أَفْضل الصِّيام ـ بعد شَهْر رَمضان ـ: شَعْبان؛ لِمُحافظته صلى الله عليه وسلم على صَوْمه أو صَوْم أكثره، ولأنَّه يَسْبِق رَمضان، فيكون صِيامه كالسُّنن الرَّواتب في الصَّلوات الَّتي تكون قَبْلها، وعليه يُحْمَل قَولُه صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ»: على التَّطَوُّع المُطْلق(25).
قال النَّووي رحمه الله: «قَولُه صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ»: تَصْريح بأنَّه أَفضل الشُّهور للصَّوْم، وقد سَبق الجواب عن إكثار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن صَوْم شَعْبان دُون المُحرَّم، وذكرنا فيه جوابين:
أحدهما: لَعلَّه إنَّما عَلِم فَضْله في آخر حَياته.
والثَّاني: لَعلَّه كان يُعْرَض فيه أَعذار مِن سَفَر أو مَرَض أو غيرهما»(26).

4 ـ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَكْثرَ صِيامًا في شَعْبان: يُستَحبُّ للمُسلم أنْ لا يُخْلي شَهْرًا مِن صِيام، فمتى وَجَد نشاطًا وقُدْرة بادَر إلى ذلك، فيَفْعل ما يَقْتَضيه الحال مِن تَجَرُّده عن الأَشْغال، إذْ صَوْم النَّفْل غير مُخْتصٍّ بزمان مُعيَّن دُون غيره، بل كُلُّ أيَّام السَّنَة صالحة له، إلاَّ ما اسْتَثْناه الشَّرْع ونَهى عنِ الصِّيام فيه، نَحو: العِيد وأيَّام التَّشْريق، ولكنْ له أنْ يَخُصَّ شَعْبان بالصَّوم أكثر مِن غيره، لما ورد فيه مِن الفضل(27):
1 ـ فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا في شَعْبَانَ»(28).
2 ـ وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنهما حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ»(29).
3 ـ وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ ـ أيضا ـ رضي الله عنه قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنهما عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: «كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلًا»(30).
4 ـ وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُهُ إِلاَّ قَلِيلا بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ»(31).
وقد جَمَع بعض أهل العِلم بين هذه الأحاديث التي وَرد في بعضها: أنَّه صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ»، وبين الأُخرى التي جاء فيها: أنَّه صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلًا» بأنَّ المراد بـ «كُلِّهِ»: غالِبه؛ لأنَّ رِوايات الحديث يُفسِّر بعضها بعضًا خُصوصًا وأنَّ المَخْرَج مُتَّحِد، فأَطْلق الكُلَّ على الأكثر(32).
ورُوي عن ابن المُبارك أنَّه قال ـ في هذا الحديث ـ: «هو جائزٌ في كلام العَرب: إذا صام أكثر الشَّهر أنْ يُقال: صام الشَّهْر كُلَّه، ويُقال: قام فلانٌ لَيْله أَجْمع، ولعلَّه تَعشَّى واشْتَغل ببعض أَمْره».
وحاصِله: أنَّ رِواية: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلًا» مُفسِّرة لِرِواية: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» ومُخَصِّصة لها، وأنَّ المراد بـ «الكُلِّ»: الأَكْثر(33).
وجَمَع الطِّيبِي بينهما: بأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يَصوم شَعبان كُلَّه في وقت، ويَصوم مُعْظمه في آخر، لِئلاَّ يَتوهَّم النَّاسُ وجوبَ صِيامه كُلِّه، فيكون كرَمضان(34).
وقِيل: المراد بقولها رضي الله عنهما: «كُلَّه»: أنَّه كان يَصوم مِن أَوَّله تارةً، ومِن آخِره أخرى، ومِن أَثْنائه طَورًا، فلا يُخْلي شيئًا منه مِن صِيام، ولا يَخُصُّ بعضه بِصيام دُون بعض(35).
وقال الزَّين بن المُنَيِّر: «إمَّا أنْ يُحْمل قَوْل عائشة على المُبالغة، والمراد: الأَكثر، وإمَّا أنْ يُجْمع بأنَّ قولها الثَّاني مُتأَخِّر عن قولها الأَوَّل، فأَخبرتْ عن أوَّل أَمْره: أنَّه كان يصوم أكثره، وأَخبرتْ ـ ثانيًا ـ عن آخِر أَمْره: أنَّه كان يصومه كلَّه».
وقال الحافظ ابن حَجر ـ مُعلِّقًا على كلام ابن المُنَيِّر السَّابق ـ: «ولا يَخْفى تَكَلُّفه، والأَوَّل هو الصَّواب»(36).
ثُمَّ ساق الحافظ حديث عائشة رضي الله عنهما ولَفْظه: «وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا كَامِلًا، مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ»(37)، ويُؤيِّده ـ أيضًا ـ حديثُها المَذكور آنفًا، وفيه قَوْلها: «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا في شَعْبَانَ».
كما جُمِع بينهما ـ أيضا ـ بِحَمْل قَوْلها رضي الله عنهما: «كَانَ يَصُومُ شَعبَانَ كُلَّهُ»: على حَذْف حَرف الاستثناء والمُسْتثنى ، أيْ: إلاَّ قليلًا منه، ويَدلُّ عليه قَوْلها رضي الله عنهما ـ في رواية ـ: «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ مِنْ شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ إِلاَّ قَلِيلًا»(38)، وأشبه بهذا اللَّفظ رِواية مسلم: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلًا»(39). وإنْ كان هذا يَرْجِع ـ في المعنى ـ إلى الجَمع الأَوَّل(40).
5 ـ وَصْل شَعبان برَمضان:
لقد وَرد ـ فيما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: أنَّه كان يَصِل شَعبان برَمضان، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن تَقدُّم رَمضان بصَوْم يومٍ أو يومين، فسنَذْكر ـ أوَّلًا ـ ما يُثبِت هذا الأَمْر، ثُمَّ نثنِّي بذِكْر ما يَرفع التَّعارض ويُزيل الإشْكال ـ إن شاء الله تعالى ـ:
1ـ فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلاَّ شَعْبَانَ، يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ»(41).
2ـ وعَنْها ـ أَيضًا ـ رضي الله عنهما قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ»(42).
3ـ وعَنْ رَبِيعَةَ بنِ الغَازِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنهما عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِلَهُ بِرَمَضَانَ»(43).
أمَّا بالنِّسْبة للجَمْع بين هذه الأحاديث الَّتي تَبْدو مُتعارضة لأَوَّل وَهْلة، فقد حَمَل العُلماء النَّهي الوارد في بعضها على مَن لم يَكن صَام شيئًا مِن شَعبان، حتَّى إذا قَرُب رَمضان أَنْشأ صِيامًا، وأمَّا غيره ممَّن كان له عادة مِن صِيام أيَّام البِيض، أو الإثْنين والخميس، أو اسْتَدام الصِّيام مِن بداية شَعبان: فلا حَرَج عليه أنْ يَصِل شَعبان برَمضان؛ لأنَّه ما أراد بذلك الاحْتِياط:
قال أبو الوليد الباجي رحمه الله: «إنَّ مَن كان في شَعبان: لم يَجُز له أنْ يَتقدَّم صِيام رَمضان بصِيام يومٍ أو يَومين، ومَن اسْتَدام الصَّوْم مِن أَوَّل شَعبان: جاز له اسْتِدامة ذلك حتَّى يَصِله برَمضان»(44).
وقال الشَّوْكاني رحمه الله: «لأنَّ ذلك جائزٌ عند المانعين مِن صَوْم يوم الشَّكِّ، لما في الحديث الصَّحيح ـ المتَّفق عليه ـ»(45).
ثمَّ ذَكر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ»(46).
6 ـ الحِكمة مِن إكثاره صلى الله عليه وسلم مِن الصِّيام في شَعبان:
عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ العَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(47).
بيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَجْه صِيامِه شَعبانَ: وذلك لأنَّ الأعمال تُرفع فيه، وهو يُحِبُّ أنْ يُرْفع عَمله وهو صائم، واخْتار الصَّوْم لفَضْله، وطَلبًا لزِيادة رِفْعة الدَّرجة، لذا كان صلى الله عليه وسلم يصوم ـ أيضًا ـ الاثنين والخميس للعلَّة السَّابقة:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(48).
وفي رواية قال: «إِنَّ الأَعْمَالَ تُرْفَعُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(49).
ولا يُنافي رفعُ الأعمال في هذين اليومين ـ أي: الاثنين والخميس ـ رفعَها في شَعبان، لجواز رَفْع أَعمال الأُسبوع مُفصَّلة، وأَعمال العام مُجْملة(50).
وقِيل ـ أيضا ـ: تُرْفع الأعمال في شَعبان إلى الملأ الأعلى، ولا يُنافي ذلك رفع أعمال اللَّيل بعد صلاة الصُّبح، ورَفْع أعمال النَّهار بعد صلاة العصر ـ يَوميًّا ـ وكذا رَفْع الأعمال كُلَّ يوم اثنين وخميس ـ أُسبوعيًّا ـ؛ لأنَّ الأوَّل: رَفْع عامٌّ لجَميع ما يَقع في السَّنَة، والثَّاني: رَفْع خاصٌّ لكلِّ يوم وليلة، والثَّالث: رَفع لجَميع ما يقع في الأُسبوع، وكان حِكْمة تَكرير هذا الرَّفع: مَزيدٌ مِن تَشريف الطَّائعين، وتَقبيح عَمل العاصين(51).
