الديون المشكلة والحل 2024.

بسم الله الرحمن الرحيم




الديون
المشكلة والحل

الحمد لله وسع رزقه العباد، وعم فضله البلاد، وأشهد بدلائل جوده الحاضر والباد، والمتحرك والجماد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا …


وبعد:


فإن مشكلة الديون مشكلة عمّ انتشارها، ونارٌ عمّ أوارها، حيرت الألباب، وفرقت الأصحاب، انشغلت أذهانٌ لهمَّها، وانعقدت عقولٌ لهولها، الديون التي أضحى كثير من الناس ضحيتها، فأقضت مضاجعهم، وأقلقت حياتهم، وأرغمت أنوفهم وخفضت رؤوسهم.

الدين حقًا كاسمه دَويّ

قد يَخضعُ المرءُ له القوي

كم من شريفٍ غاظه غبي!!



ولعظم هذه المشكلة، أحببت من خلال هذه المشاركة أن أبيِّن المخاطر التي قد تكون غائبة عن أذهان كثير من الناس، وأن أعرض لبعض أسبابها، وأشير إلى بعض إشارات في طريق الحل.
من مخاطر الديون:



1- هَمٌّ بالليل وذلُّ بالنهار:

لقد استعاذ النبي r من الدين لما ينتج عنه من هم وإذلال للنفس فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضَلَع الدين وغلبة الرجال»([1])، قال ابن الأثير رحمه الله: ضلع الدين: أي ثقله، والضلع: الاعوجاج، أي يثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء والاعتدال ([2]). اهـ.


إنه الهم الجاثم على النفوس الأبية، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب». وقد قيل: «لا همَّ إلا هم الدين، ولا وجع إلا وجع العين». وقد روى هذا مرفوعًا إلى النبي r بوجه ضعيف([3]).


وكان يقال: (الدين همّ بالليل، وذل بالنهار، وإذا أراد الله أن يذل عبده جعل في عنقه دينًا)([4]).

ألا ليت النهار يعود ليلاً

فإن الصبح يأتي بالهموم


حوائج ما نطيق لها قضاءً

ولا دفعًا وروعات الخصوم

قال القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: وإنما كان شينًا ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال والهمَّ اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منَّته بالتأخير إلى حين أوانه([5]).


2- ذهاب الأمن عن النفوس:

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن رسول الله r قال: «لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: الدين». رواه أحمد والحاكم([6]).


الدَّين يذهب الأمن عن النفوس ويوقعها في الخوف من مطالبة الغريم له، ينتظر الباب يطرق عليه ليلاً أو نهارًا، وربما بلغ به الحال إلى مفارقة بلده والانقلاب عن مسقط رأسه فرارًا من الغرماء، على حد قول القائل:

وإذا الديار تنكَّرت عن حالها

فدع الدَّيار وأسرع التَّحويلا


ليس المُقام عليك حق لازم

في منزلٍ يدع العزيز ذليلاً

3- فساد الطباع السليمة والأخلاق الكريمة:

الدَّين يفسد الطباع السلمية والأخلاق الكريمة، يُلجئ المسلم إلى الكذب وإخلاف الوعود – وما ذاك من سجاياه ولا هو من طباعه – عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله r كان يدعو في الصلاة يقول: «اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم. فقال قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله! قال: إن الرجل إذا غَرِم حدث فكذب ووعد فأخلف»([7]).


4- تفريق الجماعات ووقوع العداوات:

الدَّين سبب لتفريق الجماعات ،ووقوع الخصومات؛ يبعد الخل عن خليله ،والأخ عن أخيه ، والقريب عن قريبه ، تبدأ بمطالبة وإحراج عند حلول الأجل ،ثم يعقبه شكاية وسباب ، ثم عداوات وخصومات وانقطاع ،كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «وآخره حرب».
قال أبو اليقظان ([8]): كان الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب الشاعر يسلَّف الناس فإذا حلّ ماله ركب حمارًا اسمه شارب الريح فيقف على غرمائه ويقول:


بني عَمَّنا رُدُّوا الدراهم إنما

يفرق بين الناس حبُّ الدَّراهم

5- يوهن عزيمة الخير في النفس ويقعد بها عن المقامات الرفيعة:

