تخطى إلى المحتوى

متى تكون النكتة تعبيرا عن الرأي العام 2024.

مقدمة:

جميل أن نضحك وأجمل منه أن نضحك من أنفسنا ففي ذلك تنفيس عما نواجهه في الحياة من تنغيص وإحباط؛ حيث يصبح الضحك "فشة خلق" كما يقول اللبنانيون، ولا أعتقد أن هناك شعبا على وجه الأرض بصرف النظر عن مستواه الاقتصادي ونمط ثقافته ونظامه السياسي ودرجة حريته في التعبير لا يضحك على نفسه، أو انه لا يحب الضحك وتعاطي النكتة سماعا وتأليفا وتناقلا للتنفيس عن مكبوتاته وربما للضحك من أجل الضحك فقط. هذه المقدمة هي مدخل لقضيتنا لهذا الشهر حول تفشي النكتة في المجتمع السعودي في العقود الأخيرة بدرجة تجعل منها ظاهرة تستوجب التحليل؛ لما تنطوي عليه من أبعاد ومضامين اجتماعية و ثقافية جديرة بالتأمل. نشير بهذا الخصوص إلى إن العرب وفي مختلف عصورهم لم يهملوا النكتة والطرائف ونوادر الكلام تداولا وتأليفا؛ فالمكتبة العربية تذخر بالكثير من كتب التراث التي تعد بحق من أمهات الكتب كتصنيفات الجاحظ وكتابه الشهير "البخلاء" حيث يورد الكثير من المواقف الضاحكة لبخلاء مدينة مرو الخراسانية. أما الإمام الجوزي فقد وضع كتبا في النوادر والطرائف ناهيك عما كتبه عن أصحاب العاهات كالعميان والبرص. وفي العصور المتأخرة ظهر كتاب نوادر جحا الكبرى الذي تشير محتوياته انه مترجم عن التركية وربما الفارسية. أيضا فأن جل ما ورد في كتاب الأستاذ عبدالرحمن السويداء "فتافيت" بأجزاءه الثلاثة يدخل في باب النوادر والنكت، علما إن المدرسة الحجازية ككتابات المرحوم أحمد السباعي (خالتي كدرخان) وكذلك الأشعار الحلمنتيشية للمرحوم أحمد قنديل وغيرها من الكتابات كالتمثيليات الإذاعية التي يكتبها الأستاذ يحيى باجنيد تعد رائدة والتي يمكن إدخالها تحت هذا الباب، عدا إن البعض يطلق على ما يكتبه الأدباء من كوميديا تتضمن بعض النكات "أدبا ساخرا" تمييزا له عن النكتة التي تمتاز بالتكثيف وإصابة الهدف المتوخى منها بأقل عدد من الكلمات. تمتاز النكتة أيضا بأنها تأتي باللهجة الدارجة فالنكت التي يوردها الجاحظ على سبيل المثال في "بخلائه" قد لا تضحك رجلا أميا لا يعرف أسرار اللغة العربية كمن هو ضليع بهذه اللغة.
سوسيولوجيا النكتة:
تنبع الأهمية السوسيولوجية "للنكتة السعودية" من حقيقة أن معظم ما يتم تداوله منها هو وليد البيئة الاجتماعية للمجتمع السعودي بمختلف شرائحه ومناطقه وأقاليمه و وقبائله، أو ما يمكن تسميته "بالخصوصية السعودية" كمجتمع محافظ حيث تقوم النكتة بفضح المستور من ثقافة المجتمع مما يقدم مادة خصبة للباحث السوسيولوجي لفهم خفايا المجتمع. هناك بطبيعة الحال ما يتم "توطينه" من النكت اللاذعة بعد إجراء بعض التعديلات والإضافات كما في النكت التي تقال حول سكان صعيد مصر "الصعايدة" على سبيل المثال حيث تحور النكتة بشكل بارع ومن ثم يتم إلصاقها بسكان منطقة معروفة لترسيخ صور نمطية معدة سلفا stereotype حول سكان تلك المنطقة كالسذاجة وربما الغباء الذي يصل إلى حد السخرية المرة. ومن السمات المألوفة في النكتة السعودية تركيزها الدائم على قضايا أصبحت مألوفة جدا تدور حول فكرة التباينات بين الأفراد على أساس مناطقي وقبلي ناهيك عن علاقات الجندر (علاقة الرجال بالنساء) وعلاقة الأزواج بزوجاتهم، أي دوران النكتة في المحيط الاجتماعي- الثقافي أكثر من المحيط السياسي؛ فالأخير يتم استجلاب نكتته – عادة وليس دائما- من مجتمعات أخرى ليصار إلى إعادة إنتاجها بنكهة سعودية.