وقال السِّنْدِي رحمه الله: «وهو شَهْر تُرْفع الأعمال فيه إلى ربِّ العالمين. قيل: ما معنى هذا مع أنَّه ثبت في «الصَّحيحين»(52): أنَّ الله تعالى يُرْفع إليه عَمل اللَّيل قَبْل عَمل النَّهار، وعَمل النَّهار قَبْل عَمل اللَّيل؟ قُلتُ: يُحْتمل أمران:
أَحدهما: أنَّ أَعمال العِباد تُعرض على الله تعالى كلَّ يوم، ثُمَّ تُعرض عليه أَعمال الجمعة في كلِّ اثنين وخميس، ثُمَّ تُعرض عليه أَعمال السَّنة في شَعبان، فتُعرَض عَرضًا بعد عَرْض، ولكُلِّ عَرْض حِكْمة، يُطْلِع عليها مَن يشاء مِن خَلْقه، أو يَستأثر بها عنده، مع أنَّه ـ تعالى ـ لا يَخْفى عليه مِن أعمالهم خافِية.
ثانيهما: أنَّ المراد: أنَّها تُعرض في اليوم تَفصيلًا، ثُمَّ في الجمعة جُمْلةً، أو بالعكس»(53).
هذا مِن جهة، ومِن جهة أُخرى فإنَّ الحِكمة مِن إكثار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن الصِّيام في شَعبان: هو أنَّ أكثر النَّاس يَغْفُل عنه، وهذا لما اكْتَنفه شَهران عظيمان، وهما شَهْر حرام ـ وهو رَجَب ـ وشَهْر الصِّيام ـ وهو رَمضان ـ فاشْتَغل النَّاس بهما، وغَفَلوا عن شَعبان، وإنَّما يَغْفُل النَّاس عَنهُ تَقَوِّيًا بِالفِطْر لرَمضان، وكُلُّ وَقْت يَغْفُل النَّاس عَنهُ يكون فَاضلًا لِقلَّة القائمين فيه بِالخِدْمَة، كما هو الأَمْر بالنِّسبة لقيام اللَّيْل وَأَشْبَاه ذَلِك(54)، لذا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ»(55).
7 ـ صَوْم سَرَر شَعبان:
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ ـ أَوْ لآخَرَ ـ: «أَصُمْتَ مِنْ سرَرِ شَعْبَانَ؟» قَالَ: لا، قَالَ: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ»(56).
لقد سَأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ـ عِمران بن حُصين رضي الله عنهما هل صام شيئا مِن سَرَرِ شَعبان؟ فلمَّا أجابه بالنَّفي، حَثَّه على صِيام يومين مِن شَوال بعد أنْ يُفطِر مِن رَمضان، وسَرَر الشَّهْر: آخِره، وَسُمِّي بذلك: لاسْتِسرار القمر فيها(57).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ» أيْ: مِن رَمضان، كما في رواية مسلم ولفظها: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ» أيْ: إذا فَرغتَ مِن صِيام رَمضان، فصُم يومين بعد العِيد عِوَضًا عن سَرَر شَعبان، وفي هذا حَضٌّ على أنْ لا يَمْضي على المُكَلَّف مِثْل شَعبان ولم يَصُم منه شيئًا، إذْ لمَّا فات السَّائلَ صَومُه: أَمَره أنْ يُعَوِّضه بغيره، وهو دليل على مَشروعيَّة قَضاء التَّطوُّع(58).
وقال القُرطبي: ويَظهر لي أنَّه إنَّما أَمَره بصيام يومين في غيره: للمَزِيَّة الَّتي يَخْتَصُّ بها شَعبان، فلا يَبْعُد في أنْ يُقال: إنَّ صَوم يومٍ منه كصَوْم يومين في غيره، ويَشهد له أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يَصوم منه أكثر ممَّا كان يَصوم مِن غيره، اغْتنامًا لمزِيَّة فضيلته»(59).
وفي هذا الحديث إشْكال ـ أيضًا ـ مٍن حيث إنَّه مُعارِض لحديث: «لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ»(60).
وقد جَمَع بَعض العُلماء بين الأحاديث المُبيحة وبين هذا الحديث النَّاهي، بأنْ خَصُّوا حديثَ النَّهي بمَن يَحْتاط ـ بزَعْمه ـ لرَمضان؛ لأنَّ صَوْم رَمضان مُرْتبِط بالرُّؤية، فلا حاجة إلى التَّكلُّف، وقد اسْتحسن الحافظ ابن حجر هذا الجمع(61).
قال الشَّيخ عبد المحسن العبَّاد: «ويكون ذلك مَحْمولًا على مَن كان له عادة، وهذا حتَّى يَتَّفق مع الأحاديث التي فيها النَّهي عن التَّقدُّم، ثُمَّ ـ أيضًا ـ لو لم يكن هناك هذا؛ فإنَّ الاحتياط هو عَدم الصِّيام؛ لأنَّ الأَخْذ بالنَّهي أَوْلى مِن الأَخْذ بالرُّخصة والإِذْن، فالإنسانُ إذا لم يَصُم: أَكْثر ما في الأَمْر أنَّه تَرك سُنَّة ولم يَتْرك واجبًا، فلا يَلْحقُه إِثم، ولكنَّه إذا صام ـ وقد جاء النَّهي ـ: فإنَّه يكون مُتعرِّضًا للإثم، فعلى الإنسانِ ألاَّ يَتعرَّض للإثم في سبيل أنْ يَفعل شيئًا هو سُنَّة، وقد جاء عَنْ عَمَّارٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم»(62) يعني: في قوله: «لاَ تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِيَومٍ أَو يَومَينِ»(63).
8 ـ النَّهي عن صِيام النِّصف الباقي مِن شَعبان:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا»(64).
وفي رواية: «إِذَا بَقِيَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلاَ تَصُومُوا»(65).
وفي أُخرى: «إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلا صَوْمَ حَتَّى يَجِيءَ رَمَضَانُ»(66).
وقد اختلفتْ آراءُ أهل العِلم في حُكم الصِّيام في النِّصف الثَّاني مِن شَهْر شَعبان على أقوال:
الأَوَّل: الكَراهة؛ لظاهر هذا الحديث، قال الشَّافعي: يُكْره التَّطوُّع إذا انتصف شَعبان، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا»(67).
وقِيل: الحِكْمة مِن النَّهي عن صِيام النِّصف الثَّاني: لِيتقوَّى بذلك على صِيام الفَرْض في شَهْر رَمضان، كما كُرِه للحاجِّ الصَّوم بعَرفة لِيتقوَّى بالإفطار على الدُّعاء(68).
واعْتُرِض على مَن قال: إنَّ النَّهي لِأَجْل التَّقوِّي على صِيام رَمضان والاسْتِجمام له، بأنَّه أَبْعَد، لأنَّ نِصف شَعبان إذا أَضْعف، كان كلُّ شَعبان أَحْرى أنْ يُضْعِف، وقد جَوَّز بعض العُلماء صِيام جَميع شَعبان(69).
الثَّاني: الجواز مُطْلقًا، لمن رأى ضُعف الحديث. قال ابن حجر: «وقال جُمْهور العُلماء: يجوز الصَّوْم تَطوُّعا بعد النِّصف مِن شَعبان، وضَعَّفوا الحديث الوارد فيه، وقال أحمد وابن مَعين: إنَّه مُنْكر»(70).
واعْتُرِض على هذا: بأنَّ الحديث إسناده صحيح على شرط مُسلم، وصحَّحه جَمْعٌ مِن أهل العِلم؛ منهم: التِّرمذي وابن حبَّان، واحتجَّ به ابن حزم، وقوَّاه ابن القيِّم، وصحَّحه الألباني(71).
ومِنهم مَن زَعم النَّسْخ، بحُجَّة أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كان يَصوم في النِّصف الثَّاني مِن شَعبان، فدلَّ ذلك على أنَّ ما رواه مَنسوخ(72).
ورَدَّ ذلك ابنُ حَزم، فقال: «ولا يَجُوز أنْ يُظنَّ بأبي هريرة مُخالفة ما روى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والظنُّ أَكْذب الحديث؛ فمَن ادَّعى ـ هاهنا ـ إجْماعًا فقد كَذَب… ومَن ادَّعى نَسْخًا في خبر العَلاء فقد كَذَب، وقَفَا ما لا عِلْم له به، وبالله تعالى نَتأيَّد»(73).
الثَّالث: جَواز صِيامه لمن كانت له عادة، أيْ: وافق ذلك صَوْمًا كان يَصومه المرْء قَبْل ذلك، و ليس النَّهي عن الصَّوْم ـ في هذا الحديث ـ نَهْيًا مُطلقًا(74).
ومِنهم مَن حَمل النَّهي الوارد في هذا الحديث على مَن يُضْعِفه الصَّوم(75) أو على مَن لم يَصِله بما قَبْله، أي: لم يَصُم قَبْل نِصف الشَّهْر(76).
قال التِّرمذي: «ومعنى هذا الحديث ـ عند بعض أهل العِلم ـ: أنْ يكون الرَّجُل مُفطِرًا، فإذا بقي مِن شَعبان شيء أَخَذ في الصَّوْم لحال شَهْر رَمضان. وقد رُوي عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يُشبِه قولهم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَقَدَّمُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِصِيَامٍ إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُم»، وقد دلَّ في هذا الحديث: أنَّما الكَراهيَّة على مَن يَتعمَّد الصِّيام لحال رَمضان»(77).
وقال ابن القيِّم رحمه الله: «قالوا: وأمَّا ظَنُّ مُعارَضته بالأحاديث الدَّالة على صِيام شَعبان، فلا مُعارضة بينهما، وإنَّ تلك الأحاديث تَدُلُّ على صَوْم نِصفه مع ما قَبْله، وعلى الصَّوم المُعتاد في النِّصف الثَّاني، وحديث العَلاَء يدُلُّ على المَنْع مِن تَعمُّد الصَّوم بعد النِّصف، لا لِعادة، ولا مُضافًا إلى ما قَبْله، ويَشهد له حديث التَّقدُّم»(78).
وقال ابن باز رحمه الله: «أمَّا الحديث الذي فيه النَّهي عن الصَّوم بعد انتصاف شعبان: فهو صحيح، كما قال الأخ العلاَّمة الشَّيخ ناصر الدِّين الألباني، والمراد به: النَّهي عن ابتداء الصَّوم بعد النِّصف، أمَّا مَن صام أَكْثر الشَّهْر، أو الشَّهر كلَّه: فقد أصاب السُّنَّة، والله وليُّ التَّوفيق»(79).
هذا ما أمكن جَمْعُه بهذه المُناسبة، فإنْ أَصبتُ فمِن الله وحده، وله الحمد والمنَّة، وإنْ كانتِ الأُخرى فمِن نَفْسي ومِن الشَّيطان، وأَسأل الله التَّجاوز والمغفرة، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.