إن هَمَّ الدَّين يُذهب من العقل حسن التدبير، فيفقده لذة الخشوع والطاعة، ويقعد به عن التفكير المثمر، والرقي في الكمالات، وما ذاك إلا أن له من نفسه بنفسه شغلاً، كما قال بعض السلف: ما دخل همُّ الدَّين قلبًا إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه. بل قد يحجبه الدَّين عن شيء من أبواب الخير (فقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أنه أي المدين لو تصدق فإن صدقته مردودة، ولا يجوز له ذلك، بل إن بعض أهل العلم ذهب إلى أعظم من ذلك فقالوا: لو كان عليه دين واجب ووقف شيئًا من ماله، لا يصح وقفه بل يجب إبطال هذا الوقف، ولا يجب تضييع أموال الناس بحجة طلب هذا العمل الخيري من المصالح كالوقف ونحوه!! وهو اختيار الشيخ تقي الدين بن تيمية، وظاهر اختيار البخاري رحمهم الله) ([9]).


6- نفس المدين معلقة بدينه حتى يقضي عنه:

ما سبق ذكره من الآثار هي آثار ومخاطر دنيوية، أما بعد مفارقة الدنيا فالأمر أشد، إذ أن نفس المدين إذا مات معلقة بدينه حتى يقضى عنه (أي محجوبة نفسه عن الجنة حتى يقضى عنه) فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» رواه أحمد والترمذي ([10]).


وهل يضمن الحي وهو يُقْدِم على الدَّين – بكل قوة وبكل نهم – أن يُقضى عنه دينه بعد موته؟ الواقع يشهد أن هناك أناسًا ليسوا بالقليل غفل عنهم ورثتهم وتركوهم في قبورهم مرتهنين دون أن يحركوا ساكنًا، ورموا بالمسؤولية بعضهم على بعض!!
إن الشهيد – وهو من هو في المنزلة والكرامة – يحجب عن المغفرة بسبب الدين فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن الرسول r قال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين»([11]).
وعن محمد بن عبد الله بن جحش قال: «كنا جلوسًا بفناء المسجد حيث توضع الجنائز، ورسول الله جالس بين ظهرانينا، فرفع رسول الله r بصره قِبَل السماء فنظر، ثم طأطأ بصره، ووضع يده على جبهته ثم قال: سبحان الله سبحان الله، ماذا نزل من التشديد؟
قال: فسكتنا يومنا وليلتنا، فلم نرها خيرًا حتى أصبحنا، قال محمد (يعني الراوي): فسألت رسول الله r ما التشديد الذي نزل؟ قال: في الدَّين، والذي نفس محمد بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم عاش ثم قتل في سبيل الله ثم عاش وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى دينه». رواه النسائي والطبراني ([12]).


أرأيت أخي المسلم خطورة الأمر وعظمته، فما الذي غرك حتى غرقت بالديون أهو الجهل بالعاقبة، أم هو حب الدنيا وإتباع الهوى!؟ إن من الناس من يموت وقد خلف على ظهره ديونًا بمئات الآلاف تشكل بعد ذلك عبئًا ثقيلاً وهما متصلاً عن ورثته تلهيهم عن الدعاء له والتصدق عنه، بل ربما جعلتهم يدعون عليه ويتخلون عنه …!!


– وقفة:



إن الدَّين بالضوابط الشرعية لا بأس به بحيث يكون للحاجة، ويعلم المسلم من نفسه القدرة على السداد ويكون عنده النية في ذلك، ولا يكون بطريق الربا. قال عمر بن عبد العزيز: (الدين وقار طالما حمله الكرام)([13]).


لكن الذي يعايش الواقع يرى إفراطًا وسعارًا محمومًا نحو الاقتراض والاستدانة، حتى انقلبت الآية وأصبح الذي ليس في ذمته دين أو كان دينه قليلا هو محل ازدراء بعض الناس وتنقصهم – على حد قول بعض السفهاء: فلان دينه دين عجوز – لأنه دين قليل. واعتبر بعضهم الدين على الرجال لغير حاجة لا يضر إذ هو من علامة كمال الرجولة عندهم! لبئس ما كانوا يفعلون.