النكتة وحرية التعبير:
للنكتة مواسم تزدهر بها إلا إنها عموما تنتشر في المجتمعات التي تتناقص فيها حرية التعبير بدرجة كبيرة freedom of expression، بل إن هناك علاقة طردية بين النكتة وحرية التعبير إذ كلما ضاقت مساحة وحرية التعبير في مجتمع ما أزداد انتشار النكتة وتداولها بل وزادت كمية السخرية في محتواها لتصبح كوميديا سوداء بجداره. وفي معظم الدول العربية فأن سياسة الدولة وقراراتها وربما رموزها تصبح موضوعات للنكتة؛ وهو ما يذكرنا ببعض "الوظائف الايجابية" للنظم الدكتاتورية كما هو الحال عليه في المجتمع العراقي إبان فترة الرئيس صدام حسين الذي راج في عهده عدد كبير من النكت التي يمكن وصفها بالسوداء بسبب كمية السخرية التي تتضمنها، بل إن بعض تلك النكت حورت لإطلاقها على زعماء آخرين انطلاقا من مسلمة إن الجميع يمارس الاستبداد وان بدرجات متفاوتة عدا إن استبداد وبطش صدام حسين كانا الأسوء. في جو كهذا فأن النكتة تقوم بثلاث وظائف: تحفيز الإبداع لدى مؤلفي النكتة وكذلك الكتاب والأدباء الذين يدفعهم بطش النظام إلى ابتكار أساليب جديدة في التعبير يغلب عليها الطابع الرمزي وربما الإغراق في الرمزية لدرجة الإبهام المفتعل للتحايل على الرقيب ومن ثم نشر العمل وجعله في متناول القاري. أما الوظيفة الثانية للنكتة فهي في إضحاك الناس والتنفيس عن معاناتهم جراء الكبت وصعوبة التعبير، علما إن معظم النظم الحاكمة في العالم العربي تتسامح مع تلك النكت حتى وان اتسمت بالمبالغة. وتتمثل الوظيفة الثالثة للنكتة في النقد الاجتماعي للنظام وربما رموزه عندما يتعذر النقد في وسائل الإعلام وهي في الغالب أجهزة رسمية. ويتم كل ذلك من خلال قالب فكاهي يخفف من حدة الاحتقان الشعبي ويشير إلى مواضع الخلل في سياسة الدولة. في وضع كهذا يصبح للنكتة وظيفة خلاقة حيث لا يمكن السيطرة عليها فهي تنتشر بسرعة فائقة بفعل وسائل الاتصال الحديثة كالجوالات (الهواتف المحمولة) والإنترنت. ويرى بعض المطلعين إن معظم الزعماء بما فيهم رؤساء دول كبرى لديهم أشخاص بعض مهامهم تتمثل في رصد ما يصدر من نكت لنقلها إلى الزعيم لاطلاعه على ما يوجه لسياسته من نقد ومدى الرضا الذي يحظى به بين أوساط شعبه. تصبح النكتة والحال كذلك "ترمومترا" يقوم برصد المزاج الشعبي تجاه سياسة الدولة وهي وظيفة خلاقة للنكتة.
