سيكولوجية الحب 2024.

تلك التي أحبُّ
تجسدُ رغبتي في الحياة
رغبتي في حياةٍ بلا حسرة
في حياةٍ بلا ألم
في حياةً بلا موت
بول ايلوار
اذا كانت الطبيعة البشرية قد دُرست وحُـللتْ بتفصيل كبير،فإن (الحب) ظل بعيداً عن هذه الدراسة المكثفة.فالحب استثار الشعر والموسيقى أكثر من استثارته للبحث العلمي.فكانت النتيجة إننا أصبحنا نمتلك ثروة كبيرة من الأشعار والموسيقى الجميلة عن الحب،ولكن دون فهم كبير له،على الرغم من القيمة العظيمة التي تسبغها على الحب جميع الاجيال في كل الحضارات.فمفهوم (الحب بين الجنسين)،في أذهان الغالبية العظمى من الناس،ومن خلال الصورة المقدمة عنه في مفردات الثقافة اليومية السائدة،كقصائد الغزل،والأغاني،والأفلام،والمسل سلات التلفزيونية،يقترب من مفهوم (القدر الغيبي) الذي يحل دون استئذان أو مقدمات ودون تراكمات سببية تسبقه،وكأنه حدث سحري منفصل عن بقية حوادث الحياة الاجتماعية ووقائعها،يمكن أن يطال أي إنسان في أي لحظة،فيصيبه بالأرق والقلق والشرود والمشاعر الجياشة حد إفناء الذات في ذات المحبوب.إلا أن هذا الحب له دلالات ومضامين وتأويلات أخرى مختلفة تماماً في المنظور السيكولوجي المعاصر،إذ يطلق عليه تحديداً مصطلح (الحب الرومانسي) Love Romantic،بوصفه إحدى ظواهر علم النفس الاجتماعي،ذات الارتباط التكويني بشبكة جدلية من العوامل الفزيولوجية والسوسيولوجية والحضارية.فالانفعالات الشديدة التي يتضمنها الحب ما عاد بالامكان تفسيرها موضوعياً دون التفتيش عن صلتها الوثيقة بعمل الغدد الصم وفسلجة الجهازين العصبي والتناسلي.كما أن الجذور الانثروبولوجية والاقتصادية لظاهرة الحب أصبحت الخلفية الضرورية للأرضية التي يجري عليها البحث النفسي،ايماناً بحقيقة وحدة العلوم وتكاملها،ودون أن يؤدي ذلك الى الإخلال بمبدأ الاستقلالية والتمايز بين هذه التخصصات العلمية.
ما هو الحب الرومانسي؟

تكاد الأدبيات النفسية الحديثة أن تتفق على أنه ((حالة عاطفية عنيفة في انفعالاتها،تتعايش في فوضاها المشاعر الحادة مع المشاعر الرقيقة:البهجة مع الألم،والقلق مع الطمأنينة،والايثار مع الغيرة،والسعادة مع الغم))،وبأنه ((حالة من التوق الشديد للاتحاد بالآخر)).وهذه الحالة العاطفية لها جذورها في النظامين البيولوجي والاجتماعي لمجمل الكائنالت الحية الراقية.فقد توصلت بعض الدراسات الى أن هناك نظاماً عاطفياً بين الجنسين يتشابه بآلياته السلوكية لدى البشر والقرود،مما دعا بعض الباحثين الى تعريف الحب بأنه ((ميل الكائن للاندماج بالآخرين من نفس نوعه))،وبأنه ((قوة ايجابية رابطة متجذرة بعمق في التكوين البيولوجي للحيوانات والبشر))،وبتحديد أدق ((هو الخبرة النفسية لحالة الاستثارة البيولوجية التي يمر بها الفرد نتيجة لقائه بشخص من الجنس الآخر يراه جذاباً)).وبناءاً على هذه التصورات،ومنذ سبعينات القرن الماضي،توالى ظهور نظريات نفسية حاولت تفكيك عاطفة الحب الى مكونات ومفاهيم فرعية،بتفاعلها ينشأ الحب.ومنها محاولة (روبن) 1973م،بتفكيك الحب الرومانسي الى ثلاثة مكونات،هي:
* التعلقAttachment : أي احتياج الفرد الى الوجود الجسدي والمساندة الانفعالية من الآخر.
* الرعايةCaring :أي شعور الفرد بأهمية وجود من يهتم به ويكون مسؤولاً عنه.
* الألفةIntimacy : أي الرغبة بالاتصال الحميم بإنسان موثوق به.