في دراسة حول ظاهرة الديون وانتشارها في دولة عربية أفادت الدراسة أن 95% مدينون للأشخاص وللمؤسسات مع أن دخل الفرد في هذه الدولة مرتفع لكن ذلك لم يغن شيئًا. وما غيرهم عنهم ببعيد!! فما الذي دعا الناس إلى ذلك؟؟


– أهم الأسباب:


إن أهم الأسباب في انتشار ظاهرة الديون هو: طغيان حياة الترف والسعي نحو المظاهر الزائفة والكماليات الزائلة في مسايرة محمومة للواقع الذي يعيش فيه الناس، إن الناس يعيشون أزمات اقتصادية وغلاء في الأسعار مع قلة في موارد الكسب، ثم هم مع ذلك يقومون بمصاريف غير اعتيادية، فصاحب القلة في المال – والذي مرتبه لا يكاد يكفي للحاجيات الضرورية – تجده يطلب الكماليات يضاهي صاحب الكثرة في المال فينفق مثله بدافع المباهاة، أو الضغوط العائلية التي يواجهها، فيقع في الدَّين الذي يزداد تراكمًا عليه مع مرور الأيام وتجدد متطلبات الحياة … لقد غرق أناس في الدين لسوء التدبير ومسايرة الواقع، وحياة المظاهر، فبيته دين! وسيارته دين! وقميصه دين! وطعامه دين! وشرابه دين! وقلمه دين! وله في كل دكان سجل، وفي كل أرضٍ غريم!!.


يقول ابن عثيمين رحمه الله: (إني لأعجب من قوم مدينين عليهم ديون كثيرة، ثم يذهب أحدهم يستدين، يشتري من فلان أو فلان أثاثًا للبيت زائدًا عن الحاجة، يشتري كساءً أو فرشًا للدرج … وهو فقير عليه ديون … هذا سفه، سفه في العقل وضلال في الدين …)([14]).

إن التبذير والإسراف من أعظم أسباب ضيق العيش، وقلة ذات اليد ومن ثم تراكم الديون، فالزيجات والأعراس في كثير منها سرف غير مسؤول ابتداءً بالمهر الذي يثقل كاهل الزوج فيجلس بعد الزواج سنين عددًا في السداد، وربما شاركه في ذلك بعض أولاده!! حتى ذكر أحدهم أن ابنه يبلغ ثلاث عشرة سنة ولا زال يسدد تكاليف الزواج!


ثم ليلة العرس وما يحيط بها من تكاليف وكماليات وسرف وتبذير، قصور فاخرة وموائد ضخمة و .. و … كل ذلك كما يقال: (من أجل ستر الوجه) وما علموا أن ستر الوجه الذي ينادون به ما هو إلا قناع زائف تمزقه أيدي الغرماء بعد حين، فيبقى كحال من يغطي رأسه عن الشمس بإزاره فتظهر عورته. إن السعي من أجل ستر الوجه أوقع قيد الرق في العنق!!


ثم إن مما يساعد في انتشار الديون وتراكمها بمبالغ ضخمة، تلك الشركات والمؤسسات التي دعت الناس إليها بعروضها البراقة وتسهيلاتها الكبيرة، فاستجرَّت الناس حتى أوقعتهم في الفخ، فأخذ الناس منها لحاجة ولغير حاجة، حتى اعتادوا نقص مكافآتهم على الدوام بسبب السداد…


الحــل:


1- الإحساس بخطورة المشكلة:

إن أول خطوة في سبيل العلاج هو الإحساس بخطورة المشكلة وشدتها إحساسًا يجعل النفوس تنفر منها وتفزع باحثة عن الحل، إن الديون ليست همًّا بالليل وذلاً بالنهار فحسب … إذ لو كان الأمر كذلك لهان الخطب وما هو بهيّن … إن تراكم الديْن ذهاب للدين فهل ترضى أن تحبس عن الجنة بسبب ديْنك، أم هل ترضى أن تأخذ من الناس أموالهم في الدنيا وتعطيهم بدلاً منها حسناتك يوم القيامة؟؟ إن حقوق الخلق عظيمة مبنية على المشاحة لا المسامحة، فعظّمها في نفسك، فتلك أول خطوة من خطوات العلاج.