النكتة المحلية:
هناك بطبيعة الحال نكت محلية صرفة يصعب ترجمتها إلى أي لغة أخرى وهو ما يعود إلى عاملي اللغة والثقافة؛ فعلى المستوى اللغوي ربما كانت النكتة مرتبطة بتركيبة لغوية وكلمات موغلة في محليتها ما يجعلها عصية على الترجمة بل إنها تفقد معناها عند الترجمة وتصبح مجرد كلمات ليس لها معنى؛ ومن ذلك بعض ما يورده الفنان الهليل من تعليقات ساخرة في رسومه الكاريكاتورية في جريدة الرياض حيث يصعب على غير "النجدي" أحيانا فهم مضمون النكتة بسبب استخدام الفنان كلمات "نجدية". هناك ما يماثل هذا الأسلوب ورد في نوادر جحا الكبرى؛ حيث تقول النكتة إن أحد أصدقاء جحا وأسمه "حسن" ذهب إلى صانع أختام ليسك له ختما عليه كلمة "حسن" وقد أخبره الصائغ أن ذلك سيكلف تسعة دراهم؛ فتكلفة الحرف ثلاثة. وعندما علم جحا بالأمر تفتق ذهنه عن فكرة بسيطة فقد طلب من الصائغ كتابة "خس" بدلا من "حسن" لإنقاص المبلغ إلى ستة دراهم، وعندما بدأ الصائغ بعمله طلب منه جحا وضع نقطة الخاء عند نهاية حرف السين. هذه النادرة قد يصعب شرحها لمن لا يعرف حروف الهجاء العربية وطريقة كتابتها وهو ما يدخل تحت باب ما يتعذر ترجمته من نكت إلى لغة أخرى، إلا انه ربما أمكن ترجمتها إلى الفارسية لتشابه رسم الحروف العربية مع حروف الفارسية. ويدخل تحت النكت التي يصعب ترجمتها "السقطات اللغوية" التي يقع فيها البعض كالرؤساء أمثال جورج بوش الابن للدرجة التي جعلت أحد الكتاب يصدر كتابا كاملا يتناول سقطات بوش اللغوية، على إن معظم ما يرد فيه من سقطات لغوية تفقد وظيفتها في الإضحاك عند ترجمتها إلى لغة أخرى بل إن بعضها عصي على الترجمة.
أما العامل الآخر الذي يجعل من الصعوبة بمكان ترجمة النكتة فيتعلق بالمضمون الثقافي للنكتة cultural context ؛ فما قد يكون باعثا على الضحك في مجتمع ما قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر؛ والعكس هو الصحيح فالنكتة قد تفقد وظائفها في النقد الاجتماعي و الإضحاك؛ وهناك مئات الأمثلة التي تؤيد ذلك؛ ومنها على سبيل المثال تلك النكتة التي تدور حول رجل ينتمي إلى أحدى قبائل المنطقة الشمالية في المملكة قدم إلى المنطقة الوسطى وسأله بعض سكانها عن سر عدم وجود عمليات إرهابية في منطقته أسوة بالمناطق الأخرى التي كانت مسرحا لعمليات إرهابية، فما كان من الرجل إلا تذكير سامعيه بأن مرد ذلك يعود إلى "قلة تدين السكان في منطقته". وبالطبع فالنكتة تضرب على وتر الفروق الثقافية.

مضمون النكتة:
كما أشرنا فأن نقد السياسة العامة يعد أحد الموضوعات التي تتناولها النكتة المحلية وتدور في فلكها؛ وقد يعود ذلك إلى بعض المحاذير في نقد بعض جوانب السياسة العامة في وسائل الإعلام، وهي ظاهرة عامة وملموسة في معظم الدول العربية.
