أهل السنة
والجماعة
في العقيدة والعمل
[المقدمة]
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله تعالى يقول: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } .
أهل السنة والجماعة هم الذين هداهم الله تعالى لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وكلنا نعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بالهدى ودين الحق، الهدى: الذي ليس فيه ضلالة، ودين الحق: الذي ليس فيه غواية، وبقي الناس في عهده على هذا المنهاج السليم القويم، وكذلك عامة زمن خلفائه الراشدين، ولكن الأمة بعد ذلك تفرقت تفرقا عظيما متباينا، حتى كانوا على ثلاث وسبعين وفرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي ما كان عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، بهذا نقول: إن هذه الفرقة هي فرقة أهل السنة والجماعة، وهذا الوصف لا يحتاج إلى شرح في بيان أنهم هم الذين على الحق؛ لأنهم أهل السنة المتمسكون بها، وأهل الجماعة المجتمعون عليها، ولا تكاد ترى طائفة سواهم إلا وهم بعيدون عن السنة بقدر ما ابتدعوا في دين الله سبحانه وتعالى، ولا تجد فرقة غيرهم إلا وجدتهم فرقة متفرقين فيما هم عليه من النحلة.
وقد قال سبحانه وتعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } .
إذن لا حاجة لنا إلى التطويل بتعريف أهل السنة والجماعة؛ لأن هذا اللقب يبرهن على معناه برهانا كاملا، وأنهم المتمسكون بالسنة المجتمعون عليها، ونحن نلخص الكلام في نقاط رئيسية هي:
أهل السنة والجماعة طريقتهم في أسماء الله وصفاته أنهم يعتبرون أن ما ثبت من أسماء الله وصفاته في كتاب الله، أو فيما صح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو حق على حقيقته، يراد به ظاهره، ولا يحتاج إلى تحريف المحرفين؛ وذلك لأن تحريف المحرفين مبني على سوء فهم أو سوء قصد، حيث ظنوا أنهم إذا أثبتوا تلك النصوص أو تلك الأسماء والصفات على ظاهرها، ظنوا أن ذلك إثبات للتمثيل ولهذا صاروا يحرفون الكلم عن مواضعه وقد يكونون ممن لم يفهموا هذا الفهم، ولكن لهم سوء قصد في تفريق هذه الأمة الإسلامية شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن ما سمى الله به نفسه، وما وصف الله به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو حق على حقيقته وعلى ظاهره، ولا يحتاج إلى تحريف المحرفين بل هو أبعد ما يكون عن ذلك، وهو أيضا لا يمكن أن يفهم منه ما لا يليق بالله عز وجل من صفات النقص أو المماثلة بالمخلوقين، بهذه الطريقة المثلى يسلمون من الزيغ والإلحاد في أسماء الله وصفاته، فلا يثبتون لله إلا ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غير زائدين في ذلك ولا ناقصين عنه، ولهذا كانت طريقتهم أن أسماء الله وصفاته توقيفية لا يمكن لأحد أن يسمي الله بما لم يسم به نفسه، أو أن يصف الله بما لم يصف به نفسه.
فإن أي إنسان يقول إن من أسماء الله كذا، أو ليس من أسماء الله، أو أن من صفات الله كذا، أو ليس من صفات الله، بلا دليل؛ لأنه لا شك أنه قول على الله بلا علم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
وقال تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } .
ثم إن طريقتهم في أسماء الله تعالى أن ما سمى الله به نفسه، فإن كان من الأسماء المتعدية، فإنهم يرون من شرط تحقيق الإيمان به ما يلي:
1 – أن يؤمن المرء بذلك الاسم اسما له عز وجل.
2 – أن يؤمن بما دل عليه من الصفة سواء كانت الدلالة تضمنا أو التزاما.
3 – أن يؤمن بأثر ذلك الاسم الذي كان مما دل عليه الاسم من الصفة، ونحن هنا نضرب مثلا:
من أسماء الله تعالى: " السميع " يجب على طريق أهل السنة والجماعة أن يثبت هذا الاسم من أسماء الله، فيدعى الله به ويعبد به، فيقال مثلا: عبد السميع، ويقال: يا سميع يا عليم وما أشبه ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } .
وكذلك أيضا يثبت ما دل عليه هذا الاسم من الصفة وهي السمع، فنثبت لله سمعا عاما شاملا لا يخفى عليه أي صوت وإن ضعف.