2- العزيمة الجازمة والنية الصادقة على السداد:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»([15]).


قال ابن حجر: (أتلفه الله) ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا وذلك في معاشه أو في نفسه وهو علم من أعلام النبوة لما نراه بالمشاهدة فيمن يتعاطى شيئًا من الأمرين، وقيل المراد بالإتلاف: عذاب الآخرة ([16]).


وعن صهيب الخير عن رسول الله r قال: «أيما رجل يدين دينًا وهو مجمعٌ على أن لا يوفيه إياه لقي الله سارقًا»([17]).


أرأيت حين تكون النية سيئة ولا يكون عنده هم السداد كيف يتلفه الله بذهاب بركة ماله وتراكم الديون، أو يتلاحق الضر عليه في نفسه، ويُقْدم على الله سارقًا لمال أخيه ليكون القصاص يومئذ بالحسنات …



روى ابن ماجة بسند حسن والطبراني في الكبير ولفظه: قال رسول الله r: «الدين دينان، فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات وهو لا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذ دينار ولا درهم»([18])، وربك أعلم بالظالمين.





أما حين يكون عنده عزيمة جازمة ونية صادقة في السداد فإن الله يؤدي عنه، ويكون عونًا له، ففي حديث ميمونة رضي الله عنها أن رسول الله r قال: «ما من مسلم يدان دينًا، يعلم الله منه أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا»([19]).


إن النية الصادقة والعزيمة الجازمة ليست مجرد أمنيات يتغنى بها الإنسان، بل هي نية وعزيمة يتبعها عمل جاد من أجل السداد وإن من دلائل النية الصادقة والعزيمة الجازمة: المبادرة بالسداد متى توافر المبلغ أو جزء منه فإن ذلك يساعد في تقليل الديون حتى لو كان المبلغ الذي قمت بتسديده يسيرًا (فإنما السيل اجتماع النقط) ثم لو بقي المال في يدك لربما أتلفته في غير حاجة، ثم تأمل حال نبيك r حيث يقول: «لو كان لي مثل أحدٍ ذهبًا ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لديْن»([20]). إننا نحتاج إلى نوع من الحساسية تشعل في النفس المبادرة في السداد.


3- ومن قدر عليه رزقه فلينفق مم آتاه الله:


إن من حكمة الله وعدله أنه لم يرد أن يجعل الناس كلهم أغنياء، إذ لو كان كذلك لتعطلت مصالح الخلق }لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا{ [الزخرف: 32]. ثم إن الله تعالى لم يطالب الخلق بحقوق مالية متساوية بل فرض الزكاة على الغني دون الفقير وجعلها تختلف كثرة وقلة باختلاف نسبة الغني بين الناس.


إن القاعدة العظيمة في النفقات والمصاريف التي يجب أن يعيها الناس جيدًا هي قوله تعالى: }لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ{ [الطلاق: 7] أي من ضيق عليه في الرزق فكان دخله أقل فلينفق على قدر سعته وطاقته، ولذا قال بعدها: }لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا{ فالواجب على الإنسان أن يقيس حاله، ويوازن أموره، فلا يكلف نفسه ما لا يطيق: يقول ابن عبد البر رحمه الله، أنشدني بعض شيوخي رحمهم الله:

لا خير فيمن لم يكن عاقلاً

يمد رجليه على قدره

وعلى الزوجة أن تتقي الله تعالى فلا تكلف زوجها من الطلبات وغيرها ما لا يطيق مجاراةً للناس، فإن ذلك سبب للمشاكل، وموقع في الهلكة «خطب النبي r خطبة فأطالها وذكر فيها أمر الدنيا والآخرة فذكر: أن أول هلاك بني إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب أو الصيغ ما تكلف امرأة الغني … الحديث»([21]).


ويجب على الناس أيضًا أن لا يكلفوا غيرهم ما لا يطيقون، من خلال التزام عادات مكلَّفة في المهور وحفلات الأعراس والمساكن والأثاث والمراكب وغيرها.


4- عليك بحسن التدبير ولزوم الاقتصاد:

وهذا أمرٌ بالغ الأهمية.