ومن المضامين الأخرى المهمة للنكتة السعودية تحديدا إن كثيرا من النكت تلعب على وتر الفروق الثقافية والاجتماعية بين السكان على مستوى الأقاليم والمناطق والقبائل حيث توظف تلك الفروق بشكل ساخر لبناء النكتة وترويجها. في وضع كهذا تصبح النكتة وسيلة لترسيخ الصور النمطية و الفروق الثقافية بين الأفراد. وليست النكتة المحلية بدعا في هذا الجانب ففي مختلف المجتمعات ذات التباين الأثني والعرقي يوجد شي من ذلك؛ ففي بريطانيا على سبيل المثال يتم الترويج ومن خلال النكت اللاذعة "لبخل الاسكتلندي" و"سذاجة الأيرلندي"، و"جشع اليهودي"، و"غباء الأسود" وهي نكت تكرس صورا نمطية stereotype معظمها زائف وغير حقيقي، إلا إن الدافع لترويج النكتة قد يكون عنصريا مما يدخل تحت باب النكت التي تكرس للتمييز العنصري ما يمكن أن يطلق عليه "نكت عنصرية" racist joke . هذا النوع من النكت رائج في المجتمع السعودي ويتجاوز أفراد المجتمع ليطال الوافدين كذلك‘ فبعضهم يوصف بالكسل والبعض يوصف بالغباء والسذاجة وهكذا دواليك. وإضافة إلى تكريس التمييز العنصري فأن النكتة قد تحمل مضمونا سياسيا – ثقافيا حتى وان كان سياقها عنصريا. نلحظ بهذا الصدد إن النكتة الانجليزية توظف توظيفاً سياسياً؛ فنحن نعلم على سبيل المثال إن اسكتلندا وويلز وايرلندا الشمالية وهي الآن أجزاء من المملكة المتحدة كانت كيانات مستقلة قبل أن يضمها الانجليز للمملكة المتحدة مما يجعل سكان تلك الأقاليم وخاصة سكان ايرلندا موضوعا للنكتة الانجليزية. في جو كهذا تقوم النكتة وبطريقة لاشعورية بإعلاء شأن "الانجليز" والحط من الايرلنديين طبقا لثنائية (نحن مقابل هم)؛ ما يعني ضمنا ضرورة بقاء هؤلاء "الآخرون" تحت النفوذ الانجليزي بسبب ما يعتريهم من نقص في ملكاتهم الفكرية كما لو أن الذكاء وحسن التصرف "جينات وراثية" يتمتع بها الانجليز وتنتفي عند الآخرين. ويعرف الفرنسيون بإجادتهم النكتة المتعلقة بالبلجيكيين ولاسيما ما يتصل بسذاجتهم وعفويتهم. هذا الصنف من النكت نجد ما يماثله في دول الخليج العربية وينتشر في المملكة بكثافة مفرطة حيث يصبح الوافدون والجنسيات الأخرى موضوعا للنكتة ما يشير إلى نوع من التمركز حول الذات لدى معظم سكان دول الخليج.

شكراااااااااااا
القعدة اقتباس القعدة
القعدة
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة halimamz القعدة
القعدة
القعدة

مقدمة:

جميل أن نضحك وأجمل منه أن نضحك من أنفسنا ففي ذلك تنفيس عما نواجهه في الحياة من تنغيص وإحباط؛ حيث يصبح الضحك "فشة خلق" كما يقول اللبنانيون، ولا أعتقد أن هناك شعبا على وجه الأرض بصرف النظر عن مستواه الاقتصادي ونمط ثقافته ونظامه السياسي ودرجة حريته في التعبير لا يضحك على نفسه، أو انه لا يحب الضحك وتعاطي النكتة سماعا وتأليفا وتناقلا للتنفيس عن مكبوتاته وربما للضحك من أجل الضحك فقط. هذه المقدمة هي مدخل لقضيتنا لهذا الشهر حول تفشي النكتة في المجتمع السعودي في العقود الأخيرة بدرجة تجعل منها ظاهرة تستوجب التحليل؛ لما تنطوي عليه من أبعاد ومضامين اجتماعية و ثقافية جديرة بالتأمل. نشير بهذا الخصوص إلى إن العرب وفي مختلف عصورهم لم يهملوا النكتة والطرائف ونوادر الكلام تداولا وتأليفا؛ فالمكتبة العربية تذخر بالكثير من كتب التراث التي تعد بحق من أمهات الكتب كتصنيفات الجاحظ وكتابه الشهير "البخلاء" حيث يورد الكثير من المواقف الضاحكة لبخلاء مدينة مرو الخراسانية. أما الإمام الجوزي فقد وضع كتبا في النوادر والطرائف ناهيك عما كتبه عن أصحاب العاهات كالعميان والبرص. وفي العصور المتأخرة ظهر كتاب نوادر جحا الكبرى الذي تشير محتوياته انه مترجم عن التركية وربما الفارسية. أيضا فأن جل ما ورد في كتاب الأستاذ عبدالرحمن السويداء "فتافيت" بأجزاءه الثلاثة يدخل في باب النوادر والنكت، علما إن المدرسة الحجازية ككتابات المرحوم أحمد السباعي (خالتي كدرخان) وكذلك الأشعار الحلمنتيشية للمرحوم أحمد قنديل وغيرها من الكتابات كالتمثيليات الإذاعية التي يكتبها الأستاذ يحيى باجنيد تعد رائدة والتي يمكن إدخالها تحت هذا الباب، عدا إن البعض يطلق على ما يكتبه الأدباء من كوميديا تتضمن بعض النكات "أدبا ساخرا" تمييزا له عن النكتة التي تمتاز بالتكثيف وإصابة الهدف المتوخى منها بأقل عدد من الكلمات. تمتاز النكتة أيضا بأنها تأتي باللهجة الدارجة فالنكت التي يوردها الجاحظ على سبيل المثال في "بخلائه" قد لا تضحك رجلا أميا لا يعرف أسرار اللغة العربية كمن هو ضليع بهذه اللغة.