كما نثبت أيضا أثر هذه الصفة وهي أن الله تبارك وتعالى يسمع كل شيء، وبهذا ننتفع انتفاعا كبيرا من أسماء الله؛ لأنه يلزم من هذه الأمور الثلاثة التي أثبتناها في الاسم إذا كان متعديا أن نتعبد الله بها، فنحقق قول الله عز وجل: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } .
فأنت إذا آمنت بأن الله يسمع فإنك لن تسمع ربك ما يغضبه عليك،
1 – أن نؤمن به اسما من أسماء الله فنثبته من أسمائه.
2 – أن نؤمن بما دل عليه من صفة.
3 – أن نؤمن بما يترتب على تلك الصفة من الأثر.
وبهذا يتحقق الإيمان بأسماء الله تبارك وتعالى المتعدية.
أما إذا كان الاسم لازما فإنهم يثبتون هذا الاسم من أسماء الله، ويسمون الله به، ويدعون الله به، ويثبتون ما دل عليه الاسم من صفة على الوجه الأكمل اللائق بالله تعالى، ولكن هنا لا يكون أثر؛ لأن هذا الاسم مشتق من شيء لا يتعدى موصوفه، فلذلك لا يكون له أثر، ونضرب مثلا بـ " الحي " فإن الحي من أسماء الله عز وجل، نثبته اسما لله فنقول: من أسماء الله تعالى: " الحي "، وندعو الله به فنقول: " يا حي، يا قيوم ".
ونؤمن بما دل عليه من صفة، سواء كان ذلك تضمنا أو التزاما، وهي الحياة الكاملة التي تتضمن كل ما يكون من صفات الكمال في الحي من علم وقدرة وسمع وبصر وكلام وغير ذلك، فعلى هذا نقول: إذا كان الاسم من أسماء الله غير متعد فإن تحقيق الإيمان به يكون بأمرين:
أحدهما: إثباته اسما من أسماء الله.
والثاني: إثبات ما دل عليه من الصفة على وجه الكمال اللائق بالله تبارك وتعالى.
هذه الصفة من صفات الله لم يرد اسم من أسماء الله مشتق منها فلم يرد من أسمائه المستوي، ولكننا نقول: إنه استوى على العرش، ونؤمن بهذه الصفة على الوجه اللائق به، ونعلم أن معنى الاستواء هو العلو، فهو علو خاص بالعرش، ليس العلو المطلق على جميع المخلوقات، بل هو علو خاص، ولهذا نقول في قوله تعالى: { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } : أي علا واستقر على وجه يليق بجلاله وعظمته، وليس كاستواء الإنسان على البعير والكرسي مثلا؛ لأن استواء الإنسان على البعير والكرسي استواء مفتقر إلى مكانه الذي يستوي عليه، أما استواء الله جل ذكره فإنه ليس استواء
ومن زعم أنه بحاجة إلى عرش يقله فقد أساء الظن بربه عز وجل، فهو سبحانه وتعالى غير مفتقر إلى شيء من مخلوقاته، بل جميع مخلوقاته مفتقرة إليه، كذلك النزول إلى سماء الدنيا حينما يبقى ثلث الليل الآخر نؤمن به على أنه نزول حقيقي، لكنه يليق بالله عز وجل لا يشبه نزول المخلوقين، ومن هنا نقول إنه يجب على المؤمن أن يتحاشى أمرا يلقيه الشيطان في باله أمرا خطيرا للغاية -وهو أمر حمل أهل البدع على تحريف النصوص من أجل هذا الأمر الذي يجعله الشيطان في قلوب الناس- ألا وهو تخيل كيفية صفة من صفات الله، أو تخيل كيفية ذات الله عز وجل.
فاعلم أنه لا يجوز أبدا أن يتخيل كيفية ذات الله، أو كيفية صفة من صفاته، واعلم أنك إن تخيلت أو حاولت التخيل فإنك لا بد أن تقع في أحد محذورين:
إما التحريف والتعطيل، وإما التمثيل والتشبيه، ولهذا يجب عليكم أيها الإخوة أن لا تتخيلوا أي شيء من كيفية صفات الله عز وجل، لا أقول: لا تثبتوا المعنى؛ لأن المعنى يجب أن يثبت، لكن تخيل كيفية تلك الصفة لا يمكن أن تتخيلها، وعلى أي مقياس تقيس هذا التخيل؟
لا يمكن أبدا أن تتخيل كيفية صفات الله عز وجل لا بالتقدير ولا بالقول، يجب عليك أن تتجنب هذا؛ لأنك تحاول ما لا يمكن الوصول إليه، بل تحاول ما يخشى أن يوقعك في أمر عظيم لا تستطيع الخلاص منه إلا بسلوك التمثيل والتعطيل؛ وذلك لأن الرب جلت عظمته لا يمكن لأحد أن يتخيله على كيفية معينة؛ لأنه إن فعل ذلك فقد قفا ما ليس له به علم، وقد قال الله تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .
وبهذا نعلم أن من أنكر صفات الله أنكرها لأنه تخيل أولا، ثم قالوا: هذا التخيل يلزم منه التمثيل، ثم حرفوا، ولهذا نقول: إن كل معطل ومنكر للصفات فإنه ممثل سبق تمثيله تعطيله، مثل أولا وعطل ثانيا، ولو أنه قدر الله حق قدره ولم يتعرض لتخيل صفاته سبحانه ما احتاج إلى هذا الإنكار، وإلى هذا التعطيل.
طريقتهم أنهم يعبدون الله لله وبالله وفي الله.
أما كونهم يعبدون الله لله فمعنى ذلك الإخلاص، يخلصون لله عز وجل، لا يريدون بعبادتهم إلا ربهم، لا يتقربون إلى أحد سواه، إنما يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، ما يعبدون الله لأن فلانا يراهم، وما يعبدون الله لأنهم يعظمون بين الناس، ولا يعبدون الله لأنهم يلقبون بلقب العابد، لكن يعبدون الله لله.
وأما كونهم يعبدون الله بالله أي مستعينين به، لا يمكن أن يفخروا بأنفسهم، أو أن يروا أنهم مستقلون بعبادتهم عن الله، بل هم محققون لقول الله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، فـ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } يعبدون الله لله، { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يعبدون الله بالله، فيستعينونه على عبادته تبارك وتعالى.
وأما كونهم يعبدون الله في الله أي في دين الله، في الدين الذي شرعه على ألسنة رسله، وهم وأهل السنة والجماعة في هذه الأمة يعبدون الله بما شرعه على لسان رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يزيدون فيه، ولا ينقصون منه، فهم يعبدون الله في الله في شريعته، في دينه، لا يخرجون عنه لا زيادة ولا نقصا، لذلك كانت عبادتهم هي العبادة الحقة السالمة من شوائب الشرك والبدع؛ لأن من قصد غير الله بعبادته فقد أشرك به، ومن تعبد الله بغير شريعته فقد ابتدع في دينه، والله سبحانه وتعالى يقول:
فعبادتهم لله في دين الله، لا يبتدعون ما تستحسنه أهواؤهم، لا أقول: ما تستحسنه عقولهم لأن العقول الصحيحة لا تستحسن الخروج عن شريعة الله؛ لأن لزوم شريعة الله مقتضى العقل الصريح، ولهذا كان الله سبحانه وتعالى ينعى على المكذبين لرسوله عقولهم ويقول: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } .
لو كنا نتعبد لله بما تهواه نفوسنا وعلى حسب أهوائنا لكنا فرقا وشيعا، كل يستحسن ما يريد فيتعبد لله به، وحينئذ لا يتحقق فينا وصف الله سبحانه وتعالى في قوله: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } .
ولننظر إلى هؤلاء الذين يتعبدون لله بالبدع التي ما أذن الله بها، ولا أنزل بها من سلطان، كيف كانوا فرقا يكفر بعضهم بعضا ويفسق بعضهم بعضا، وهم يقولون: إنهم مسلمون؟ لقد كفر بعض الناس بعضا في أمور لا تخرج الإنسان إلى الكفر، ولكن الهوى أصمهم وأعمى أبصارهم.
نحن نقول إننا إذا سرنا على هذا الخط لا نعبد الله إلا في دين الله، فإننا سوف نكون أمة واحدة، لو عبدنا الله تعالى بشرعه وهداه لا بهوانا لكنا أمة واحدة، فشريعة الله هي الهدى وليست الهوى.
إذن لو أن أحدا من أهل البدع ابتدع طريقة عقدية (أي تعود للعقيدة) أو عملية (تعود إلى العمل) من قول أو فعل، ثم قال: إن هذه حسنة، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: « من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة » ، قلنا له بكل بساطة: هذا الحسن الذي
والجواب: إن قال بالأول فشر، وإن قال بالثاني فأطم وأشر.