أنت تمتلك مرتبًا لو أحسنت تدبيره لكفاك؛ بل ربما تكون من أهل الزكاة ممن لا يمتلك ما يكفيه. ومع ذلك لو أحسنت التدبير وأحكمت التصرف لاكتفيت أحيانًا كثيرة عما في أيدي الناس. عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله r: «كُلُوا، وتصدَّقوا، والبسُوا، في غير إسراف ولا مخيلة» أخرجه النسائي ([22]).


إن حسن التدبير ولزوم الاقتصاد يحتاج إلى قرارات حازمة يلزم المرء بها نفسه إن كان ذا عزيمة جازمة على السداد.

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع

أول هذه القرارات: الامتناع عن أخذ أي قرض جديد من أجل إيقاف تزايد مد الديون. إن من الناس من يداوي الدين بدين آخر فيفتح عينيه يوم يفتحها على أضعاف أضعاف ديونه السابقة، وهذا في الحقيقة يزيد من النزف لا يوقفه!!


بعض الناس يكون عنده عدة غرماء فيقول أستدين سيارة لأسدد بها الغرماء وأجعل قبلتي في السداد إلى واحد فقط! – ويحسب أنه بفعله ذلك يحسن صنعًا – وما علم أن دَيْنَه قبل ذلك كان أربعين ألفًا متفرقة على أشخاص فجمعها بستين ألفاً أو تزيد لشخص واحد!!


ومن القرارات: ترك شراء ما لا فائدة منه أو كانت فائدته قليلة، أو يمكن الاستغناء عنه إلى حين بحيث لا يتبع نفسه هواها، وجد عمر بن الخطاب مع ابن مسعود رضي الله عنهما طعامًا استنكره فقال: لم اشتريته؟ فقال ابن مسعود: اشتهيته فاشتريته، فقال عمر: أو كلما اشتهيت اشتريت؟!!


ومن القرارات: الشراء نقدًا ،أو حصر التسجيل على دكان واحد فقط ما أمكن، إن من الناس من يجعل له في كل دكان سِجِلاً مما يجعله لا يشعر بضخامة ما اجتمع عليه من ديون، فيغريه ذلك بمزيد شراء واستهلاك، وهو لا يذكر أنه اشترى من ذلك المحل إلا بقليل ،ونسي أنها عدة محلات ،وليست محلاً واحدًا.


ومن القرارات: قسَّم مرتبك على مصروفاتك والتزاماتك مسبقًا، فإذا جاء مرتبك الشهري فخذ منه قيمة الإيجار وقيمة الفواتير ومصروفاتك لبقية الشهر ،واجعل أيضًا من أول أعمالك الشهرية سداد القسط المقرر قبل أن تأكله الأيام، وألزم نفسك بالتقسيم ما استطعت، ولن تحتاج إلى اقتراض لسداد الإيجار أو الفواتير؛ بل سترى أنك قد قضيت ديونًا ما كان بحسبانك أن تقضيها.


ومن القرارات: لا تترك المبالغ الكبيرة في محفظتك، فإنك ستتنفقها وأنت لا تشعر، بعض الناس يأخذ مرتبه فيودعه محفظته فيطوف بالسوق مرتين أو ثلاثا، فينتهي ماله وهو لا يشعر.


ومن القرارات: إذا كنت لا تستطيع التعامل الجيد مع بطاقة الصراف فلا تحملها فإن لها من اسمها نصيباً فهي صرف متلاف.


5– السعي في توسيع موارد الرزق والاكتفاء به عن سؤال الناس:

لا يمكن اعتمادك على ما تتقاضاه آخر الشهر، خصوصًا إذا كان لا يفي بالحاجة ولا تسد به كامل الالتزامات. ابحث عن الطريق إلى السوق في عزة واستغناء كفعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مع الأنصاري يوم أعلنها مدوية: «دلوني على السوق»([23]).


6- الزم القناعة ولا تحقر نعمة الله التي أعطاك:



عندك من عطاء الله ونعمه ما يكفيك، وبالشكر تدوم النعم قال النبي r: «من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»([24]).


قال أبو حاتم ([25]): (القناعة تكون بالقلب: فمن غني قلبه غنيت يداه، ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه، ومن قنع لم يتسخط، ومن لم يقنع لم يكن له في الفوائت نهاية لرغبة).


