ومنشأ الحُزن اعتمادُ الإنسان ، وهو يطلب السعادة ، على " اقتناء أنواع القُنية الحسية التي لا ثباتَ لها ، ولا يمكن تحصينها من عوداي التغيّر ، ولا يؤمن زوالها " ، ذلك لأن مثل هذه المقتنيات الحسية مما هو " مقبل مدبر مشترك بين الناس ، مبذول لكل متغلب يريده " ! فالأحرى بالإنسان ذي العقل الراجح أن " يوجّه إرادته ، ومطالبَه ، إلى اقتناء الممتلكات العقلية الباقية التي هي ملك حقيقي لصاحبها " ، وهو حال يفعل ذلك فقد صار يسعى لامتلاك " ما لا يستطيع أن يغلبه عليه غالب ، أو يغصبه إياه غاصب " .
ونحن بإمكاننا أن نُشبّه ، هنا ، الفاعلَ هكذا فعل بالمَلك الجليل الذي " لا يلقى مقبلاً ، ولا يشيّع ظاعناً " .
لا شك أن الإنسان إنسانٌ بنفسه لا بجسده ، وبما أن النفس هي " الباقية " ، والجسد هو " الدائر " ، ما يعني أن أمر سياسة الجسم هو بيد النفس ، فيصبح الجسد مسوساً والنفس هي السائس ، ويكون دوره أنه الآلة للفعل ، ما يلزم أن يتعهد الإنسان العاقل نفسَه ، ويقبل أن يحتمل من الألم أكثر / اشد مما يحتمل حال يريد إصلاح بدنه … والفطن يستطيع ذلك بـ :
– أخذ النفس بقوة العزم ؛ فإن النفس إذا أُخِذتْ هكذا أخذ اعتادت على الخير ، ولزمتْ في كل أمورها الأكبرَ … وشيئاً فشيئاً تضبطها الإرادةُ ، وتُمْسكُها عن الانفعالات التي تجلب الحزن .
– التعرف إلى نتيجة الأفعال فلا يقع تناقض بين نتائج هذه الأفعال وبين مراد المرء تجنب ما يجلب الحزن .
وهناك غير وسيلة تساعد المرء أن يتجاوز الحزن … منها :
– أن يتذكر الواحد منا كَمْ سلا هو ، وكم سلا غيره من بني الإنسان عن هكذا أحزان .
– أن يتأسى بغيره ممن " مر " على أحزانه حال فاته مرادٌ كان يريده .
– أن يقرر عدم الاستسلام للحزن فيدفعه عن نفسه ، وإلا كان هو الطالبَ له .
– أن يعي أن قانون الحياة هو " الكون والفساد " ، ويصبح حال يرفض هكذا أمر فكأنما يرفض الحياة نفسها .
– أن يرى أن الأشياء في الحياة مشتركة بينه وبين غيره ، فلا يصح أن يستأثر بها لنفسه ، ولا أن يحسد غيره عليها .
… : " إن مقتنيات الحياة عاريةٌ من مبدعها جلّ ثناؤه ، يستردها متى شاء وعلى يد من شاء " ما يعني أن يكون الحزن على فوات الأشياء خروجاً عن أقل الشكر لله تعالى .
يصح رؤية أن الحزن " شيء طبيعي يلازم الحياة ، حتى لا معنى للتفكير فيه ، أو أنه خُلق منحط فاسد ، أو عمل صبياني سخيف " .
والمراد هنا تنبيه الإنسان لروحه على أنها جوهر شريف حصين باقٍ رغم زوال كل أعراض الوجود الإنساني ، ما يعني ضرورة تربية المرء نفسه الاستغناء عن الأشياء القابلة / الخاضعة لقانون التغير … سئل أحدهم : ما بالك لاتحزن ؟ . فقال : لأني لا أقتني ما إذا فقدتُه حزنتُ عليه " .
على الإنسان ، ليكون جديراً بفضيلة العقل المميز له ( الذي هو فصله ) عن الحيوان ، أن يستعمل عقله " في تدبير نفسه وسياستها ، لا في تكثير ما يحتاج إليه من أنواع القنية أو المتاع الذي يكثر له أسباب القلق والألم ويفسد عليه ، بمتاعب الطلب وآلام الفقد ، راحةَ هذه الحياة الزائلة ، إلى جانب فقدانه الحياة الخالدة " .