* * *


(1) نُشر في مَوْقع «راية الإصلاح».

(2) أخرجه البخاري (2840)، ومسلم (1153) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه غير أنَّ رواية مسلم فيها: «بَاعَدَ» عِوَض: «بَعَّدَ».

(3) انظر: «جَمْهرة اللُّغة» لابن دُرَيْد الأَزْدي (1/344).

(4) انظر: «الزَّاهِر في معاني كلمات النَّاس» لأبي بكر الأَنْباري (2 /356).

(5) انظر: «لسان العرب» لابن مَنْظور (1/502).

(6) «تاج العَروس مِن جواهر القاموس» لمُرْتَضى الزَّبِيدي (3/142).

(7) «فتح الباري» (4/213).

(8) بل قال عنه الألباني رحمه الله: «مَوضوع». انظر: «ضعيف الجامع» (2061).

(9) أخرجه أحمد (6642)، قال مُحقِّقو «مُسند أحمد» (11/217): «حديث صحيح بشواهده».

(10) أخرجه ابن حِبّان (5665)، قال الألباني في «السِّلسلة الصَّحيحة» (3/135): «حديث صحيح، رُوي عن جماعة مِن الصَّحابة مِن طُرق مُخْتلفة، يَشُدُّ بعضها بعضا، وهم: مُعاذ ابن جَبل، وأَبو ثَعْلبة الخُشَني، وعبد الله بن عَمْرو، وأبو مُوسى الأَشْعري، وأبو هُرَيْرَة، وأبو بكر الصِّدِّيق، وعَوْف بن مالِك، وعائِشة» رضي الله تعالى عنهم جميعًا.

(11) أخرجه البيهقي في «السُّنن الكُبرى» (1426)، والطّبراني في «المُعجم الكبير»، و الحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع» (771).

(12) هكذا في الأَصْل، ولَعلّ الصَّواب: «أُتِي» بِدُون «واو».

(13) «السِّلسلة الصَّحيحة» (3/138 ـ 139).

(14) انظر: «النِّهاية في غريب الحديث و الأثر» لابن الأثير (2/449).

(15) قال الألباني في «السِّلسلة الضَّعيفة» (5/154): «موضوع السَّند».

(16) «مِرْقاة المفاتيح شَرْح مِشْكاة المصابيح» (3/976).

(17) «مِرْعاة المفاتيح شَرْح مِشْكاة المصابيح» (4/344).

(18) أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (1146).

(19) أخرجه مسلم (1146).

(20) أخرجه التّرمذي (783)، انظر: «إرواء الغليل» للألباني (944).

(21) قاله العَيْنيّ في «عُمْدة القاري شَرْح صحيح البخاري» (11/55 ـ 56).

(22) «تمام المِنَّة في التَّعليق على فِقه السُّنَّة» (ص 442).

(23) أخرجه أبو داود (2431)، انظر: «صحيح الجامع» (4628).

(24) أخرجه مسلم (1163) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(25) انظر: «عَوْن المَعْبود شَرْح سُنن أبي داود» للعظيم آبادي (7/60).

(26) «شَرْح مسلم» (8/55).

(27) انظر: «شَرْح مسلم» للنَّووي (8/37)، و«سُبُل السَّلام» للصَّنْعاني (1/583).

(28) أخرجه البخاري (1969)، ومسلم (1156).

(29) أخرجه البخاري (1970).

(30) أخرجه مسلم (1156).

(31) أخرجه التّرمذي (737)، انظر: «صحيح التَّرغيب والتَّرهيب» للألباني (1024).

(32) انظر: «شَرْح الزَّرْقاني على المُوطَّأ» (2/290).

(33) انظر: «جامع التِّرمذي» (3/105).

(34) انظر: «نَيْل الأوطار» للشَّوكاني ( 4/291).

(35) انظر: «فَتْح الباري» لابن حجر ( 4/214).

(36) «فتح الباري» ( 4/214).

(37) أخرجه مسلم (1156).

(38) أخرجه عبد الرّزاق في «المُصنَّف» (7859)، انظر: «صحيح أبي داود الأم» للألباني (7/194).

(39) أخرجه مسلم (1156).

(40) انظر: «شَرْح الزَّرْقاني على المُوطَّأ» (2/291).

(41) أخرجه أبو داود (2336)، انظر: «صحيح سُنن أبي داود» للألباني (2024).

(42) أخرجه التِّرمذي (736)، والنَّسائي (2175)، انظر: «صحيح التَّرغيب» للألباني (1025).

(43) أخرجه ابن ماجه (1649)، انظر: «صحيح ابن ماجه» للألباني (1648).

(44) «المُنْتقى شَرْح المُوطَّأ» ( 2/206).

(45) «نَيْل الأوطار» (4/229).

(46) أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082).

(47) أخرجه النَّسائي (2357)، انظر: «صحيح التَّرغيب والتَّرهيب» للألباني (1022).

(48) أخرجه التَّرمذي (747)، انظر: «صحيح الجامع الصَّغير» (2959).

(49) انظر: «صحيح الجامع الصَّغير» (1583).

(50) انظر: «مِرْقاة المفاتيح شَرْح مِشْكاة المصابيح» لعلي القاري (4/1422).

(51) انظر: «مِرْعاة المفاتيح شَرْح مِشْكاة المصابيح» للمُباركفوري (4/338).

(52) أخرجه مسلم (179) عن أبي موسى الأشعري ت.

(53) «حاشية السِّنْدي على سُنن النَّسائي» (4/203).

(54) انظر: «شَرْح الزَّرقاني على المُوطأ» (2 /289) و«كَشف المشكل مِن حديث الصَّحيحين» لابن الجوزي (4/353).

(55) جزء مِن حديث: أخرجه التِّرمذي (2485)، وابن ماجه (1334) عن عبد الله بن سَلام رضي الله عنه انظر: «السِّلسلة الصَّحيحة» للألباني (569).

(56) أخرجه البخاري (1983)، ومسلم (1161).

(57) انظر: «شَرْح مسلم» للنَّووي (8/53) و«كَشْف المشكل من حديث الصَّحيحين» لابن الجوزي (1/475).

(58) انظر: «مِرْعاة المفاتيح شَرْح مِشْكاة المصابيح» للمُباركفوري (7/42).

(59) انظر: «شرح مسلم» للسُّيوطي (3/250).

(60) رواه البخاري (1914)، ومسلم (1082) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.

(61) انظر: «فتح الباري» (4/129).

(62) أخرجه أبو داود (2334)، والتِّرمذي (686)، والنَّسائي (2188)، وابن ماجه (1645)، انظر: «صحيح سُنن أبي داود الأُم» (2022).

(63) «شَرْح سُنن أبي داود» (14/267).

(64) أخرجه أبو داود (2337)، انظر: «صحيح سُنن أبي داود الأُم» (2025).

(65) أخرجه التِّرمذي (738)، انظر: «صحيح الجامع» (397).

(66) أخرجه ابن ماجه (1651)، انظر: «مِشكاة المصابيح» للألباني (1974).

(67) انظر: «عُمْدة القاري» للعَيْني (10/273).

(68) انظر: «معالم السُّنن» للخَطَّابي (2/100).

(69) انظر: «عَون المعبود» للعظيم آبادي (6/331).

(70) «فتح الباري» (4/129).

(71) انظر: «المحلَّى بالآثار» لابن حزم (4/448) حيث قال: «وكُلُّهم يَحْتجُّ بحَديثه، فلا يَضرُّه غَمْز ابن مَعين له»، وانظر: «سُنن التِّرمذي» (3/106) و«حاشية سُنن أبي داود» لابن القيِّم (6/331) و«صحيح أبي داود الأم» (2025) و«صحيح الجامع الصَّغير» (397) كِلاهما للألباني.

(72) انظر: «عُمدة القاري» للعَيْني (11/85).

(73) «المحلَّى بالآثار» (4/448 ـ 449).

(74) انظر: «صحيح ابن خزيمة» (3/282) و«فتح الباري» لابن حجر (4/215) و«نيل الأوطار» للشُّوكاني (4/292) و«مِرْعاة المفاتيح شَرْح مِشكاة المصابيح» (4/344) للمُباركفوري.

(75) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (4/129).

(76) انظر: «مِرْعاة المفاتيح» للمُباركفوري (6/344).

