* قال النبي صلى الله عليه وسلم : " المسلم إذا كان مخالطا الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " [رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني].
وكل من خالط الناس لا بد أن يلحقه أذى ويزداد الأذى عليه إن كان يدعو إلى الله بعلم وبصيرة فإنه لا محالة سيجد من يقابل دعوته بالقدح والسب والأذى جهلا أو حسدا وظلما وعدوانا وقد نبه الله سبحانه إلى اقتران حصول الأذى بالدعوة إلى الحق بقوله : "وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك"[ لقمان:17] .
قال ابن سعدي- رحمه الله- في تفسيره هذه الآية الكريمة – (ج 1 / ص 648):" ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس، أمره بالصبر على ذلك فقال: { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ }"انتهى كلامه .
• إن جرح اللسان شديد على النفس فقد قال الشاعر :
جراحات السنان لها التئمام ولا يلتئم ما جرح اللسان
وإن السفهاء وأهل الجهل يستفزون أهل الخير والعلم والعقل بأساليب غريبة حتى إنهم يسبونهم ثم ينسبون سوء الأدب لهم أي لمن سبوه وحسن الخلق لأنفسهم فهم يفعلون الجهل وينبزون غيرهم به وينسلون منه كما قال تعالى : " ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا"[ النساء:112].
فعلى المسلم الداعي إلى الله بعلم وبصيرة وأدب وخلق أن يصبر نفسه مهما كان جهل السفيه بليغا ومؤذيا وظالما.
* ثم الأفضل من حيث الأصل هو العفو عن السفيه وعدم مقابلته بمثل قوله بل يقال له الكلام اللين الذي يشتمل على الخير ودفع إساءته بالتي هي أحسن كمخاطبته بالسلام بمعنى المتاركة والمسالمة لا التحية أو نحو ذلك من الكلام الحسن الذي فيه السلامة من الإثم والأذية والسلامة من مقابلة السفيه بمثل قوله من الجهل والسفه والفحش .
قال تعالى : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذاخاطبهم الجاهلون قالوا سلاما "[الفرقان:63]
وعَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها- قَالَتِ اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ ». قَالَتْ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ « قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ » متفق عليه . والسام هو الموت .
وعن أبي هريرة : "أن رجلا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله فغضب النبي صلى الله عليه و سلم وقام فلحقه أبو بكر فقال يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال يا أبا بكر ثلاث كلهن حق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل ألا أعز الله بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عز وجل بها قلة " رواه أحمد وصححه الألباني .
* وقال سبحانه :"وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا و لكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين"[ القصص:55].
جاء في "التفسير الميسر" – (ج 7 / ص 89):
"وإذا سمع هؤلاء القوم الباطل من القول لم يُصْغوا إليه، وقالوا: لنا أعمالنا لا نحيد عنها، ولكم أعمالكم ووزرها عليكم، فنحن لا نشغل أنفسنا بالرد عليكم، ولا تسمعون منَّا إلا الخير، ولا نخاطبكم بمقتضى جهلكم; لأننا لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها. وهذا من خير ما يقوله الدعاة إلى الله"انتهى.
فإذا جهل عليك السفيه وآذاك بغير حق فأعرض عن قوله ولا تقابله بمثله ولا تحاول الانتقام منه ولا تلتفت إلى إساءته ولا تنشغل بها واحرص على ترك مجادلته ومواصلة الحديث معه تنزها وتكرما عن الخوض فيما لا فائدة فيه بل قد يوصل إلى الشر والضرر .وحاول مقابلة إساءته بالإحسان.
قال سبحانه وتعالي : " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم"[ فصلت:34-35].
فإن لم تصبر على أذاه وأحببت أن ترد عليه فيجوز لك أن ترد عليه بمثل قوله بدون زيادة عليه مع أن العفو عنه أفضل قال تعالى :
{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ } [ الشورى : 39-43].
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالاَ فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ » رواه مسلم.