فإن قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعلم حسن هذه البدعة، ولذلك لم يشرعها.
قلنا: رميت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر عظيم حيث جهلته في دين الله وشريعته.
وإن قال: إنه يعلم ولكن كتمه عن الخلق.
قلنا له: وهذه أدهى وأمر لأنك وصفت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو الأمين الكريم، وصفته بالخيانة وعدم الجود بعلمه، وهذا أشر من وصفه بعدم الجود بماله، مع أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أجود الناس، وهنا شر قد يكون احتمالا ثالثا بأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمها وبلغها ولكن لم تصل إلينا، فنقول له: وحينئذ طعنت في كلام الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ، وإذا ضاعت شريعة من شريعة الذكر فمعنى ذلك أن الله لم يقم بحفظه، بل نقص من حفظه إياه بقدر ما فات من هذه الشريعة التي نزل من أجلها هذا الذكر.
وعلى كل حال فإن كل إنسان يبتدع ما يتقرب به إلى ربه من عقيدة أو عمل قولي أو فعلي فإنه ضال؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « كل بدعة ضلالة » ، وهذه كلية عامة لا يستثنى منها شيء إطلاقا، فكل بدعة في دين الله فإنها ضلالة وليس فيها من الحق شيء، فإن الله تعالى يقول: { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } .
ولا يرد على ذلك ما ابتدع من الوسائل الموصلة إلى الأمور المشروعة، فإن هذه وإن تلجلج بها أهل البدع وقعدوا بها بدعهم فإنه لا نصيب لهم منها، إلا أن يكون الراقم على الماء له نصيب من الحروف بارزة في الماء.
أقول: إن بعض الناس يستدلون على تحسين بدعهم التي ابتدعوها في دين الله، والتي يلزم منها ما سبق ذكره، بما أحدث من الوسائل لغايات محمودة.
احتجوا على ذلك بجمع القرآن، وبتوحيده في مصحف واحد وبالتأليف، وببناء دور العلم، وغير ذلك مما هو وسائل لا غايات، فهناك فرق بين الشيء الذي يكون وسيلة إلى غاية محمودة مثبتة شرعا، لكنها لا تتحقق إلا بفعل هذه الوسيلة، فهذه الوسيلة طبعا تتجدد بتجدد الزمن، وتختلف باختلاف العصور، ها هو قوله عز وجل: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }
فجمع القرآن والتصنيف وما أشبه ذلك كله وسائل لغايات هي مشروعة في نفسها، فيجب على الإنسان أن يفرق بين الغاية والوسيلة، فما قصد لذاته فقد تم تشريعه من عند الرسول عليه الصلاة والسلام بما أوحاه الله إليه من الكتاب العظيم، ومن السنة المطهرة، ولدينا ولله الحمد آية نتلوها في كتاب الله، وهي قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } ، فلو كان في المحدثات ما يكمل به الدين لكانت قد شرعت وبينت وبلغت وحفظت، ولكن ليس فيها شيء يكون فيه كمال الدين، بل نقص في دين الله.
قد يقول بعض الناس: إننا نجد في هذه الحوادث نجد عاطفة دينية ورقة قلبية واجتماعا عليها، فنقول: إن الله تعالى أخبر عن الشيطان أنه قال: { ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } ، يزينها الشيطان في قلب الإنسان ليصده عما خلق له، عن عبادة الله التي شرع فترضخ النفس بواسطة تسلط الشيطان على المرء حتى يصده عن دين الحق، « وقد أخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى »
وحكم الله الشرعي والقدري لا شريك له فيه أبدا { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } ، وركزت على هذا الأمر لكي يعلم أهل الإحداث المحدثون أنه لا حجة لهم فيما أحدثوه، واعلم رحمك الله أنه لا طريق إلى الوصول إلى الله عز وجل وإلى دار كرامته إلا من الطريق الذي وضعه هو سبحانه وتعالى على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لله المثل الأعلى لو أن ملكا من الملوك فتح بابا للدخول عليه، وقال: من أراد أن يصل إلي فليدخل من هذا الباب، فما ظنكم بمن ذهب إلى أبواب أخرى؟ هل يصل إليه؟ كلا بالطبع.