(77) «جامع التِّرمذي» (3/106).

(78) «حاشية السُّنن» (6/331).

(79) «مجموع فتاوى ابن باز» (15/385).

نقلا موقع راية الإصلاح .

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته,وبعد:

[مطوية] شهر شعبان……..حكم و أحكام
للشيخ نجيب جلواح – حفظه الله –

القعدة

القعدة
https://www.ajurry.com/vb/attachment….9&d=1401919179

جزاك الله خيرا
شكرا لك اخي
بارك الله لك
جزاك الله خيرا

القعدة

القعدة اقتباس القعدة
القعدة
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة melek2020 القعدة
القعدة
القعدة
شكرا لك اخي
بارك الله لك
القعدة القعدة

العفو أخي مالك.

القعدة اقتباس القعدة
القعدة
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حكيك القعدة
القعدة
القعدة
جزاك الله خيرا

القعدة

القعدة القعدة

و اياك بارك الله فيك.
فكرة طيبة وضع تعليقات تحمل في طياتها أحاديث النبي عليه الصلاة و السلام و في هذا تذكير ببعض ما جاء في الموضوع.

القعدة اقتباس القعدة
القعدة
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة houssiiine القعدة
القعدة
القعدة
جزاك الله خيرا
القعدة القعدة

و اياك أخي الكريم.

العلاّمة الفاضل سيدي محمد بن عبد الرحمن الديسي ببوسعادة 2024.

هو العلاَّمـة المفسر المحدث المتكلم الأصولي الفقيه الصوفي اللغوي النحوي الأديب الشاعر الناثر المجتهد الكبير المؤلف الشهير خاتمة المحققين بشمال إفريقيا بلا منازع الشيخ سيدي محمد بن عبد الرحمن من سلالة الولي الصالح و الشريف الحسني سيدي إبراهيم من قرية الديس قرب مدينة بوسعادة بالجنوب الجزائري.
ولد سنة 1270 هـ بقرية الديس ، و توفي يوم 22 ذي الحجة عام 1339 هـ ذاق مرارة اليتم منذ صباه إذ توفي والده و تركه صغيرا، فتربى في حجر والدته وجدته، و في السنة الرابعة من عمره أدخل الكتاب لحفظ القرآن الكريم، و لما وصل إلى سورة الجن أصيب بمرض الجدري فأفقده عينيه، و استمر على الرغم من ذلك على قراءة القرآن إلى أن حفظه و أتقن أحكامه على أيدي علماء القرية و شرع بعد ذلك في تلقي المبادئ العلمية على يد عالم الديس و صالحها الشيخ سيدي أبي القاسم بن سيدي إبراهيم والد الشيخ الحفناوي مفتي المالكية بالجزائر في بداية القرن العشرين، ثم انتقل بعد ذلك إلى زاوية الشيخ السعيد بن أبي داود بجبل زواوة في عصر سيدي محمد الطيب بن أبي داود، أخذ عن رجالها الفقه و النحو والتوحيد والفلك، ثم قصد قسنطينة و حضر دروس الشيخ حمدان الونيسي، و لم تطل إقامته بها، و عاد إلى قريته الديس، و لازم حفظ المتون فحفظ نحو الخمسين متنا ذكرها الشيخ محمد بن الحاج محمد في ترجمته له بالزهر الباسم، و منها قصد زاوية الشيخ سيدي محمد بن أبي القاسم بالهامل، و ذلك سنة 1296 هـ = 1878 م و كان له من العمر أربع و عشرون عاما، فأخذ عن الأستاذ الأكبر علوم التفسير و الحديث والتصوف و بعض علوم العربية، و لقنه الأستاذ الكبر الورد و ألزمه لما رأى فيه من النبوغ بمجاورة الزاوية لإفادة الطلبة بمعلوماته و للاستفادة من العلماء الوافدين على الزاوية في ذلك العهد الزاهر، و قد صدقت فراسة الشيخ سيدي محمد بن أبي القاسم فيما ارتآه للأستاذ المترجم له، إذ قد ازدادت بهذه المجاورة معلوماته اتساعا بواسطة الإدمان على الدرس والمطالعة و توفر الكتب اللازمة بالزاوية و مراجعة بعض الأعلام الوافدين عليها منهم الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز و الشيخ عبد الحي الكتاني، و تخرج على يديه المئات من الطلبة و الأساتذة و الفقهاء.
عرف الشيخ بن عبد الرحمن بقوة حافظته، فقد كان يحفظ ما يزيد على مائة بيت في اليوم الواحد، و قد كان يحفظ معظم المتون المتداولة و المعروفة آنذاك مثل مختصر خليل، جمع الجوامع، الألفية، الأجرومية، الدرة البيضاء …
كما عرف بسرعة فهمه و إدراكه، إذ كان يستوعب جميع ما في الكتب التي درسها و طالعها، حتى أنه لا يحتاج إلى إعادة النظر فيها مرة ثانية. كما كان شغوفا رضي الله عنه بالمجالس العلمية و البحوث، فكانت مجالسه كلها عبارة عن مناقشات ومباحثات و مدارسات لا تخلو من فائدة، و كانت دروسه عبارة عن مناظرات علمية بحتة مما حبب ذلك إلى نفوس الطلبة و اكتسبت دروسه بذلك شهرة واسعة لدى الأوساط العلمية.
اتصل به الشيخ سيدي محمد بن الحاج محمد و الشيخ سيدي المختار بن الحاج محمد فكانا لا يفارقانه إلا عند الضروريات دائبين معه على الدراسة و المطالعة، حتى حصل لهما علوما جمة صارا بها في أعلى طبقات العلماء.
و شاركهما في الأخذ عنه المشائخ: سيدي بلقاسم، سيدي إبراهيم، سيدي أحمد، كما أخذ عنه بعدهم الشيخ مصطفى بن سيدي محمد، و كذلك الشيخ المكي والشيخ بنعزوز ابني الشيخ سيدي الحاج المختار، فلازماه و أخذا عنه و حصلا من العلوم ما صارا به من المحققين كأبيهما، و قد تولى كل من أبناء الزاوية المذكورين التدريس بحضرته و نشروا أعلام العلم على الزاوية و كان يفتخر بهم. و قد تخرج عليه رحمه الله من غير أبناء الزاوية طلبة أخيار، ساهموا في الحفاظ على الدين و اللغة و المبادئ الإسلامية و التصدي لكل أشكال الغزو الثقافي و الفكري الذين كانت فرنسا تمارسهما على أبناء هذا الشعب الأبي .
كـان رضي الله عنه جبل علم مناظرا محاججا، غيورا على الأولياء محبا فيهم، ينافح عنهم و ينتصر لهم، أقر له بالرسوخ في العلم من عاصره من أفاضل العلماء كالشيخ محمد المكي بن عزوز، الشيخ أحمد الأمين، الشيخ عبد الحي الكتاني و كان يلقبه بـ" الشمس "، الشيخ الحفناوي الديسي و غيرهم كثيرون.
و كان له اعتناء بمطالعة فتح الباري و عمدة القاري و إرشاد الساري و الزرقاني على المواهب، ملازم في الفقه لمجموع المحقق الأمير.
و لـه مع الشيخ سيدي محمد المكي بن عزوز محاضرات أدبية و معارضات شعرية أيام إقامته بالزاوية الهاملية، التي كان يقيم بها الأشهر قبل انتقاله إلى القسطنطينية.
لم يترك رضي الله عنه التدريس في كل وقت و زمن، و له محبة فيمن يقرأ عليه يحرضهم على اغتنام وقته ويواسيهم بقصد الاستعانة على التعلم، لاسيما في شهر رمضان. و كان لـه في آخر عمره ميل إلى التصوف ويكثر بكاؤه خصوصا عند ذكـر تلميذيه و خليليه و أنيسيه الشيخ سيدي محمد و الشيخ سيدي الحاج المختار.
و قد أشار إلى ترجمته الشيخ عبد الحي الكتاني في كتابه فهرس الفهارس بقوله: " فخر القطر الجزائري ونادرته الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي، و كان هذا الرجل الباقعة النادرة حجة في الأدب و التصوف والمعقول و المنقول، مع ذهاب بصره وبلوغه في السن عتيا، مجلسه لا يمل حافظ واعية و نفس أبية، كنت أجد نفسي معه في زاوية الهامل عام 1339 هـ كأني في المدرسة النظامية، بحث شائق مستمر و علم صاف مغدق ومصافاة و مودة لا تمل و لا تنسى" .
و وصفه الشيخ سيدي محمد بن الحاج محمد فقال: " كان أوحد زمانه و فريد عصره و أوانه، يحب الخمول و يكره المحمدة و الظهور، لين الجانب، صبورا غيورا على الدين، صاحب حزم و اجتهاد، و منذ خلق ما نطق بفحش، و لا ضبطنا عنه ساعة هو غافل فيها عن دينه".
كذا ترجم له الشيخ أبو القاسم الحفناوي في كتابه " تعريف الخلف برجال السلف " و الأستاذ محمد علي دبوز في كتابه "نهضة الجزائر و ثورتها المباركة ".
توفي رضي الله عنه في زاوية الهامل يوم 22 ذي الحجة 1339 هـ و عمره تسع وستون سنة، ودفن داخل القبة التي في المسجد بين تلميذيه و حبيبيه الشيخ سيدي محمد و الشيخ سيدي الحاج المختار.

