الإحياء الديني ، وسُنن الكون : 2024.

الإحياء الديني ظاهرة تاريخية ، سواء في الغرب أو في الشرق ، أو في العالم العربي الإسلامي ، الذي هو وسيط بين الغرب والشرق ، والذي هو يمتد عبر أفريقيا وآسيا ، في المركز ، وأوروبا وأميركا في الأطراف . فظاهرة الإحياء الديني ليست مقصورة على العالم العربي / الإسلامي وحده ، بل هي عامة في الغرب والشرق على حد سواء ، على رغم اختلاف الظروف في نشأتها ، والأشكال في تكوينها ، والأهداف ، والبواعث ، في حركتها .
ففي الغرب ارتبط الإحياء الديني بنهاية الحداثة وبسلب التنوير أفضل ما أخرج الغرب في القرن الثامن عشر ، فبعد " الإصلاح الديني " في القرن الخامس عشر ، والنهضة في السادس عشر ، والعقلانية في السابع عشر ، والتنوير في الثامن عشر ، والثورة الصناعية في القرن التاسع عشر ، وتكنولوجيا القرن العشرين ، يبدو أن الغرب قد بدأ يغلق القوسين : قوسي العصور الحديثة ، ومُثله في العقل والعلم ، وفي النقد للموروث ، وفي معرفة قوانين الطبيعة ، وبعد نقد كل شيء لم يعد شيئاً ، ومعرفة قوانين الطبيعة أدت إلى حربين عالميتين طاحنتين ، وصعود النازية والفاشية ، وإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي ، أما الفردية وحقوق الإنسان ، فقد انتهت إلى الأنانية والنسبية وضياع حقوق الإنسان غير الأبيض ، كما تم انتهاك مُثل التنوير خارج أوروبا بداية بإحضار الرقيق من أفريقيا إلى أوروبا وأميركا ، وبدايات الاستعمار الحديث ، والقضاء على استقلال الشعوب ، ونهب ثروات الأمم المغلوبة . وقوضت الحضارة الغربية نفسها بنفسها ، وانتهت إلى العدمية والنسبية والشك واللاأدرية ، ولم يعد الشباب قادراً على الولاء لشيء حتى للثقافات المضادة التي ازدهرت بعد ثورته في أحداث مايو الفرنسية 1968 ، فعادت الشعوب الأوروبية تبحث في ماضيها عن حل لأزمة حاضرها الذي كان مستقبلها في بدايات العصور الحديثة ، فوجدته في موروثها القديم : الدين أو العِرق ، فظهر الإحياء الديني كنوع من الدعامة للوعي الأوروبي وهو في مرحلة الأفول والحضارة الغربية وهي في مرحلة النهاية ، وهو اختيار ما قبل المثالية ، اختيار العصر الوسيط . فإذا ما عاد الوعي الأوروبي إلى بداياته الوثنية الأولى ، فإنه يكتشف العِرْق كما هو الحال في ألمانيا مع صعود النازية . فالإحياء الديني في الغرب رد فعل على نهاية العصور الحديثة وإفلاسها ، ومحاولة إيجاد بداية جديدة ، أو عوْد إلى البداية القديمة .
وفي الشرق ، بعد بدايات التصدع في المعسكر الشرقي نظراً للحكم الشمولي القهري، وضياع الحريات العامة وحقوق الإنسان، وتغليب قوة الدولة على حاجات الأفراد الأساسية ، انهار الحكم كليةً ، وظهرت القومية العِرقية لدى الشعوب المغلوبة أو " الإحياء الإسلامي " في أواسط آسيا التي تمدد فوقها الاتحاد السوفييتي . وكما هو الحال ، أيضاً ، في أوروبا الشرقية التي كانت تعتبر في الأطراف : العِرق عند الصرب والكروات ، والإحياء الإسلامي في البوسنة والهرسك وباقي دول أوروبا الشرقية عامة ، وفي البلقان خاصة .