أما نظرية (هاتفيلد)1988م فحاولت أن تفسر الآلية النفسية التي ينبثق منها الحب،بافتراضها أن (الاستثارة) التي يتلقاها الفرد من الخارج،و(التصنيف) الذي يعطيه لتلك الاستثارة،هما اللذان يحددان احتمال نشوء الحب من عدمه.وقد قدمت الكثير من الدراسات التجريبية إسناداً لهذه النظرية،إذ تبين أن الاستثارة الانفعالية التي يتعرض الانسان في موقف ما،يمكن أن ترفع من شدة مشاعره العاطفية نحو الجنس الآخر؛أي كلما ازداد توتر الموقف الذي يجد الانسان نفسه فيه،كلما وجد في نفسه قدرة أكبر على الحب.ففي احدى هذه الدراسات،صُمم الموقف بحيث يتسنى لمجموعة من الرجال المتطوعين للاشتراك في تجربة علمية وهمية،أن يلتقوا بنساءٍ جذابات قيل لهم بأنهن شريكات لهم في التجربة.وبعد أن تم اللقاء،أُخبرَ بعض هؤلاء الرجال بأنهم سيتعرضون الى صدمات كهربائية مؤلمة جداً بوصفه شرطاً من شروط هذه التجربة العلمية.وحين سُئلوا بعد ذلك عن مقدار رغبتهم في ترتيب موعد لاحق للقاء شريكاتهم في التجربة،تبين أن الرجال الخائفين من التجربة ( أي المستثارين) قد عبرّوا عن انجذاب أكبر نحو المرأة التي شاركتهم التجربة.إن تواتر هذا النوع من التجارب أفضى في النهاية الى استنتاج يحدد الآلية الفزيولوجية للحب بالآتيالقعدة(إن هورمون الأدرينالين الذي تفرزه الغدة الكظرية في حالات الأنفعال نتيجة تأثر منطقة الهايبوثالاموس (تحت المهاد) في الدماغ البشري بالاستثارات الخارجية،يحفزُ النزوع الرومانسي لدى الكائن البشري للأندماج بكائن آخر من نفس نوعه)) !
:الأسس العصبية للفروق العاطفية بين الجنسين
أثبتت الملاحظات العلمية والدراسات التجريبية والميدانية أن تجربة الحب تتباين من ثقافة الى أخرى،ومن نمط شخصية الى أخرى،ومن جنس الى آخر.فالبيئة الحضارية والاجتماعية تساهم بالنصيب الأكبر من عملية (التنميط الجنسي)Sex Typing (أي إعطاء الدور الاجتماعي المحدد لكل من الأنثى والذكر حسب معايير ذلك المجتمع وقيمه).ولذلك نرى أن صفات العدوان والسيطرة والإقدام والتفوق غالباً ما ترتبط بالذكور في حضارتنا الذكرية،فيما ترتبط صفات الخضوع والسلبية والخوف والرقة بالإناث.لكن الفروق الانفعالية والمزاجية بين الجنسين والناشئة عن عوامل وراثية فسيولوجية،تظل هي الأخرى فاعلة في تشكيل السلوك العاطفي الفردي للأنثى والذكر،ودون أن يتناقض ذلك بالضرورة مع سلوكهما الاجتماعي الناشيء عن عوامل البيئة.وقد برهنت الكثير من التجارب العلمية على الحيوانات القريبة من الإنسان تطورياً (لا يمكن إجراء مثل هذا النوع من التجارب على الإنسان لموانع أخلاقية) على وجود فروق بيولوجية في السلوك الانفعالي بين الجنسين،إذ تم في إحدى التجارب عزل مجموعة من القردة من الجنسين عند الولادة عن أبناء جنسهم،ثم سمح لهم بالاختلاط بعد ذلك مع بقية القردة لأول مرة.وقد اتضح أن استجابات الإناث اتسمت بالخوف من رفاقهن الجدد أكثر مما فعل الذكور،فقد ركضن إلى زاوية القفص للاختباء أو الهرب،بينما لم يفعل الذكور ذلك.وفي تجربة أخرى على الفئران،تم تعريضهم إلى صوت محدد في كل مرة،وبعده بعدة ثواني كانوا يصعقون بشرارة كهربائية.تم تكرار التجربة لعدة مرات مع خمس سلالات من الفئران مع إتاحة الفرصة لهم لإمكانية الهرب من القفص.وقد تبين أن الإناث في كل سلالة قد تعلمن الهروب من القفص أسرع بكثير مما فعل الذكور،أي أن استجابتهن الانفعالية كانت أشد.وقد فـُسرت نتائج التجربتين بأن الجهاز العصبي المستقل للأنثى له عتبة حسية أوطأ لرد الفعل من الذكور،وانه يميل للاستجابة بسرعة وشدة اكبر للتحفيز الأوطأ.