مؤلفاته:

1 ـ فوز الغانم، في شرح ورد الشيخ سيدي محمد بن أبي القاسم " الأسمائية " طبع بالمطبعة الرسمية بتونس. 2 ـ الزهرة المقتطفة، و هو نظم في اللغة شرحه بشرح أسماه " القهوة المرتشفة" وجعل على الشرح حاشية سماها " الحديقة المزخرفة ". 3 ـ عقد الجيد، منظومة في العقائد و شرحها بشرح سماه " الموجز المفيد ". 4 ـ العقيدة الفريدة، منظومة أيضا في العقائد مختصرة شرحها الشيخ الكافي التونسي، مطبوعة بتونس. 5 ـ البديعية، منظومة رجزية ضمنها مدح شيخه الأستاذ الأكبر، و شرحها بشرح سماه " تحفة الإخوان ". 6 ـ المشرب الراوي على منظومة الشبراوي، في النحو. 7 ـ سلم الوصول، و هو نظم الورقات في الأصول، و شرحه بشرح سماه " النصح المبذول ". 8 ـ توهين القول المتين، في الرد على الشماخي الإباضي، مطبوع بالجزائر . 9 ـ مقامة المفاخرة بين العلم و الجهل، و شرحها بشرح سماه " بذل الكرامة لقراء المقامة "، مطبوع. 11 ـ إبراز الدقائق على كنوز الحقائق، و هو شرح على كنوز الحقائق في الحديث للمناوي. 12 ـ تنوير الألباب بشرح أحاديث الشهاب، 13 ـ شرح على الصلاة المشيشية. 14 ـ شرح على المنظومة الدالية، في مدح الشيخ محمد بن أبي القاسم . 15 ـ إفحام الطاعن برد المطاعن. 16 ـ الكلمات الشافية، و هو شرح على العقيدة الشعيبية من نظم الشيخ شعيب قاضي تلمسان، مطبوع . 17 ـ جواهر الفوائد و زواهر الفرائد، كتاب في الأدب جمع فيه من كل شيء . 18 ـ نصيحة الإخوان و إرشاد الحيران. 19 ـ رشح بقطره في مسائل الهجره. 21 ـ النصيحة الكافية لطلاب الأمن و العافية. 22 ـ الساجور للعادي العقور . 23 ـ تحفة المحبين المهتدين و تذكرة المتيقظين المقتدين بشرح أبيات القطب الأكبر محي الدين، و هو شرح أبيات تطهر بماء الغيب إن كنت ذا سر. 24 ـ رسالة تفضيل البادية بالأدلة الواضحة البادية. 25 ـ رسالة القصد في الفصد. 26 ـ رسالة في نسب سيدي نايل . 27 ـ ديوان منة الحنان المنان، و هو ديوان يشتمل على أكثر من أربعة آلاف بيت، في أغراض مختلفة: المدائح النبوية، المنظومات الفقهية و النحوية، مدح الشيخ الأكبر ، التهاني، المراثي، الاجازات…و غيرها. 10 ـ رفع النقاب عن شبهة بعض المعاصرين من الطلاب، في الدفاع عن الشيخ سيدي محمد بن أبي القاسم طبع بالمطبعة الرسمية بتونس . 20 ـ هدم منار الإشراف، في الرد على الشيخ عاشور الخنقي. مطبوع.

في حكم رقية العجماوات والجمادات :: للشيخ الفاضل أبي عبد المعِزّ مُحمَّد عَلي فَركوس 2024.

.:: في حكم رقية العجماوات والجمادات ::.
للشّيخ الفَاضِل أبي عَبدِ المعِزّ مُحمَّد عَلي فَركُوس – حفظه الله –


السؤال:
هل الرقية خاصَّةٌ بالآدميِّين أو عامَّةٌ؟ وهل تصحُّ الرقية أو الدعاء للعجماوات والجمادات خشية العين ؟

الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فليست الرقية خاصَّةً بالآدميِّين، بل هي عامَّةٌ تصلح للآدميِّ ولغيره، فقد روى ابن أبي شيبةَ في «الدعاء»: «الدَّابَّةُ يصيبها الشيء بأيِّ شيءٍ تُعَوَّذُ به» عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا: «…وَانْفُثْ فِي مِنْخَرِهِ الأَيْمَنِ أَرْبَعًا، وَفِي الأَيْسَرِ ثَلاَثًا، وَقُلْ: لاَ بَأْسَ، أَذْهِبِ البَأْسَ، رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ يَكْشِفُ الضُّرَّ إِلاَّ أَنْتَ»(١).
قال الشوكاني: «يُحتمل أن يكون قال ذلك لشيءٍ سمعه من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأن يكون قاله اعتمادًا على التجريب وقع له، أو لمن في عصره من العرب أو لمن قبلهم، فقد كان للعرب رقًى يرقون بها مختلفةٌ مُتعدِّدةٌ، ولا يخفاك أنَّ الرقية الثابتةَ عن رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم في العين ليست بخاصَّةٍ في بني آدم، بل ثابتةٌ لكلِّ مَن أصابته العينُ من آدميٍّ أو غيرِه»(٢).
قلت: ويؤيِّد مشروعيةَ الدعاء للعجماوات، ما صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً أَوِ اشْتَرَى خَادِمًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا اشْتَرَى بَعِيرًا فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ»(٣).
وقد ذكر ابن القيِّم قصَّة الناقة المعيونة، التي عولجت برقية العين(٤).
هذا، والجمادات هي الأخرى تتأثَّر بالوحي المنزَّل بما يعلمه الخالق ولا يدركه الخلق إلا لمن يشاء الله، فمن ذلك قولُه تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ [البقرة: 74]، فهي خشيةٌ بإدراكٍ لا يعلمه إلا الله تعالى، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ﴾ [الأحزاب: 72]، ففيه تصريحٌ بأنَّ هذه الجماداتِ تأبى وتخاف بإرادةٍ وإدراكٍ يعلمه الله تعالى، ومن الأحاديث الدالَّة على تأثُّر الجمادات حنينُ الجِذع الذي كان يخطب عليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جَزَعًا لفراقه(٥)، وتسليمُ الحجر على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم(٦)، وقد صرَّح الله تعالى بمثله في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: 27 رجـب 1445ﻫ
المـوافق ﻟ: 29 جـوان 2024م
ـــــــــــــــــــــــ
١- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (6/51) رقم: (29380).
٢- «تحفة الذاكرين» للشوكاني (265).
٣- أخرجه أبو داود في «النكاح» باب في جامع النكاح (2160)، وابن ماجه في «التجارات» باب شراء الرقيق (2252)، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، وحسَّنه الألباني في «صحيح أبي داود» (1876).
٤- «زاد المعاد» لابن القيم (4/174).
٥- أخرجه البخاري في «البيوع» باب النجَّار (2095)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
٦- أخرجه مسلم في «الفضائل» (2277)، من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.

جزاك الله خيرا
شكراا اخى
وجزاكم الله خيراا
بارك الله فيك.
حدث لي و أن رقيت المعالج الدقيق للحسوب (microprocesseur)، بعد أن توقف، و أنا أمام صديقي المهندس المتخصص في الاعلام الألي، و بالذات في تصليح العتاد، و كان يبدوا له و أنه احترق و انتهى أمره، لكن شاء الله أن يستأنف العمل بثواني بعد رقيته، والله على شيئ قدير، و هو عند حسن ظن عبده به، كما شهدت ذلك في سيارتي بعد أن توقفت كليتا من غير سابق انذار و لا ظهور عطب واضح، فبادر أحد الاخوة رقيتها عند المحرك، فشاء الله أن ترجع الى أصل ما كانت عليه من العمل الجيد، و يذكر الشيخ عطية سالم رقية بعض الدواب وعلى ما أظن عند تفسير سورة المعوذتين من كتاب أضواء البيان، ان يسر الله نقلت كلامه.

لعله لو يطالع أحد العلمانين هذا المقال الحاوي لفتوى أحد أعلام الاسلام، و على ما ذكرته من الأمثلة لرماني بالعته و الجنون، لكن يقني في الله و حسن ظني به يجعلني أترفع عن أن أجيب أهل السفه، كما حدثي معي عند ذكر القصة الأولى يوم أن كنت طالبا في الصف الخامس من دراستي في الجامعة، حينها كان الأمر مثير للضحك و جالبا للعجب من عقل يكفر هكذا تفكير، لكن من عرف ربه، و علم دينه، رُزق اليقين.

::: هَــذه دَعــوَتُنَــا ::: للشيخ الفاضل عبد المجيد جمعة. 2024.

بسم الله الرحمن الرحيم.

::: هَــذه دَعــوَتُنَــا :::

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإنَّ الدعوة إلى دين الإسلام وظيفة الرسل وأتباعهم، وإنَّ الرسل لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، وإنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قاموا بتبليغ ما أمروا به لأممهم وبينوا الشرائع أتم البيان، واقتفى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم سبيلهم في ذلك فأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وترك أمته على محجة بيضاء ليلها ونهارها سواء، واتبعه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فبلغ الشاهد الغائب، حتى وصلنا هذا الدين غضًّا طريًّا.
فلزم حماة الدين وأتباع الرسل الدعوة إليه والعمل على نشره وتبليغه؛ إذ هو الميراث الذي ورثوه، ودعوتهم إلى الدين مبنية على أصول نطق بها الكتاب وجاءت بها السنة وعمل بها الصحابة الكرام ومَن جاء بعدهم من أئمة الهدى، وقد بُنيت على قواعد وأصول كفيلة بتحقيق الوصول إلى غاية المأمول، وهي:

أوَّلاً: الاِعتِصَامُ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالىَ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلَّم:

لأنَّهما سبيل الهدى، والعُروة الوثقى؛ من استمسك بها فقد اهتدى، ومن أعرض عنها فقد ضلَّ وغوى، وخاب وهوى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً﴾ [النساء: 59]، قال عطاء في قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم﴾ قال: "أولي الفِقه وأولي العِلم، وطاعةُ الرَّسول اتِّباعُ الكتاب والسُّنَّة". وقال مجاهد: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم﴾ قال: أهل العِلم وأهل الفِقه، ﴿فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ قال: كتابُ الله وسنَّة نبيِّه، ولا تردُّوا إلى أولي الأمر شيئًا"([1]).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم : " تَركتُ فِيكُم شَيئَينِ، لَن تَضِلُّوا بَعدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَن يَتَفَرَّقَا حَتىَّ يَرِدَا عَلَيَّ الحَوضَ "([2]).