سوسيولوجيا النكتة:
تنبع الأهمية السوسيولوجية "للنكتة السعودية" من حقيقة أن معظم ما يتم تداوله منها هو وليد البيئة الاجتماعية للمجتمع السعودي بمختلف شرائحه ومناطقه وأقاليمه و وقبائله، أو ما يمكن تسميته "بالخصوصية السعودية" كمجتمع محافظ حيث تقوم النكتة بفضح المستور من ثقافة المجتمع مما يقدم مادة خصبة للباحث السوسيولوجي لفهم خفايا المجتمع. هناك بطبيعة الحال ما يتم "توطينه" من النكت اللاذعة بعد إجراء بعض التعديلات والإضافات كما في النكت التي تقال حول سكان صعيد مصر "الصعايدة" على سبيل المثال حيث تحور النكتة بشكل بارع ومن ثم يتم إلصاقها بسكان منطقة معروفة لترسيخ صور نمطية معدة سلفا stereotype حول سكان تلك المنطقة كالسذاجة وربما الغباء الذي يصل إلى حد السخرية المرة. ومن السمات المألوفة في النكتة السعودية تركيزها الدائم على قضايا أصبحت مألوفة جدا تدور حول فكرة التباينات بين الأفراد على أساس مناطقي وقبلي ناهيك عن علاقات الجندر (علاقة الرجال بالنساء) وعلاقة الأزواج بزوجاتهم، أي دوران النكتة في المحيط الاجتماعي- الثقافي أكثر من المحيط السياسي؛ فالأخير يتم استجلاب نكتته – عادة وليس دائما- من مجتمعات أخرى ليصار إلى إعادة إنتاجها بنكهة سعودية.
النكتة وحرية التعبير:
للنكتة مواسم تزدهر بها إلا إنها عموما تنتشر في المجتمعات التي تتناقص فيها حرية التعبير بدرجة كبيرة freedom of expression، بل إن هناك علاقة طردية بين النكتة وحرية التعبير إذ كلما ضاقت مساحة وحرية التعبير في مجتمع ما أزداد انتشار النكتة وتداولها بل وزادت كمية السخرية في محتواها لتصبح كوميديا سوداء بجداره. وفي معظم الدول العربية فأن سياسة الدولة وقراراتها وربما رموزها تصبح موضوعات للنكتة؛ وهو ما يذكرنا ببعض "الوظائف الايجابية" للنظم الدكتاتورية كما هو الحال عليه في المجتمع العراقي إبان فترة الرئيس صدام حسين الذي راج في عهده عدد كبير من النكت التي يمكن وصفها بالسوداء بسبب كمية السخرية التي تتضمنها، بل إن بعض تلك النكت حورت لإطلاقها على زعماء آخرين انطلاقا من مسلمة إن الجميع يمارس الاستبداد وان بدرجات متفاوتة عدا إن استبداد وبطش صدام حسين كانا الأسوء. في جو كهذا فأن النكتة تقوم بثلاث وظائف: تحفيز الإبداع لدى مؤلفي النكتة وكذلك الكتاب والأدباء الذين يدفعهم بطش النظام إلى ابتكار أساليب جديدة في التعبير يغلب عليها الطابع الرمزي وربما الإغراق في الرمزية لدرجة الإبهام المفتعل للتحايل على الرقيب ومن ثم نشر العمل وجعله في متناول القاري. أما الوظيفة الثانية للنكتة فهي في إضحاك الناس والتنفيس عن