بنو آدم ، وهم يمرون من هذا العالم الفاني إلى العالم الحق ، أشبه برُكّاب سفينة متجهين إلى غاية يقصدونها ، وحدث أنْ رستْ السفينة ، وقتاً ، على شاطئ ، فمنهم من خرج لقضاء حاجةٍ معينة ليس أكثر ، ثم عاد مسرعاً وأخذ من السفينة مكاناً فسيحاً . ومنهم من استهوته رياض الشاطئ وما فيها من جمال وفُتنة ، فبقي وقتاً يمتّع نفسه غير ناسٍ غايته التي لأجلها ركب السفينة ، فعاد ليأخذ مكانه فيها . ومنهم من ألهتهم فُتن الشاطئ فراحوا يجمعون منها الكثير ليأخذوه معهم إلى السفينة ، فعادوا وقد خارت قواهم ، ولم يقدروا أن يحصلوا إلا على المكان الضيق في السفينة ، زاده ضيقاً ما حملوه معهم وراحوا يهتمون به ويرعونه أشد رعاية ما بين حرص عليه ألا يضيع ، وقلقٍ عليه إذا ضاع ، فلما اشتد همهم لأجله ألقوْا به بعرض البحر . ومنهم من توغلوا في أحراش الشاطئ يجمعون ما يلاقونه ، فأنهكوا أنفسهم ما بين روعة ونكبة ، أو افتراس سبع أو تلطيخ وحل ، فلما حان وقت رحيل السفينة نادى عليهم صاحبها ، وكانوا غارقين في متاعهم ، فلم يسمعوا صوته ، فتُركوا " في المهالك ، والتهمتهم لهوات المعاطب " .
إن الإنسان العاقل هو من إذا أراد أن يأسى فليأسَ على عدم بلوغه مكاناً حسناً في الحق الدائم البريء من الآفات الذي ليس فيه إلا الخيرات الحقيقية الثابتة ، والذي فيه يتهيأ للإنسان أن يعيش فوق الأحزان والآلام ، وليأسَ ، أيضاً ، على أنه لم يقدر أن يقتلع أسباب الحزن على الماديات الفانية وذلك بتحرير نفسه منها .
ليس الموتُ ، ونحن سنواجهه يوماً ، شراً !!! ، فهو " كمال الطبيعة البشرية " وهو " عنصر جوهري في الإنسان الواقع " ؛ لأن هذا الإنسان " حي مائت " ( = حي بالفعل ميّتٌ بالقوة ) !!! .
إن الخوف من الموت ، وهو مغادرة هذه الحياة الدنيا ، إنما هو لأن صاحب هذا الخوف شديد التعلق بما فيها من ماديات حسية … هي ، في الوقع ، مصدر آلامه ، ثم لأنه شديد الجهل بما هو فيه من ضيق ، وبما سينفتح له ، بالموت ، من آفاق واسعة وملك دائم عريض ، وحرية يسقط معها كل قيْد ، وخيرات لا تنالها الآفات .
لو فطن المرء لهكذا تصاريف ، إذاً لهانت عليه الدنيا بكل ما يتصور من ملذاتها المادية ؛ فإنه لو اقام في " عالَم الروح " – الذي هو النهاية الطبيعية لهذه الحياة الدنيا – ونعِمَ وقتاً بشيء من لذاته الخالدة الخالصة من الكدورات ، لكان جزعه عليه ، لو أريد إرجاعه إلى الحياة الدنيا ، أضعاف أضعاف جزعه الآن من أن يترك هذه الحياة الدنيا .
على الإنسان العاقل ألا يعطي لهذه الحياة قيمةً أكثر مما تستحق ، وعليه أن يراها المرحلةَ الأخيرة الشاقة دون بلوغ الغاية الكبرى ، فإن المصائب التي تنال مقتنيات المرء المادية تقلل أحزانه بتقليلها للقلق ، وإن المصائب تقلل المصائب ! وشيئاً فشيئاً يصبح الأمر ، عند الحكيم ، كالنعيم .
إن تقليل القُنية معناه إخضاع ما هو مادي لما هو روحي ، بأن يسود الروحي على المادي ويوجهه ، وقتها سيتم للإنسان السيطرة على شهواته التي هي تسترق حتى الملوك ، لكن يبقى الإنسان العاقل هو من يقوى على هذا كله ويمتلك ناصية عدوه المقيم في حصنه … وهو النفس وشهواتها ، فإن النفس الشهوانية نفس سقيمة ، وسقامها أعظم من سقام البدن لو يعلمون .