ثانيًا: التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَالاِقتِدَاءُ بِهِم وَاتِّبَاعُ سَبِيلِهِم.
وذلك لما خصَّهم اللهُ جلَّ وعلا به من فصاحة اللِّسان، وصفاء الأذهان، وقوَّة البيان، ومُعايَشة القرآن، ومُصاحبَة سيِّد ولَد عدنان صلى الله عليه وسلم، وحماية شرائِع الإيمان. فمنهجهم أَقوم، ورأيُهم أسلَم، وفهمُهم أَحكم، وهم بِمُراد اللهِ ورسولِه أَعلم.
قال عزَّ وجلَّ: ﴿اِهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم﴾، قال عبد الرَّحمن بن زَيد: "النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ومن معه"([3]).
وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِع غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَت مَصِيرًا﴾ [النساء: 115]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجرِي تَحتَهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ﴾ [التوبة: 100].
وروى ابنُ مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَيرُ النَّاسِ قَرنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم …"([4])، وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه: "مَن كان منكم مُستَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بمن قد مات؛ فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَن عليه الفِتنةُ، أولئك أصحاب محمَّد غ كانوا أفضلَ هذه الأمَّة، وأبرَّها قلوبًا، وأعمَقَها عِلمًا، وأقلَّها تَكلُّفًا، قَومٌ اختارهم الله لصُحبة نبيِّه وإقامة دينِه، فاعرِفُوا لهم فضلَهم، واتَّبِعوهم في آثارهم، وتمسَّكوا بما استطعتم من أخلاقِهم ودينِهم، فإنَّهم كانوا على الهدى المستقِيم".
وقال أيضًا: "إنَّ الله نظَر إلى قلوب العباد فوجَد قلب محمَّد صلى الله عليه وسلم خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتَعثَهُ برسالة، ثمَّ نظر إلى قلوب العباد بعد محمَّد فوجد قلوب أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وُزَرَاء نبيِّه؛ يقاتِلون على دينِه، فما رَأَى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنٌ، وما رَأَوه سيِّئًا فهو عند الله سيِّءٌ"([5]).

ثالثًا: العَمَلُ عَلَى جمَعِ كَلِمَةِ المُسلِمِينِ وَتَوحِيدِ أَفكَارِهِم عَلَى هَذَا الهَديِ المُستَقِيمِ وَالمَنهَجِ القَوِيمِ.

قال الله ﻷ: ﴿وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ إِنَّ مَن قَبلَكُم مِن أَهلِ الكِتَابِ افتَرَقُوا عَلَى ثِنتَينِ وَسَبعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ المِلَّةَ سَتَفتَرِقُ عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبعِينَ؛ ثِنتَانِ وَسَبعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الجَنَّةِ، وَهِيَ الجَمَاعَةُُ"([6]).

رابعًا: تَبنِّي مَنهَجِ الإِصلاَحِ فِي الدَّعوَةِ إِلىَ اللهِ جَلَّ وَعَلاَ بَعِيدًا عَنِ المُستَهتَرَاتِ السِّياسيَّة ومَضايِقِ الحِزبِيَّةِ.
ـ إصلاح الدِّين وتصفيته ممَّا لابسه من البِدع والضَّلالات.
ـ إصلاح التَّوحيد وتنقيته ممَّا شابه من الشِّرك والخرافات.
ـ إصلاح النُّفوس وتزكيتها ممَّا شانها من الانحرافات والمهلِكات.
ـ إصلاح العِلم وتطهيره ممَّا لبسه من الأوهام والخيالات، قال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا استَطَعتُ) [هود: 88].

خامسًا: العِنَايَةُ بِالعِلمِ وَنَشرُهُ وَبَثُّهُ وَتَعظِيمُ حَمَلَتِهِ وَرِجَالِهِ، وَالحَثُّ عَلَى طَلَبِهِ وَتَحصِيلِهِ، وَتَيسِيرُ طُرُقِهِ، وَمُحَارَبَةُ الجَهلِ المُخَيِّمِ بِكَلاَكِلِهِ عَلَى البِلاَدِ، المُعَشِّشِ بخُيُوطِهِ عَلَى عُقُولِ العِبَادِ.
قال ابنُ القيِّم : في "إعلام الموقعين" (2/ 238): "… ولم يُوجِب الله سبحانه من ذلك على الأمَّة إلاَّ بما فيه حِفظ دينها ودُنياها وصلاحها في مَعاشها ومَعادها، وبإهمالها ذلك تَضِيع مصالحُها وتفسُد أمورُها، فما خَراب العالَـم إلاَّ بالجهل، ولا عمارته إلاَّ بالعلم، وإذا ظهر العلم في بَلد أو مَحَلَّة، قلَّ الشَّرُّ في أهلها، وإذا خَفي العلم هناك ظَهر الشَّرُّ والفساد، ومن لم يعرف هذا فهو ممَّن لم يجعل الله له نورًا، قال الإمام أحمد: "ولولا العلم كان النَّاس كالبهائم"، وقال: "النَّاس أَحوج إلى العلم منهم إلى الطَّعام والشَّراب، لأنَّ الطَّعام والشَّراب يُحتاج إليه في اليوم مرَّتين أو ثَلاثًا، والعِلم يُحتاج إليه في كلِّ وقت".اهـ

سادسًا: الدَّعوَةُ إِلَى إِبقَاءِ بَابِ الاِجتِهَادِ مَفتُوحًا([7])فيِ مَسَائِلِ النَّوَازِلِ، بِشُرُوطِهِ وَضَوَابِطِهِ، وَنَبذِ التَّعَصُّبِ المذهَبِيِّ، وَالتَّقلِيدِ الأَعمَى لِلأئِمَّةِ، فِي ظِلِّ احتِرَامِهِم وَتَقدِيرِهِم وَمَعرِفَةِ فَضلِهِم وَحُقُوقِهِم وَمَرَاتِبِهم.
قال العلاَّمة البَشير الإبراهيميُّ رحمه الله: "…وقد استَحدث العِمران أنواعًا جديدة من المعاملات الدُّنيويَّة لا عَهدَ للإسلام الفِطريِّ بها، وصُوَرًا شتَّى من المعايِش ووُجوه الكَسب، لم تَكن معروفةً، فمِن سماحة التَّشريع الإسلاميِّ ومُرونَته أن تُتَناولَ هذه المستَحدَثات الجدِيدة بأنظار جدِيدةٍ، وتُستَنبَط مِن أُصولِه أحكامٌ لفُروعِها، وكلُّ هذِه لا حَرج فيه، وليس داخلاً فيما نَشكوه، بل نحن أوَّلُ من يَقدِرُ قَدرَ تِلك الأنظار الصَّائِبة والمدارِك الرَّقيَّة، ويُقيمها دليلاً على اتِّساع التَّشريع الإسلاميِّ لمصالح النَّاس، وصلاحيَّته لجميع الأزمنة، ويُنكر على من سَدَّ هذا الباب على الأُمَّة، فزَهَّدَها في استِجماع وسائِله، ونحن أوَّل من يَقدِرُ قَدرَ أُولِئك الأَئِمَّة العِظام الَّذين هم مفاخِر الإسلام.
والمذاهِب الفِقهيَّة في حدِّ ذاتها ليست الَّتي فرَّقت المسلِمين، وليس أصحابُها هم الَّذين أَلزَموا النَّاس بها أو فَرَضوا على الأُمَّة تقلِيدَهم، فحَاشَاهُم من هذا، بل نَصحُوا وبَلَغُوا الجهد في الإبلاغ، وحَكَّمُوا الدَّليل ما وجدوا إلى ذلِك السَّبيلَ، وأَتَوا بِالغَرائِب في باب الاستِنباط والتَّعليل، والتَّفرِيع والتَّأصِيل، ولهم في باب استِخراج عِلَل الأَحكَام، وبناء الفُرُوع على الأصول، وجَمع الأَشباهِ بالأَشبَاهِ، والاِحتِياط ومُراعاة المصَالح ما فَاقُوا به المتَشَرِّعِين في جميع الأُمَم.
وإنَّما الَّذي نَعُدُّه في أسباب تَفرُّق المسلِمين هُوَ هذِه العصبيَّة العَميَاء الَّتي حَدثَت بعدَهم لِلمذاهِب والَّتي نَعتقِد أنَّهم لو بُعِثوا من جديد إلى هذا العالمَ لأنكروها على أتباعهم ومُقَلِّدِيهم، وتبرَّأوا إلى الله منهم ومنها، لأنَّها ليست من الدِّين الَّذي ائتُمِنوا عليه، ولا من العِلم الَّذي وَسَّعوا دائِرَتَه.
وكيف يَرضَون هذِه العصبيَّة الرَّعناء ويُقِرُّون عليها مُقلِّدِيهم، ومن آثارها فيهم جَعلُ كلام غيرِ المعصُوم أَصلاً وكلامِ اللهِ ورسولِهِ فَرعًا يُذكَر للتَّقوِية والتَّأيِيد إن وَافَق، فإِن خالَف أُرغِم بالتَّأويل حتَّى يُوافِق، وهذا شرُّ ما بَلَغته العصبيَّةُ بأهلِها.
ومن آثارها فِيهم معرفَة الحقِّ بالرِّجال، ومن آثارها فيهم اعتِبَار المخالِف في المذهَب كالمخالِف في الدِّين يختلف في إمامَتِه ومُصاهرَتِه وذَكاتِه وشَهادتِه إلى غير ذلك ممَّا نَعُدُّ منه ولا نُعَدِّدُه.
وقد طَغَت شُرور العصبيَّة للمذاهِب الفِقهيَّة في جميع الأقطار الإسلاميَّة، وكان لها أَسوأُ الأَثَر في تَفرِيق كلِمة المسلِمين، وأنَّ في وجه التَّاريخ منها.
أمَّا آثارها في العلوم الإسلاميَّة فإنَّها لا تمدُّها إلاَّ بنَوع سخِيف من الجدل المكابِر، لا يُسمِن ولا يُغنِي مِن جُوع، ولا عَاصِم مِن شُرور هذه العصبيَّة إلاَّ صَرفُ النَّاشِئَة إلى تعلِيمٍ فِقهيٍّ بِسَنَدٍ على الاستِقلال في الاستِدلال، وإِعدادِها لبُلُوغ مراتِبِ الكَمال، وعَدم التَّحجِير علَيها في استِخدام مَواهِبِها إلى أَقصى حَدٍّ).اهـ([8]).