معاناتهم جراء الكبت وصعوبة التعبير، علما إن معظم النظم الحاكمة في العالم العربي تتسامح مع تلك النكت حتى وان اتسمت بالمبالغة. وتتمثل الوظيفة الثالثة للنكتة في النقد الاجتماعي للنظام وربما رموزه عندما يتعذر النقد في وسائل الإعلام وهي في الغالب أجهزة رسمية. ويتم كل ذلك من خلال قالب فكاهي يخفف من حدة الاحتقان الشعبي ويشير إلى مواضع الخلل في سياسة الدولة. في وضع كهذا يصبح للنكتة وظيفة خلاقة حيث لا يمكن السيطرة عليها فهي تنتشر بسرعة فائقة بفعل وسائل الاتصال الحديثة كالجوالات (الهواتف المحمولة) والإنترنت. ويرى بعض المطلعين إن معظم الزعماء بما فيهم رؤساء دول كبرى لديهم أشخاص بعض مهامهم تتمثل في رصد ما يصدر من نكت لنقلها إلى الزعيم لاطلاعه على ما يوجه لسياسته من نقد ومدى الرضا الذي يحظى به بين أوساط شعبه. تصبح النكتة والحال كذلك "ترمومترا" يقوم برصد المزاج الشعبي تجاه سياسة الدولة وهي وظيفة خلاقة للنكتة.
النكتة المحلية:
هناك بطبيعة الحال نكت محلية صرفة يصعب ترجمتها إلى أي لغة أخرى وهو ما يعود إلى عاملي اللغة والثقافة؛ فعلى المستوى اللغوي ربما كانت النكتة مرتبطة بتركيبة لغوية وكلمات موغلة في محليتها ما يجعلها عصية على الترجمة بل إنها تفقد معناها عند الترجمة وتصبح مجرد كلمات ليس لها معنى؛ ومن ذلك بعض ما يورده الفنان الهليل من تعليقات ساخرة في رسومه الكاريكاتورية في جريدة الرياض حيث يصعب على غير "النجدي" أحيانا فهم مضمون النكتة بسبب استخدام الفنان كلمات "نجدية". هناك ما يماثل هذا الأسلوب ورد في نوادر جحا الكبرى؛ حيث تقول النكتة إن أحد أصدقاء جحا وأسمه "حسن" ذهب إلى صانع أختام ليسك له ختما عليه كلمة "حسن" وقد أخبره الصائغ أن ذلك سيكلف تسعة دراهم؛ فتكلفة الحرف ثلاثة. وعندما علم جحا بالأمر تفتق ذهنه عن فكرة بسيطة فقد طلب من الصائغ كتابة "خس" بدلا من "حسن" لإنقاص المبلغ إلى ستة دراهم، وعندما بدأ الصائغ بعمله طلب منه جحا وضع نقطة الخاء عند نهاية حرف السين. هذه النادرة قد يصعب شرحها لمن لا يعرف حروف الهجاء العربية وطريقة كتابتها وهو ما يدخل تحت باب ما يتعذر ترجمته من نكت إلى لغة أخرى، إلا انه ربما أمكن ترجمتها إلى الفارسية لتشابه رسم الحروف العربية مع حروف الفارسية. ويدخل تحت النكت التي يصعب ترجمتها "السقطات اللغوية" التي يقع فيها البعض كالرؤساء أمثال جورج بوش الابن للدرجة التي جعلت أحد الكتاب يصدر كتابا كاملا يتناول سقطات بوش اللغوية، على إن معظم ما يرد فيه من سقطات لغوية تفقد وظيفتها في الإضحاك عند ترجمتها إلى لغة أخرى بل إن بعضها عصي على الترجمة.