والملك العظيم، ملك الملوك، وخالق الخلق، جعل طريقا إليه خاصا بما جاءه به رسله وعلى رأسهم خاتمهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي بعد بعثه لا يمكن لأي بشر أن ينال السعادة إلا من طريقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والحقيقة أن تعظيم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الأدب مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن نسلك ما سلك، ونذر ما ترك، وأن لا نتقدم بين يديه، فنقول في دينه ما لم يقل، أو نحدث في دينه ما لم يشرع.
من المعلوم أنه لا يتم الإسلام إلا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والشهادة لا تتحقق إلا بثلاثة أمور :
1 – عقيدة في القلب.
2 – نطق في اللسان.
3 – عمل في الأركان.
ولهذا يقول المنافقون للرسول عليه الصلاة والسلام إذا جاءوه: نشهد إنك لرسول الله، ويقول الباري جل ذكره فيهم: { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } لماذا؟ لأن هذه الشهادة فقد منها أعظم ركن فيها وهو العقيدة، فهم يقولون بألسنتهم ما لا يعتقدونه في قلوبهم، فمن قال: أشهد أن محمدا رسول الله ولكن قلبه خال من هذه الشهادة، فإنه لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله.
ومن اعتقد ذلك ولم يقله بلسانه فإنه لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله.
ومن قال ذلك لكن لم يتبعه في شريعته فإنه لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله، وكيف تخالفه وأنت تعتقد بأنه رسول رب العالمين، وأن شريعة الله هو ما جاء به؟
كيف تقول إنك شهدت أن محمدا رسول الله على وجه التحقيق؟ لهذا نعتقد أن كل من عصى الله ورسوله فإنه لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله.
لست أقول إنه ما يشهد، ولكنه لم يحقق، وقد نقص من تحقيقه إياه بقدر ما حصل منه من مخالفة.
وليسوا يحبونه من باب التعبد له بمحبته؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يتعبد لله به -أي بشرعه- ولكنه لا يعبد هو.
فهم يحبون الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه رسول رب العالمين، ومحبتهم له من محبة الله تبارك وتعالى، ولولا أن الله أرسل محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي لكان رجلا من بني هاشم لا يستحق هذه المرتبة التي استحقها بالرسالة.
إذن نحن نحبه ونعظمه لأننا نحب الله ونعظمه، فمن أجل أنه رسول الله، وأن الله تبارك وتعالى هدى به الأمة حينئذ نحبه، فالرسول عليه الصلاة والسلام عند أهل السنة والجماعة محبوب؛ لأنه رسول رب العالمين، ولا شك أنه أحق الناس، بل أحق الخلق وأجدرهم بتحمل هذه الرسالة العظيمة عليه الصلاة والسلام.
كذلك أيضا يعظمون الرسول عليه الصلاة والسلام حق التعظيم، ويرون أنه أعظم الناس قدرا عند الله عز وجل.
لكن مع ذلك لا ينزلونه فوق منزلته التي أنزله الله، يقولون إنه عبد الله، بل « هو أعبد الناس لله عز وجل حتى إنه يقوم حتى تتورم قدماه، فيقال: كيف ذلك وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: " أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟ » .
من يحقق العبادة كتحقيق الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ولهذا قال: « إني والله أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى » ، فهو بلا شك أعظم العابدين عبادة وأشدهم تحقيقا لها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا حين تحدث عن البصل والكراث قال المسلمون: حرمت، فقال: « أيها الناس إنه ليس لي »
انظروا إلى هذا الأدب مع الله عز وجل، هكذا العبودية، ولهذا هم يقولون: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد من عباد الله، وهو أكمل الناس في عبوديته لله.
ويؤمنون أيضا بأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا لغيره، والله تعالى قد أمره أن يبلغ ذلك إلى الأمة فقال: { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } .
وما هي وظيفته؟ { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } ، ومن زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم شيئا من الغيب غير ما أطلعه الله عليه فهو كافر بالله ورسوله؛ لأنه مكذب لله ورسوله.
فإن الرسول أمر أن يقول وقال، قال قولا يتلى إلى يوم القيامة، قوله: { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } .
وبمناسبة هذه الآية الكريمة أود أن أقول: إن القرآن الكريم أحيانا تصدر الأخبار فيه بكلمة: (قل) وكل شيء صدر بهذه الكلمة معناه أن الله سبحانه وتعالى اعتنى به عناية خاصة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أمر أن يقول كل القرآن { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } ، لكن هذا الذي خص بكلمة (قل) فيه عناية خاصة استحق أن يصدر بالأمر بالتبليغ على وجه الخصوص، مثل هذه الآية ومثلها في الأحكام: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ }
ويعتقدون أن الرسول عليه الصلاة والسلام بشر ليس له من شئون الربوبية شيء، ولا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، حتى إنه عليه الصلاة والسلام يسأل أحيانا عن شيء من الأحكام الشرعية فيتوقف حتى يأتيه الوحي، حتى إنه أحيانا يصدر القول فيأتيه الاستثناء أو الاستدراك من عند الله عز وجل، فقد « سئل عليه الصلاة والسلام عن الشهادة هل تكفر كل شيء؟ فقال: " نعم "، ثم قال: " أين السائل؟ " فقال: " إلا الدين، أخبرني بذلك جبريل آنفا » ، أحيانا يجتهد عليه الصلاة والسلام، ولكن يأتيه الوحي من الله عز وجل بأن الخير في كذا وكذا خلاف ما اجتهد فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن الرسول عليه الصلاة والسلام عبد عابد لله عز وجل، وليس له من شئون الربوبية شيء، هذا هو قول أهل السنة والجماعة في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يعتقد أهل السنة والجماعة أيضا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر تجوز عليه كل الخصائص البشرية والجسدية، فينام ويأكل ويشرب ويمرض ويتألم ويحزن ويرضى ويغضب عليه الصلاة والسلام، ويموت كما يموت الناس، { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } ، { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا }
ومن زعم أنه حي في قبره حياة جسدية لا حياة برزخية، وأنه يصلي ويصوم ويحج، وأنه يعلم ما تقوله الأمة وتفعله، فإنه قد قال قولا بلا علم.
فالرسول عليه الصلاة والسلام انقطع عمله بموته كما قال هو نفسه: « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له » .
فعمله الذي يعمله بنفسه انقطع بموته، ولكن لا شك أن كل علم علمناه من شريعة الله فإنه بواسطته عليه الصلاة والسلام، وحينئذ فيكون منتفعا من كل هذه العلوم التي علمناها بعد موته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك الأعمال الصالحة التي نعملها كانت بدلالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون له مثل أجر العاملين.
أهل السنة والجماعة يعرفون للصحابة قدرهم، وأنهم خير القرون بشهادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيما ثبت عنه من حديث عمران بن حصين : « خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » ، فالصحابة خير هذه الأمة بلا شك، ولكنهم على مراتب، بعضهم أفضل من بعض.
قال الله تعالى: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } ، وقال الله تعالى: { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } .
ولكن هذه المراتب وهذه الفضائل يجب أن نعرف أن الواحد فيهم له مرتبة على الإطلاق، وله مرتبة خاصة، أي أنه قد يكون أفضل من غيره على سبيل العموم والإطلاق، ويكون في غيره خصلة هو أفضل منه، فيها وأهل السنة والجماعة يقولون: إن أفضل الصحابة الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، يرتبونهم في الفضل حسب ترتيبهم في الخلافة، ولكن لا يلزم من كون أبي بكر أفضل الصحابة ألا يتميز أحد من الصحابة عن أبي بكر بمنقبة خاصة.
وقد يكون لعلي بن أبي طالب منقبة ليست لأبي بكر، وقد يكون لعمر منقبة ليست لأبي بكر، كذلك قد يكون لعثمان، ولكن الكلام على الفضل المطلق والمرتبة الكلية العامة، فإن مراتب الصحابة تختلف اختلافا
فإن خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف تنازعا في أمر، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالد : « لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » .
كذلك أيضا أهل السنة والجماعة يقولون: إن بعض الصحابة له مزية ليست لغيرهم، فيجب أن ننزلهم في منازلهم، فإذا كان الصحابي من آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام كعلي بن أبي طالب وحمزة والعباس وابن عباس وغيرهم فإننا نحبه أكثر من غيره من حيث قربه من الرسول عليه الصلاة والسلام، لا على سبيل الإطلاق، فنعرف له حقه بقرابته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنه لا يلزم من ذلك أن نفضله على غيره تفضيلا مطلقا ممن له قدم راسخ في الإسلام أكثر من هذا القريب من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن المراتب والفضائل هي صفات يتميز الإنسان بصفة منها لا يتميز بها الآخر.