سابعًا: البَدَاءَةُ بِالأَهَمِّ فَالأَهَمِّ وَمُرَاعَاةُ أُُصُولِ الشَّرعِ وَقَوَاعِدِهِ، وَمَصَالِحِهِ وَمَقَاصِدِهِ، عملاً بالقاعِدة العَظِيمة مِن قواعِد الإِسلام في بِناء الأَحكام وتحقِيق مصالح الأنام، وتَميِيز الحلال عن الحرام: (دَرءُ المفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلبِ المَصَالِحِ) و(تَحصِيلُ أَعلَى المصلَحَتَينِ وَإِن فَاتَت أَدنَاهُمَا، وَدَفعُ أَعلَى المفسَدَتَينِ وَإِن وَقَعَ أَدنَاهُمَا).
قال العَلاَّمة ابنُ القيم : في "***** دار السَّعادة" (2/ 362 ـ 363 علي): "فإذا تأمَّلت شرائِع دينِه الَّتي وضعها بين عباده، وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالِصَة أو الرَّاجِحة بحسَب الإمكان، وإن تزاحمت قُدِّم أهمُّها وأجلُّها وإن فاتَت أدناهما، وتَعطِيل المفاسِد الخالِصَة أو الرَّاجِحة بحسَب الإِمكان، وإن تزاحمت عُطِّل أعظمُهُما فسادًا، باحتِمال أدناهما، وعلى هذا وَضَعَ أَحكَمُ الحاكِمِين شرائِعَ دِينِه دالَّةً علَيه، شاهِدَة له بكمال عِلمِه وحِكمَتِه، ولُطفِه لعباده، وإِحسانِه إِليهم، وهذِه الجُملة لا يستَرِيب فيها مَن له ذَوقٌ من الشَّريعَة، وارتَضَع من ثَديِها، ووَرَد من صَفوِ حَوضِها، وكلَّما كان تَضَلُّعه منها أعظمَ كان شُهُوده لمحاسنِها ومصالحِها أكملَ، ولا يُمَكِّن أحدًا من الفُقَهاء أن يتكلَّم في مأخذ الأحكام وعِلَلها والأوصاف المؤثِّرَة فيها حقًّا وفَرقًا إلاَّ على هذِه الطَّريقة" اهـ.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم لما بَعث مُعاذًا إلى اليَمن قال له: "إنَّكَ تَأتِي قَومًا مِن أَهلِ الكِتَابِ، فَليَكُن أَوَّلَ مَا تَدعُوهُم إِلَيه شَهَادَة أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِن هُم أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعلِمهُم أَنَّ اللهَ افتَرَضَ عَلَيهِم خَمسَ صَلَوَاتٍ فيِ كُلِّ يَومٍ وَلَيلَةٍ، فَإِن هُم أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعلِمهُم أَنَّ اللهَ افتَرَضَ عَلَيهِم صَدَقَةً تُؤخَذُ مِن أَغنِيائِهِم فَتُرَدُّ إِلَى فُقَرَائِهِم، فَإِن هُم أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَموَالِهِم، وَاتَّقِ دَعوَةَ المَظلُومِ فَإِنَّهُ لَيسَ بَينَها وَبَينَ اللهِ حِجَابٌ"([9])
وعن عائشة رضي لله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : "يَا عَائِشَةُ لَولاَ قَومُكِ حَدِيثٌ عَهدُهُم بِكُفرٍ لَنَقَضتُ الكَعبَةَ فَجَعَلتُ لَهَا بَابَينِ، بَابٌ يَدخُلُ النَّاسُ مِنهُ، وَبَابٌ يَخرُجُونَ"([10])
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في بيان ما يستفاد من هذا الحديث: "ومنه تركُ إنكار المنكر خَشيةَ الوُقُوع في أنكرَ مِنهُ)([11])
وقال العلاَّمة ابنُ القيِّم رحمه الله في "إعلام الموقعين" (3/ 15 ـ 16): "إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم شرع لأمَّته إيجابَ إنكار المنكر، ليحصُل بإنكاره مِن المعروف ما يحبُّه اللهُ ورسولُه، فإذا كان إنكار المنكر يستلزِم ما هو أنكرَ منه وأبغضَ إلى الله ورسوله، فإنَّه لا يَسُوغ إنكاره، وكان الله يُبغِضُه ويَمقُتُ أهلَه، وهذا كالإنكار على الملوك والوُلاة بالخروج عليهم؛ فإنَّه أساسُ كلِّ شرٍّ وفِتنة إلى آخر الدَّهر، وقد استأذن الصَّحابةُ رسولَ الله غ في قِتال الأُمَراء الَّذين يؤخِّرون الصَّلاة عن وقتها، وقالُوا: أفلا نُقاتِلهم؟ فقال: "لاَ مَا أَقَامُوا الصَّلاَةَ"، وقال: "مَن رَأَى مِن أَمِيرِهِ مَا يَكرَهُ فَلْيَصبِرْ وَلاَ يَنزِعَنَّ يَدًا مِن طَاعَتِهِ".
ومن تأمَّل ما جرى على الإسلام في الفِتن الكِبار والصِّغار رآها مِن إِضاعة هذا الأَصل وعَدم الصَّبر على المنكر؛ فطلب إزالته فتولَّد منه ما هو أكبرُ منه، فقد كان رسول الله غ يرى بمكَّة أكبرَ المنكرَاتِ ولا يَستطِيع تغيِيرَها، بل لمَّا فتح اللهُ مكَّة وصارت دار إسلام عَزَم على تغيِير البَيت وردِّهُ على قواعِدِ إبراهيم، ومَنَعه من ذلك مَعَ قُدرته عليه خَشيَةُ وقوعِ ما هو أعظمُ منه من عدم احتِمال قُرَيش لذلك لِقُرب عَهدِهم بالإسلام وكونهم حَدِيثي عَهدٍ بكُفر، ولهذا لم يأذَن في الإنكار على الأُمَراء باليَد؛ لما يترتَّب عليه من وُقوع ما هو أعظمُ مِنه كما وُجد سواء". اهـ

ثامنًا: النُّهُوضُ بِالأُمَّةِ لاِستِردَادِ سِيَادَتِهَا وَاستِئنَافِ الحَيَاةِ الإِسلاَمِيَّةِ الرَّاشِدَةِ عَلَى مِنهَاجِ النُّبُوَّةِ.