كيف تسلك المرأة أثناء الحب؟
إن ما نود التركيز عليه في هذه السطور هوانعكاس تأثير الفروق البيئية (الحضارية والاجتماعية) للتنميط الجنسي على سلوك النساء والرجال في الحب.والملفت للنظر أن أغلبية نتائج الدراسات الغربية في هذا المجال جاءت مضادة للاعتقادات الشائعة،ومن بينها:
* إن الذكور بشكل عام هم أكثر عاطفية من الاناث.
* إن طالبات الجامعة يتحكم العقل في سلوكهن أكثر من العاطفة.
* إن النساء على عكس ما يذكره الفولكلور،هن أقل مثالية وأكثر تهكماً من الرومانسية اذا ما قورنّ بالرجال.ومن ناحية أخرى،فأن خبرة النساء بأعراض الحب (كالحاجة الى الجري والقفز والصراخ والشعور بالحرية) هي أكثر حدة مما هي عليه عند الرجال.
* خلافاً للانطباع العام الشائع،لا تندفع الانثى هنا وهناك بفعل دوافعها العاطفية،بل على العكس من ذلك تكون عاطفتها أكثر تكيفاً وقابلية للتوجيه من الذكر.ويبـدو أنها قادرة بشكل أفضل من الذكر على أن تسيطر على ميولها العاطفية وتكيفها لضرورات اختيار الزوج.
كما اتفقت دراسات أخرى على أن الرجال أكثر استعداداً للوقوع في الحب من النساء،وانهم يتخلون عن الحب بصورة أبطأ،وهم أقل احتمالاً من النساء في تقويض رومانسية فترة ما قبل الزواج؛غير أن النساء ينهمكن عاطفياً بصورة نموذجية في الحب كما يفعل شركاؤهم الذكور أو أكثر،كما إنهن يتفوقن على الرجال الى حدٍ ما في تركيزهن على ألفة الصداقة وعلى اهتمامهن بالشريك.أما الرجال فيبدون اهتماماً أشد بالجوانب الهازلة والمادية للعلاقة.
وفي استقصاء موسع عن التغايرات في الحب ، توصلت إحدى الدراسات الى ما يأتي:
* إن الفروق في انماط الحب هي فروق حضارية وليست وراثية.
* تتجه المرأة نحو الحب الرزين المتضمن للصداقة أكثر من الرجل،مما يوضح تمسكها بالأهداف الزواجية للحب.فالمرأة أكثر عقلانية وأقل ميلاً لحب رومانسي يغفل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية الواقعية.وهي لذلك تمارس مقداراً أعظم من السيطرة على عاطفتها.
* الحب التملكي التواكلي أكثر حدوثاً عند الاناث.
* إن الرجال أكثر رومانسيةً من الاناث في حبهم.وهذا ما ترفضه دراسات أخرى .
إن المحصلة الكلية لنتائج هذه الدراسات تشير الى أن المرأة في سلوك الحب تختلف عن الرجل في كونها أكثر جدية وتعقلاُ ورزانة واهتماماً بالصداقة وبتحقيق هدف الزواج،وفي كونها أقل اندفاعاً ورومانسية واهتماماً بالجوانب المادية.ولعل هذه النزعة الواقعية لدى المرأة يمكن أن تعزى الى قلقها (ذي البعدين الاقتصادي والاجتماعي) من عواقب الاندفاع العاطفي الحر في الحب،وسط حضارة ذكورية تروج (نظرياً وفعلياً) لايديولوجية دمج ذات المرأة في ذات الرجل،وجعلها رهينة بحريته المنتقصة أصلاً.ويحيلنا هذا التفسير الى الرؤية التي توصلت اليها (سيمون دي بوفوار) في كتابها (الجنس الثاني) :
((في اليوم الذي ستتمكن فيه المرأة أن تحب لا في ضعفها بل في قوتها، ليس هرباً من نفسها،بل من اجل العثور عليها،ليس إذلالاً بل تأكيداً لذاتها؛في مثل هذا اليوم سيصبح الحب بالنسبة لها،كما هو بالنسبة للرجل،مصدراً للحياة وليس خطراً مميتاً))!

ما قدرتوش تردوا و لا ما قدرتوش تقراو:biggrin:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.