قال النووي- رحمه الله- في شرح صحيح مسلم – (ج 16 / ص 141):
" وفي هذا جواز الانتصار ولا خلاف في جوازه وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة. قال الله تعالى: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. وقال تعالى: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون. ومع هذا فالصبر والعفو أفضل. قال الله تعالى: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور. وللحديث المذكور بعد هذا (مازاد الله عبدا بعفو إلا عزا) واعلم أن سباب المسلم بغير حق حرام كما قال صلى الله عليه و سلم: سباب المسلم فسوق. ولا يجوز للمسبوب أن ينتصر إلا بمثل ما سبه مالم يكن كذبا أو قذفا او سبا لأسلافه فمن صور المباح أن ينتصر بيا ظالم يا أحمق أو جافي أو نحو ذلك لأنه لا يكاد أحد ينفك من هذه الأوصاف قالوا وإذا انتصر المسبوب استوفى ظلامته وبرئ الأول من حقه وبقي عليه إثم الابتداء أو الإثم المستحق لله تعالى وقيل يرتفع عنه جميع الإثم بالانتصار منه ويكون معنى على البادئ أي عليه اللوم والذم لا الإثم "انتهى كلامه.
* أحيانا يكون مؤاخذة السفيه بإساءته هو الأفضل وذلك إذا كان العفو عنه سيؤدي إلى مفسدة أعظم من مقابلته بمثل قوله وقد أشار الله سبحانه إلى هذا المعنى بقوله : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله" .
قال ابن عثيمين – رحمه الله- في تفسيره – (ج 5 / ص 251):
"الحث [ يعني على المغفرة لمن أساء إليك] مقيد بما إذا كانت المغفرة إصلاحاً؛ لقوله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40] ؛ أما إذا لم تكن المغفرة إصلاحاً، مثل أن أغفر لهذا الجاني، ثم يذهب، ويسيء إلى الآخرين، أو يكرر الإساءة إليَّ، فإن الغفر هنا غير مطلوب".
قال الشنقيطي-رحمه الله- في "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" – (ج 1 / ص 12):
"قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية, هذه الآية تدل على طلب الانتقام, وقد أذن الله في الانتقام في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ, إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} الآية, وكقوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ}, وكقوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} الآية, وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}, وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}, وقد جاءت آيات أخر تدل على العفو وترك الانتقام كقوله: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}, وقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}, وقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}, وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}, وكقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}. والجواب عن هذا بأمرين: أحدهما: أن الله بيّن مشروعية الانتقام ثم أرشد إلى أفضلية العفو, ويدل لهذا قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}, وقوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ}, أذن في الانتقام بقوله: {إِلا مَنْ ظُلِمَ}, ثم أرشد إلى العفو بقوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}.
الوجه الثاني: أنّ الانتقام له موضع يحسن فيه, والعفو له موضع كذلك, وإيضاحه أن من المظالم ما يكون في الصبر عليه انتهاك حرمة الله, ألا ترى أنّ من غصبت منه جاريته مثلا إذا كان الغاصب يزني بها فسكوته وعفوه عن هذه المظلمة قبيح وضعف وخور, تنتهك به حرمات الله, فالانتقام في مثل هذه الحالة واجب, وعليه يحمل الأمر{فَاعْتَدُوا} الآية, أي كما بدأ الكفار بالقتال فقتالهم واجب, بخلاف من أساء إليه بعض إخوانه من المسلمين بكلام قبيح, ونحو ذلك فعفوه أحسن وأفضل "انتهى كلامه .
* وعلى جميع الأحوال احرص أخي المسلم الداعي إلى الله على طيب الكلام وبذل المعروف وكف الأذى وضبط النفس ولا يحملنك سفه السفهاء عليك أن تنحرف عن هذا الطريق وإياك أن يؤثر في مزاجك وسلوكك .
وتذكر ما في حسن الخلق من الفضل والأجر العظيم قال صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ »رواه أبو داود وصححه الألباني .
نسأل الله أن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا وأن يرزقنا حسن الخلق ويعيننا عليه إنه سميع مجيب الدعاء .