وعن محمد ابن المنكدر عن أبيه قال: (القناعة كنز لا ينفد).


إن مد العينين إلى ما فضل الله به بعض الناس من سعة الرزق يدعو إلى احتقار فضل الله، ويحرك في النفس محاكاتهم ومشابهتهم مهما كَلَّف الأمر مما يزيد ثقل الظهر بالدَّين، وفي الحديث عنه r قال: «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله»([26]).

إن لم يكن لك لحم

كفاك خلٌّ وزيت


إن لا يكن ذا وهذا

فكسرة وبُيت


تظل فيه وتأوي

حتى يجيئك موت


هذا لعمري كفافٌ

فلا يغرك ليت

ومن القناعة أن لا تستشرف إلى ما فيه أيدي الناس وتلزم العفاف. عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله r أعطى عمر بن الخطاب عطاءً فقال عمر: يا رسول الله أعط من هو أفقر مني فقال رسول الله r: «خذه فتموله أو تصدق به وما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف إليه، ولا سائل له فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك»([27]).



ما الذي ألا تحمل المنن

فكن عزيزًا إن شئت أو فَهُن

ولما قدم يحيى بن أكثم البصرة قالت امرأة عبد الصمد المُعَدَّل: لو أتيته فسألته فقال:

تكلفني إذلال نفسي لعزها

وهان عليها أن أهان لتكرما


تقول سل المعروف يحي بن أكثم

فقلت سليه رب يحي بن أكثما

7- ألزم نفسك الصبر وانتظر الفرج }فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا{ [الشرح: 5، 6].


وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي r قال: «وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر»([28])، وقال عمر رضي الله عنه: «وجدنا خير عيشنا بالصبر»([29]).

يا أيها المرء الذي

يرى الهمّ به برّح


إذا ضاق بك الصدر

ففكر في ألم نشرح


فعسر بين يسرين

متى تَذْكُرْهما تفرح

8- لزوم الدعاء:

فعن علي بن أبي طالب «أن مكاتبًا(وهو العبد الذي اشترى نفسه من سيده) جاءه فقال: إني عجزت عن كتابتي فأعني قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله r: لو كان عليك مثل جبر (صِير) دَينًا أداه الله عنك قال: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عن سواك»([30]).


([1]) البخاري (2893).

([2]) النهاية في غريب الحديث ص548ط ابن الجوزي.

([3]) بهجة المجالس لابن عبد البر (1/214).

([4]) بهجة المجالس (1/216).

([5]) الجامع لأحكام القرآن (3/269).

([6]) الترغيب والترهيب (2793) وصححه الألباني.

([7]) البخاري (832).

([8]) المحاسن والمساوئ إبراهيم البيهقي ص332.

([9]) شرح القواعد السعدية للزامل ص32، 33.

([10]) الترغيب والترهيب (2815) وصححه الألباني.

([11]) مسلم (1886).

([12]) الترغيب والترهيب (2803) وصححه الألباني.

([13]) بهجة المجالس (1/214).

([14]) [حتى لا تغرق في الديون] للعبد العالي ص12 نقلاً عن لقاء الباب المفتوح.

([15]) البخاري (2387).

([16]) الفتح (5/68).

([17]) ابن ماجة (2410) وصححه الألباني.

([18]) هذا لفظ الطبراني في الكبير، ورواه ابن ماجة بمعناه بسند حسن (2414).

([19]) ابن ماجة (2408) وصححه الألباني دون قوله: «إلا الدنيا».

([20]) البخاري (6445).

([21]) السلسلة الصحيحة (591).

([22]) النسائي (2559) وهو حديث حسن.

([23]) البخاري (2048).

([24]) الترمذي (2346) وهو حديث حسن.

([25]) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للبستي ص119.

([26]) البخاري (6490).

([27]) البخاري (7163).

([28]) البخاري (1469).

([29]) علقه البخاري – كتاب الرقائق، باب الصبر عن محارم الله.

([30]) الترمذي (3563) وصححه الألباني.

جزاك الله خير
القعدة اقتباس القعدة
القعدة
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة وهبwhpyـي, القعدة
القعدة
القعدة
جزاك الله خير
القعدة القعدة

أمين ….أجمعين ان شاء الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.