أما العامل الآخر الذي يجعل من الصعوبة بمكان ترجمة النكتة فيتعلق بالمضمون الثقافي للنكتة cultural context ؛ فما قد يكون باعثا على الضحك في مجتمع ما قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر؛ والعكس هو الصحيح فالنكتة قد تفقد وظائفها في النقد الاجتماعي و الإضحاك؛ وهناك مئات الأمثلة التي تؤيد ذلك؛ ومنها على سبيل المثال تلك النكتة التي تدور حول رجل ينتمي إلى أحدى قبائل المنطقة الشمالية في المملكة قدم إلى المنطقة الوسطى وسأله بعض سكانها عن سر عدم وجود عمليات إرهابية في منطقته أسوة بالمناطق الأخرى التي كانت مسرحا لعمليات إرهابية، فما كان من الرجل إلا تذكير سامعيه بأن مرد ذلك يعود إلى "قلة تدين السكان في منطقته". وبالطبع فالنكتة تضرب على وتر الفروق الثقافية.
مضمون النكتة:
كما أشرنا فأن نقد السياسة العامة يعد أحد الموضوعات التي تتناولها النكتة المحلية وتدور في فلكها؛ وقد يعود ذلك إلى بعض المحاذير في نقد بعض جوانب السياسة العامة في وسائل الإعلام، وهي ظاهرة عامة وملموسة في معظم الدول العربية.
ومن المضامين الأخرى المهمة للنكتة السعودية تحديدا إن كثيرا من النكت تلعب على وتر الفروق الثقافية والاجتماعية بين السكان على مستوى الأقاليم والمناطق والقبائل حيث توظف تلك الفروق بشكل ساخر لبناء النكتة وترويجها. في وضع كهذا تصبح النكتة وسيلة لترسيخ الصور النمطية و الفروق الثقافية بين الأفراد. وليست النكتة المحلية بدعا في هذا الجانب ففي مختلف المجتمعات ذات التباين الأثني والعرقي يوجد شي من ذلك؛ ففي بريطانيا على سبيل المثال يتم الترويج ومن خلال النكت اللاذعة "لبخل الاسكتلندي" و"سذاجة الأيرلندي"، و"جشع اليهودي"، و"غباء الأسود" وهي نكت تكرس صورا نمطية stereotype معظمها زائف وغير حقيقي، إلا إن الدافع لترويج النكتة قد يكون عنصريا مما يدخل تحت باب النكت التي تكرس للتمييز العنصري ما يمكن أن يطلق عليه "نكت عنصرية" racist joke . هذا النوع من النكت رائج في المجتمع السعودي ويتجاوز أفراد المجتمع ليطال الوافدين كذلك‘ فبعضهم يوصف بالكسل والبعض يوصف بالغباء والسذاجة وهكذا دواليك. وإضافة إلى تكريس التمييز العنصري فأن النكتة قد تحمل مضمونا سياسيا – ثقافيا حتى وان كان سياقها عنصريا. نلحظ بهذا الصدد إن النكتة الانجليزية توظف توظيفاً سياسياً؛ فنحن نعلم على سبيل المثال إن اسكتلندا وويلز وايرلندا الشمالية وهي الآن أجزاء من المملكة المتحدة كانت كيانات مستقلة قبل أن يضمها الانجليز للمملكة المتحدة مما يجعل سكان تلك الأقاليم وخاصة سكان ايرلندا موضوعا للنكتة الانجليزية. في جو كهذا تقوم النكتة وبطريقة لاشعورية بإعلاء شأن "الانجليز" والحط من الايرلنديين طبقا لثنائية (نحن مقابل هم)؛ ما يعني ضمنا ضرورة بقاء هؤلاء "الآخرون" تحت النفوذ الانجليزي بسبب ما يعتريهم من نقص في ملكاتهم الفكرية كما لو أن الذكاء وحسن التصرف "جينات وراثية" يتمتع بها الانجليز وتنتفي عند الآخرين. ويعرف الفرنسيون بإجادتهم النكتة المتعلقة بالبلجيكيين ولاسيما ما يتصل بسذاجتهم وعفويتهم. هذا الصنف من النكت نجد ما يماثله في دول الخليج العربية وينتشر في المملكة بكثافة مفرطة حيث يصبح الوافدون والجنسيات الأخرى موضوعا للنكتة ما يشير إلى نوع من التمركز حول الذات لدى معظم سكان دول الخليج.

القعدة القعدة
شكرااالك:thumb_up2::thumb_up2:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.