وأهل السنة والجماعة في آل البيت لا يغلون غلو الروافض، ولا ينصبون العداوة لهم نصب النواصب، ولكنهم وسط بين طرفين، يعرفون لهم حقهم بقرابتهم من الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنهم لا يتجاوزون بهم منزلتهم.
أئمة هذه الشريعة الإسلامية ولله الحمد أئمة مشهورون أثنت عليهم الأمة وعرفت لهم قدرهم، ولكنها لا تعتقد فيهم العصمة، فليس عند أهل السنة والجماعة أحد معصوم من الخطأ ولا من الإقرار على الخطأ، إلا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه معصوم من الإقرار على الخطأ، أما غيره مهما بلغت إمامته فإنه ليس معصوما أبدا، كل يخطئ وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي أمرنا الله تعالى بطاعته على الإطلاق.
فهم يقولون لا شك أن في هذه الأمة أئمة، ولا شك أن فيها أولياء، ولكننا لا نريد بذلك أن نثبت العصمة لأحد من هؤلاء الأئمة، ولا أن نثبت لأحد من الأولياء أنه يعلم الغيب أو يتصرف في الكون، وهم أيضا لا يجعلون الولي من قال عن نفسه: إنه ولي، أو أتى بالدعايات الباطلة لأجل أن يجلب الناس إليه يقولون: إن الولي بينه الله تعالى بقوله:
{ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } ، هؤلاء الأولياء: الذين آمنوا، وكانوا يتقون، فالإيمان: العقيدة، والتقوى: العمل قولا كان أو فعلا، وأخذ شيخ الإسلام من هذه الآية عبارة طيبة وهي قوله: " من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا "، هذا الولي حقيقة، لا الولي الذي يجلب الناس إليه، ويجمع الحاشية ويقول: أنا أفعل، ويستعين بالشياطين على معرفة الخفي، ثم يبهر الناس بما يقول فيقولون: هذا ولي، لا لأن الولاية تكون باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، وبإيمانه وتقواه، فإن كان مؤمنا تقيا فهو ولي.
يوجد أناس حسب ما نسمع في هذه الأمة يدعون أنهم أولياء، ولكن من تأمل حالهم وجد أنهم بعيدون عن الولاية، وأنه لا حظ لهم فيها، لكن لهم شياطين يعينونهم على ما يريدون، فيخدعون بذلك البسطاء من الناس.
يرى أهل السنة والجماعة أن المجتمع الإسلامي لا يكمل صلاحه إلا إذا تمشى مع ما شرعه الله سبحانه وتعالى له، ولهذا يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف: كل ما عرفه الشرع وأقره، والمنكر: كل ما أنكره الشرع وحرمه، فهم يرون أن المجتمع الإسلامي لا يصلح إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأننا لو فقدنا هذا المقوم لحصل التفرق، كما يشير إليه قول الله عز وجل: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
وهذا المقوم وللأسف في هذا الوقت ضاع أو كاد؛ لأنك لا تجد شخصا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى في المحيط القليل المحصور إلا ما ندر.
وإذا ترك الناس هكذا كل إنسان يعمل ما يريد تفرق الناس، ولكن إذا تآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر صاروا أمة واحدة، ولكن لا يلزم إذا رأيت أمرا معروفا أن يكون معروفا عند غيرك، إلا في شيء لا مجال للاجتهاد فيه، إنما ما للاجتهاد فيه مجال فقد أرى أن هذا من المعروف، ويرى الآخر أنه ليس منه، وحينئذ يكون المرجع في ذلك كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } ، ولكن طريقة أهل السنة والجماعة في هذا الباب العظيم
أولا: أن يكون الإنسان عالما بالحكم بحيث يعرف أن هذا معروف، وأن هذا منكر، أما أن يأتي عن جهل، ثم يأمر بشيء يراه معروفا في ظنه، وهو ليس بمعروف، فهذا قد يكون ضره أكبر من نفعه، لذلك لو فرضنا شخصا تربى في مجتمع يرون أن هذه البدعة معروف، ثم يأتي إلى مجتمع جديد غيره يجدهم لا يفعلونها، فيقوم وينكر عليهم عدم الفعل، ويأمرهم بها، فهذا خطأ، فلا تأمر بشيء إلا حيث تعرف أنه معروف في شريعة الله، ليس بعقيدتك أنت وما نشأت عليه، فلا بد من معرفة الحكم، وأن هذا معروف حتى تأمر به، وكذلك المنكر.
