للعلامة الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الشهير بالإمام القرطبي. رحمه الله.
1>>باب النهي عن تمني الموت و الدعاء به لضر نزل في المال و الجسد:
روى مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد متمنياً فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي و توفني إذا كانت الوفاة خيراً لي .أخرجه البخاري .، و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يتمنين أحدكم الموت و لا يدع به من قبل أن يأتيه ، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله ، و إنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً .
و قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا يتمنين أحدكم الموت : إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً ، و إما مسيئاً فلعله أن يستعتب . رواه البخاري.
فصل : قال العلماء : الموت ليس بعدم محض و لا فناء صرف و إنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن و مفارقته و حيلولة بينهما ، و تبدل حال و انتقال من دار إلى دار ، و هو من أعظم المصائب ، و قد سماه الله تعالى مصيبة ، و في قوله فأصابتكم مصيبة الموت. فالموت هو المصيبة العظمى و الرزية الكبرى .
قال علماؤنا : و أعظم منه الغفلة عنه ، و الإعراض عن ذكره ، و قلة التفكر فيه ، و ترك العمل له ، و إن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر و فكرة لمن تفكر …
فصل : قوله : فلعله أن يستعتب . الاستعتاب طلب العتبى . و هو الرضى و ذلك لا يحصل إلا بالتوبة و الرجوع عن الذنوب .
قال الجوهري : استعتب : طلب أن يعتب تقول : استعتبته فأعتبني . أي استرضيته . فأرضاني . و في التنزيل في حق الكافرين و إن يستعتبوا فما هم من المعتبين .
و روى عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال : لا يتمنى الموت إلا ثلاثة : رجل جاهل لما بعد الموت ,أو رجل يفر من أقدار الله تعالى عليه ,. أو مشتاق محب للقاء الله عز و جل . …
و قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ما من مؤمن إلا و الموت خير له فمن لم يصدقني فإن الله تعالى يقول : و ما عند الله خير للأبرار و قال تعالى و لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم
ـ قال الله عز و جل مخبراً عن يوسف عليه السلام : {توفني مسلماً و ألحقني بالصالحين}، و عن مريم عليها السلام في قولها{ يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسياً منسيا}، و عن مالك عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال <لا تقوم الساعة حتى يمر حتى بقبر الرجل فيقول : يا ليتني مكانه >.
فصل : قلت : لا تعارض بين هذه الترجمة و التي قبلها لما نبينه .
أما يوسف عليه السلام . فقال قتادة : لم يتمن الموت أحد، نبي و لا غيره، إلا يوسف عليه السلام حين تكاملت عليه النعم و جُمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه عز وجل فقال {رب قد آتيتني من الملك و علمتني} الآية . فاشتاق إلى لقاء ربه عز وجل ، و قيل إن يوسف عليه السلام لم يتمن الموت و إنما تمنى الموافاة على الإسلام . أي إذا جاء أجلي تو فني مسلماً . و هذا هو القول المختار في تأويل الآية عند أهل التأويل . و الله أعلم .
و أما مريم عليها السلام فإنما تمنت الموت لوجهين :
أحدهما : أنها خافت أن يظن بها السوء في دينها و تعير ، فيفتنها ذلك .
الثاني : لئلا يقع قوم بسببها في البهتان و الزور ، و النسبة إلى الزنا ، و ذلك مهلك لهم . و الله أعلم .
و قد قال الله تعالى في حق من افترى على عائشة رضي الله عنها {و الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم}، و قال{و تحسبونه هيناً و هو عند الله عظيم }،
و قد اختُلف في مريم عليها السلام : هل هي صديقة لقوله تعالى {و أمه صديقة}، أو نبية لقوله تعالى {فأرسلنا إليها روحنا}. و قوله {إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك} الآية .
و عليه فيكون الافتراء عليها عظيم أعظم و البهتان في حقها أشد . و فيه يكون الهلاك حقاً . فعلى هذا الحد الذي ذكرناه من التأويلين يكون تمني الموت في حقها جائز ، و الله أعلم .
و أما الحديث فإنما هو خبر : أن ذلك سيكون لشدة ما ينزل بالناس ، من فساد الحال في الدين ، و ضعفه و خوف ذهابه ، لا لضر ينزل بالمرء في جسمه أو غير ذلك ، من ذهاب ماله مما يحط به عنه خطاياه . و مما يوضح هذا المعنى و يبينه قوله عليه السلام <اللهم إني أسألك فعل الخيرات و ترك المنكرات و حب المساكين و إذا أردت ـ و يروى أدرت ـ في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون> . رواه مالك، و مثل هذا قول عمر رضي الله عنه : اللهم قد ضعفت قوتي و كبرت سني و انتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع و لا مقصر .فما جاوز ذلك الشهر حتى قبض رحمه الله . رواه مالك أيضاً .
و ذكر أبو عمر بن عبد البر في التمهيد و الاستذكار من حديث زاذان أبي عمر عن عليم الكندي قال : كنت جالساً مع أبي العباس الغفاري على سطح، فرأى ناساً يتحملون من الطاعون فقال : يا طاعون خذني إليك يقولها ثلاثاً ،فقال عليم : لم تقول هذا ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم <لا يتمنين أحدكم الموت فإنه عند ذلك انقطاع عمله و لا يرد فيسعتب> فقال أبو عباس : أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول<بادروا بالموت ستا : إمرة السفهاء ، و كثرة الشُرَط ، و بيع الحكم ، و استخفافاً بالدم ، و قطيعة الرحم ، و نشئاً يتخذون القرآن مزامير ، يقدمون الرجل ليغنيهم بالقرآن و إن كان أقلهم فقهاً>.-صحيح الجامع-
روى ابن ماجه عن ابن عمر قال : كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رجل من الأنصاري فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : أي المؤمنين أفضل ؟ قال : <أحسنهم خلقاً >قال : فأي المسلمين أكيس ؟ قال : <أكثرهم للموت ذكراً و أحسنهم لما بعده استعداداً أولئك الأكياس> أخرجه مالك وصححه الألباني.
…و قال السدي في قوله تعالى :{ الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} أي أكثركم للموت ذكراً ، و له أحسن استعداداً و منه أشد خوفاً و حذراً .
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : قوله عليه السلام < أكثروا ذكر هادم اللذات الموت>كلام مختصر و جيز قد جمع التذكرة و أبلغ في الموعظة فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة ، و منعه من تمنيها في المستقبل و زهده فيما كان منها يؤمل ، و لكن النفوس الراكدة ، و القلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ ، و تزويق الألفاظ ، و إلا ففي قوله عليه الصلاة و السلام < أكثروا ذكر هادم اللذات> مع قوله تعالى : {كل نفس ذائقة الموت} ما يكفي السامع له ، و يشغل الناظر فيه .
اللهم اجعل خير ايامن يوم لقاءه عز و جل
بارك الله فيكم
هذا المجهود الجبار
جعله الله في ميزان حسناتك
|
و فيكم بارك الرحمان