عن حُذَيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُم مَا شَاءَ اللهُ أَن تَكُونَ، ثُمَّ يَرفَعُهَا اللهُ إِذَا شَاءَ أَن يَرفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنهَاجِ النُّبُوَّةِ فََتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَن تَكُونَ، ثُمَّ يَرفَعُهَا اللهُ إِذَا شَاءَ أَن يَرفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَن تَكُونَ، ثُمَّ يَرفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَن يَرفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيًّا فََتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَن تَكُونَ، ثُمَّ يَرفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَن يَرفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ رَاشِدَةٌ عَلَى مِنهَاجِ النُّبُوَّةِ"، ثُمَّ سَكَتَ.([12])
هذه دعوتُنا الَّتي نَدعُو النَّاسَ إِلَيها، وهذَا مَنهجُنا الَّذِي نَسِير علَيه، والهدَف الَّذي نَرمي إِليه، مُتوسِّطين، لا غالِين ولا مُقصِّرين، ولا مُفْرِطِين ولا مُفَرِّطِين. فَهِي دعوةٌ نبويَّةٌ نقيَّةٌ، وطريقَةٌ سلَفِيَّةٌ سويَّةٌ، لا كلاميَّةٌ ولا صوفيَّةٌ، ولا حزبيَّةٌ ولا عصبيَّةٌ، زيتونةٌ لا شرقيَّةٌ ولا غربيَّةٌ.
ونحن نَدعو المسلِمين إلى الرُّجوع إلى هذا المنهج المتِين، لأنَّنا نعتَقِد جازِمِين، ونقول مؤكِّدِين، إنَّه ما أصاب الأمَّةَ الإسلاميَّةَ من ذُلٍّ وهَوَانٍ، وحلَّ بها مِن ضَعَةٍ وخُذلانٍ، وتَقَهقُرٍ في كلِّ مَيدَان، حتَّى لَعِب بها الزَّمان، وصارَت لُقمَةً سائِغَة لأعدائِها في كلِّ مكان، إلاَّ بإعراضِها عن منهج السُّنَّة والقرآن، وهَديِ سلَفِها عليهم الرِّضوانُ، فلا سبيلَ لها لاستِرجاع سِيادَتها، واستِرداد قِيادتها إلاَّ بالرُّجوع إلى دينها الصَّحيح.
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَبَايَعتُم بِالعِينَةِ وَأَخَذتُم أَذنَابَ البَقَرِ وَرَضِيتُم بِالزَّرعِ وَتَرَكتُم الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيكُم ذُلاًّ لاَ يَنزِعُهُ حَتَّى تَرجِعُوا إِلَى دِينِكُم"([13])
وهذه شَهادَةٌ مُهمَّة من مُصلِح الأمَّة، الَّذي عايَشَ البَلاءَ، وشَخَّص الدَّاء، ووصَف الدَّواء، مَفخَرَة الجزائِر، العَلاَّمة محمَّد البَشِير الإبراهِيميّ : حيث يقول: "إنَّ علَّة العِلَل في سُقُوط المسلِمين وتأخُّرِهم وَرَاء الأُمَم، وانحِطاطِهم عن تِلك المكانَة الَّتي كانت لهم في سالِف الزَّمن، هي بُعدُهم عن ذلك الهديِ الرُّوحانيِّ الأَعلَى، وأنَّه لا يُرجَى لهم فَلاحٌ في الدُّنيا ولا في الآخِرَة، ولا صلاحٌ حتَّى يستَتبع صلاح المآل، ولا عزَّةُ جانِب، تَرُدُّ عنهم عادِيَةَ الغاصِبِين مِن الأجانِب، إلاَّ إذا راجعوا بصائِرَهم، واستَرجَعوا ذلك الهديَ الَّذي لم يَغصِبه مِنهم غاصِبٌ، وإنَّما هَجَروه عن طَوعٍ أَشبَه بالكُره، واختِيارٍ أَشبَه بالاِضطِرار، فبَاءُوا بالمَهَانَة والصَّغَار، والضَّعَة والخَسَار"([14])
ويقول في موضِع آخَر: "وما أخَّر المسلِمين إلاَّ هذا الشِّركُ الَّذي أَبعَدَ المسلِمين عن عِبادَة الله، لأنَّ الإنسان إذا تَلَفَّت إلى جِهاتٍ مُتعدِّدة فإنَّه يُصبِح بلا إرادة وما الإنسان إلاَّ إِرادةٌ وعزيمةٌ فإذا صَلَحت إِرادتُه صَلحَت عزيمتُه، وإذا أراد الإنسان إرادةً وسَعَى لها سَعيَها فإنَّ إِرادَتَه تُؤدِّي به إلى نَيل سَعادَة الآخِرَة، ومَن أَصبح بلا إِرادَة أَصبَح مُسَيَّرًا، ونحن الآن مُسَيَّرُون في كلِّ شَيءٍ، فانظُرُوا ذاتَ اليَمِين وذاتَ الشِّمال تَجِدُوا المسلِمِين مُسَيَّرِين مُتأخِّرِين في كلِّ شَيءٍ.
فإن أَرادُوا أن يَكُونُوا كغَيرِهم مِن الأُمَم فعَلَيهم أن يكُونُوا كَمَا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَعَبِّرُوا بما شِئتُم مِن تَعَابِير، فَسَمُّوها بحرَكَةِ أُخُوَّة أَو حَرَكَةِ إِحيَاءٍ، لا إِحيَاء الإِسلام؛ لأنَّ الإسلام حَيٌّ، بَل إِحياء الإسلام في نُفُوسنا، وإنَّ الإسلام لا يَقُوم بالكَمِّ، بل بالكَيفِ، وتَدَبَّروا آياتِ سُورَة الأَنفَال، ولم يُرِدِ الله إِرهَاقَنَا بل أَرَاد أن يُثَبِّتَنا على القُوَّة الحَقَّة الَّتي هي قُوَّة النُّفوس الَّتي تَسكُنُ في الإِرادَات"([15])
وقال أيضًا: "أمَّا الباحِثُون في أحوال المسلِمين مِن المسلِمين فَهُم ينقسِمون فرِيقَين بَعد اتِّفاقِهم على أنَّ الجِسمَ الإسلاميَّ مَريضٌ، وأنَّ مَرَضَه عُضالٌ: فَريقٌ مِنهم هُدِيَ إلى الحقِّ فَعرف أنَّ الجِسمَ الإسلاميَّ لا مَطمَعَ في شِفائِه إلاَّ إذا عُولِج بالأَشفِيَة القَديمَة الَّتي صحَّ بها جِسمُ سَلَفِه، وغُذِي بالأَغذِيَة الصَّالحة الَّتي قَوِيَ بها سَلَفُه، وذلِك أنَّه أقام الدِّين فاستَقَامَت له الدُّنيا، وانقَادَ إلى الله فانقَادَ له عِبادُ الله، وأَخذَ كتابَ الله بقُوَّةٍ، فمَشَى على نُورِهِ إلى السَّعادَة في الدَّارَين، وأَرشَده إلى أنَّ سَعادَة الدُّنيا عِزٌّ وسُلطانٌ، وعَدلٌ وإِحسانٌ، وأنَّ سعادَة الآخِرَة حَياةٌ لا نَصَبَ فِيها ولا نِهايَةَ، واطمِئنانٌ لا خَوفَ مَعَه ولا كَدَرَ في أَثنائِه، ورِضوانٌ مِن الله أَكبَرُ…"([16])
ويقول أيضًا: "إنَّ شُيُوع ضَلالاَتِ العَقائِد وبِدَعِ العِباداتِ والخِلافِ في الدِّين هو الَّذي جرَّ علَى المسلِمين هذا التَّحَلُّل مِن الدِّين، وهذا البُعد عن أَصلِيَّة الأَصلَين، وهو الَّذي جرَّدهم مِن مزايَاه وأخلاقِه حتَّى وَصلُوا إِلى ما نَرَاه.
وتِلك الخِلال مِن إِقرَار البِدَع والضَّلالاتِ هِي الَّتي مَهَّدَت السَّبِيلَ لدُخُول الإلحَادِ علَى النُّفُوس، وهَيَّأَت النُّفُوس لقَبُول الإِلحادِ، ومُحَال أَن يَنفُذَ الإلحَادُ إِلى النُّفُوس المؤمِنَة؛ فإنَّ الإيمانَ حِصنٌ حَصِين للنُّفوس الَّتي تحمِلُه، ولَكنَّ الضَّلالاَتِ والبِدَعَ تَرمِي الجِدَّ بالهُوَينَا، وتَرمِي الحَصَانَة بالوَهن، وتَرمِي الحقِيقَة بالوَهم، فإِذَا هذِه النُّفوس كالثُّغور المفتُوحَة لكُلِّ مُهاجِمٍ"([17]) ([17]) "الآثار" (4/410).

————-
([1]) رواهما اللالكائي في "أصول الاعتقاد" (1/72، 73).
([2]) رواه الحاكم وسنده صحيح، "صحيح الجامع" (رقم 2934).
([3]) رواه ابن جرير في تفسيره (1/76).
([4]) متفق عليه.

([5]) رواه أحمد 1/379) بسند حسن، وقد روي مرفوعا ولا يصح، انظر "الأحاديث الضعيفة" (رقم 533) للشيخ الألباني رحمه الله.
([6]) رواه أبو داود وغيره، وهو حديث صحيح مشهور، انظر "الصحيحة" (رقم 204).
([7]) عبرت هكذا لأنه اشتهر على ألسنة المتأخرين قول (فتح باب الاجتهاد) وباب الاجتهاد لم يغلق – ولن يغلق، لأن ما فتحه الله تعالى لا تغلقه أيدي المتعصبة – حتى يفتح من جديد، وإنما المقصود منه الرد على الدعاوى العارية التي تدعو إلى غلق باب الاجتهاد.
([8]) "آثار البشير" (1/95، 96).
([9]) متفق عليه.
([10]) متفق عليه.
([11]) "فتح الباري" (1/271).
([12]) رواه أبو داود بإسناد حسن، انظر "الصحيحة" (رقم 5).
([13]) رواه أبو داود وأحمد وهو حديث صحيح، انظر "الصحيحة" (رقم 11).
([14]) "الآثار" (1/110).
([15]) "الآثار" (4/168، 169).
([16]) "الآثار" (4/222).


فتاوى الشيخ الفاضل محمد علي فركوس حفظه الله نافعة للجميع وخاصة الجزائرين 2024.

باسم الله والصلاة والسلام على اشرف خلق الله محمد عبد الله ورسوله
هذه مجموعة لفتاوى الشيخ الفاضل محمد علي فركوس حفظه الله تعالى
هذه الفتاوى نافعة جدا ومفيدة للجميع وخاصة الجزائرين لان سائلي الشيخ جزائرين ويستفتونه على ماهو واقع في الجزائر خصوصا ويوجد فتاوى
عامة للجميع
والله الموفق لنا ولكم

بارك الله فيك
جزاكم الله عنا كل الخير ..
بارك الله فيك اخي جزاك الله خير
مشكووووووووووووووووووووووووووو وووور
بارك الله فيكم ونفع بكم
ما شاء الله بوركت اخينا