ثانيا: لا بد أن تعلم أن هذا المعروف لم يفعل، وأن هذا المنكر قد فعل، وكم من إنسان أمر شخصا بمعروف فإذا هو فاعله، فيكون في هذا الأمر عبئا على غيره، وربما يضع ذلك من قدره بين الناس.
وإذا رأينا هدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجدنا أن هذه طريقته، « دخل رجل يوم الجمعة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب وجلس، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أصليت؟ " قال: لا، قال: " فقم فصل ركعتين » ، صلاة الركعتين لداخل المسجد من المعروف ولا شك، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمره به مباشرة حتى علم أنه لم يفعله، فأنت قد تأمر هذا الرجل أن يفعل شيئا، وإذا هو قد فعله فتتسبب إلى التعجل وعدم التريث وتحط من قدرك، ولكن اسأل وتحقق إذا لم يفعل حينئذ تأمر به.
وكذلك أيضا بالنسبة للمعاصي، فبعض الناس قد ينهى شخصا عما يراه منكرا وليس بمنكر.
مثال ذلك:
رأيت رجلا يصلي الفريضة وهو جالس، فنهيته بأنه ليس له حق أن
ثالثا: أن لا يترتب على فعل المعروف ما هو منكر أعظم مفسدة من منفعة المعروف، فإن ترتب على فعل المعروف منكر هو أشد ضررا من المنفعة الحاصلة بهذا المعروف فإن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، وهذه الكلمة المعروفة هي القاعدة التي دل عليها القرآن ليست أيضا على إطلاقها، أي أنه ليست كل مفسدة درؤها أولى من جلب مصلحة، بل إذا تكافأت مع المصلحة فدرء المفسدة أولى، وإذا كانت أعظم من المصلحة فدرء المفسدة أولى، والله سبحانه وتعالى يقول: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، فسب آلهة المشركين كل يعلم أنه مصلحة وأن فيه خيرا، لكن إذا تضمنت هذه المصلحة ما هو أنكر -وأنكر من باب التفاضل الذي ليس في الطرف الآخر منه شيء- إذا تضمن مفسدة عظيمة فإنها تترك؛ لأننا إذا سببنا آلهتهم ونحن نسبها بحق سبوا الله عدوا بغير علم.
فهذه نقطة ينبغي أن نتفطن لها عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما إذا كانت المفسدة تنغمر في جانب المصلحة فإننا نفضل المصلحة ولا يهمنا، وهذا عليه شيء كثير من أحكام الله الشرعية والكونية.
فمثلا هذا المطر الذي ينزل وفيه مصلحة عامة لكن فيه ضررا على إنسان بنى سقفه الآن وجاء المطر فأفسده، لكن هذه المفسدة القليلة منغمرة في جانب المصلحة العامة، وهكذا أيضا الأحكام الشرعية كالأحكام
ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالتدرج في التشريع حتى يقبلها الناس شيئا فشيئا، وهكذا المنكر لا بد أن نأخذ الناس فيه بالمعالجة حتى يتم الأمر، هذه هي الثلاثة الأمور:
1 – العلم بالحكم.
2 – العلم بالحال.
3 – أن لا يترتب على فعل المعروف منكر أعظم مفسدة.
الإيمان حقيقته عند أهل السنة والجماعة هي: " اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح "، ويستدلون لقولهم هذا بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان » ، فالقول قول اللسان: « لا إله إلا الله » ، وعمل الجوارح وعمل القلب " « الحياء » « وإماطة الأذى عن الطريق » .
أما عقيدة القلب فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره » .
وهم أيضا يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، فالقرآن قد دل على زيادته، والضرورة العقلية تقتضي أن كل ما ثبت أنه يزيد فهو ينقص إذ لا تعقل الزيادة بدون نقص { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } ، { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } ، ولا شك في ذلك، ومتى قلنا: إن الإيمان قول وعمل فإنه لا شك أن الأقوال تختلف، فليس من قال: " سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر " مرة كمن قالها أكثر، وكذلك أيضا نقول: إن الإيمان الذي هو عقيدة القلب يختلف قوة وضعفا، وقد قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ، فإنه ليس الخبر كالمعاينة والمشاهدة.
رجل أخبر بخبر أخبره رجل واحد حصل عنده شيء من هذا الخبر، فإذا جاء ثان ازداد قوة فيه، وإذا جاءه الثالث ازداد قوة وهلم، وعليه
وبهذا تم ما أردنا الكلام عليه، والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.