وفي اليابان وكوريا ، من أجل النهضة الاقتصادية ، تم إحياء التقاليد الدينية والشعبية تأكيداً للهُوية واعتزازاً بخصوصية التجربة التمسك بالذات والانفتاح على الآخر ، فظهر الإحياء الديني الشعبي للشخصية الآسيوية في الفن والأدب وأساليب الحياة وأنماط السلوك .
وفي فيتنام والهند الصينية وتايلاند ظهر الإحياء الديني في البوذية والهندوكية من أجل الدفاع عن الاستقلال الوطني ضد الاستعمار الغربي وضد القهر الداخلي ، مرةً كفاحاً مسلحاً في فيتنام ، ومرةً مقاومة سلمية في تايلاند والهند ، باستثناء بعض ولايات الهند التي يرتبط فيها الإحياء الديني بالعرق نظراً لتعدد القوميات والأجناس واللغات .
وفي العالم العربي / الإسلامي اعتبر البعض " الصحوة الإسلامية " ظاهرة تاريخية ، تتبع قانوناً للتاريخ ؛ فهي بهذا المعنى تمثل المرحلة الثالثة في تطور الحضارة الإسلامية ، فقد كانت المرحلة الأولى في عصر بناء الحضارة الإسلامية وبلوغها الذروة في القرن الرابع الهجري ( = العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ) ثم انتهاؤها في القرن السابع بعد هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس وإعطائه أيديولوجية القوة ، ولم تنفع بارقة ابن رشد في القرن السادس في مد المسار الحضاري ، وجاء ابن خلدون ، في القرن الثامن ، ليؤرخ لمسار الحضارة الإسلامية في هذه الفترة واضعاً قانون التطور والانهيار وأسبابهما : من العصبية إلى الترف ، ومن البادية إلى الحضر .
ثم جاءت الفترة الثانية ، ابتداءً من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر ، فترة الغزوات من الشرق والغرب ، وفترة الحكم التركي المملوكي ، عصر الشروح والملخصات . وفي نهاية هذه الفترة ، ومنذ مائتي عام فقط ، ظهرت حركات الإصلاح الديني في مصر والعالم العربي / الإسلامي من أجل إنهاء عصر الركود والاستعمار والتخلف وبداية عصر جديد . وبعد انتصار حركات التحرر الوطني وإنشاء الدول الحديثة ، بدأ الإحياء الديني من جديد يعود إلى المواجهة بعد أن تم استبعاده ، وخرج وكأنه يعلن نهاية عصر السبعمائة سنة الثانية ، وبداية عصر جديد ، مرحلة جديدة للحضارة الإسلامية منذ القرن الخامس عشر حتى القرن الحادي والعشرين فتسود روح التفاؤل .

وفي الوقت نفسه تُعاد إلى الإصلاح الديني حميته الأولى بعد أن فقدها منذ هزيمة الثورة العرابية العام 1882م التي أدت إلى احتلال مصر ، وكانت قد اندلعت بسبب تعاليم الأفغاني : الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل . وقد أدى ذلك إلى تراجع حماس الإصلاح إلى النصف عند محمد عبده ، مؤثراً التغيير الاجتماعي البطيء على الثورة السياسية العارمة ، وسار على إثْره رشيد رضا في تيار الإصلاح ضد السلفيين العثمانيين وضد العلمانيين الأتراك حتى تم النصر للثورة الكمالية في تركيا العام 1924م ، فعاد رشيد رضا سلفيّاً حنبليّاً ، فلما قامت حركة الضباط المصرية العام 1952م ، ظن الناس أن المد الثوري قد انتصر مع " الضباط الأحرار " ، وسرعان ما دب الشقاق بين أخوة الأمس العام 1954م ، صراعاً على السلطة ، وبين الثورة و" الإخوان "، ودخل " الإخوان " السجن ، وخرجوا في السبعينيات لتصفية الحساب مع الثورة الأولى ، ثم مع ثورة التصحيح التي شجعتها حركتهم ودعمتها أولاً ، وكان الحال كذلك تجاذباً وصراعاً في دول المغرب العربي وسوريا والعراق والأردن . فالإحياء الديني " محاولة للحاق بجذور الإصلاح الأول من أجل إعطائه دفعة جديدة من جيل جديد " .