هدي و رحمة
إنَّ معرفةَ طريقِ الهُدَى وحدها لا تَكْفِي للسير فيه،
فقيودُ الشهواتِ تقيِّدُ القلبَ وتجذبُه إلى الأرض، ووساوسُ الشيطانِ وإغراءاتُه تثبِّط الإنسانَ كلَّما هَمَّ بفعل الخير.
… نعم، هذا صحيحٌ فمعرفةُ طريق الهُدَى وحدها لا تكفي بل لابدَّ من وسيلةٍ تُعِينُ الناسَ على السير فيه ..
لابدَّ من دواءٍ يَشْفِي صدورَهم، ويُخَلِّصُ قلوبَهم من سيطرةِ الهوى وحبِّ الدنيا والتثاقُلِ إلى الأرض، لابدَّ من وجودِ مادةٍ تُفَجِّرُ الطاقاتِ وتولِّدُ القوةَ الدافعةَ داخلَ الإنسان للسيرِ في طرق الهداية ..
وهنا يظهر أعظمُ جانبٍ لمعجزة
القرآن، ألا وهو قدرتُه الفذَّة على التغييرِ والتقويم لكل مَن يُقْبِل عليه، ويدخل في دائرة تأثير مُعْجِزته،
وذلك من خلال قوة تأثيره على المشاعر، فيمتزج بها مدلولُ القناعاتِ العقلية التي تُقَدِّمها الآياتُ فتصبح إيماناً يستقرُّ في القلب،
ليتم ترجمةُ هذا الإيمان بعد ذلك في صورة عملٍ وسلوك.
فالقرآنُ ليس وسيلةً للهداية فقط بل هو {هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44].
..
يدلُّ الناسَ على الطريقِ إلى الله، ويأخذُ بأيديهم إليه،
ويكونُ لهم في ذلك الطريق نعم الصاحب الأمين {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15، 16].
أرأيتَ ما وَصَفَ اللهُ به القرآن، وأنه ليس بكتابِ هدايةٍ فقط بل إنه أيضًا يقوم بإخراج الناسِ من الظلماتِ إلى النورِ بإذن الله؟!
ومما يؤكِّدُ هذا المعنى المثالُ الذي ضَرَبَه الله – عز وجل – للناسِ وبَيَّنَ فيه قدرةَ القرآنِ على التأثير والتغيير:
وقوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
فالقرآنُ هو الرحمةُ العُظْمَى التي أرسلها الله للبشريةِ لتكون بمثابةِ الوسيلةِ السهلة والدواءِ الناجعِ لشفائها من أمراضها، وهدايتها إليه وقوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
.. نعم – أخي – هذه هي أهمُّ وأخطرُ وظيفة للقرآن، وهذا هو السرُّ الأعظم لمعجزته، فكلُّ آيةٍ من آياته، وكلُّ سورةٍ من سِوَرِه، تحملُ منابعَ غزيرة للإيمان .
. هذه المنابعُ جاهزةٌ للتفجُّر والتدفُّق في قلبِ أي شخصٍ يتعرَّضُ لها مهما بلغتْ قَسْوَتُه، ومهما كانت عِلَّتُه.
فالقرآن لا يستعصي عليه – بإذن الله – مرضٌ من الأمراض إلا ويشفيه، ولا شبهةٌ أو ظلمةٌ من الظلمات إلا وينيرها بنور الله الذي يَفِيضُ ويَشِعُ من كلِّ آياتِه وكلماتِه
فيتبدّلُ حالُ كلِّ من يتعرّضُ له تعرُّضاً مستمِرًَّا ليصبحَ شخصاً آخر تتمثّلُ فيه معاني العبودية الحَقَّة، والتعامل الصحيح المتوازن مع كل مُتَغِيِّراتِ حياتِه.