تخطى إلى المحتوى

عمرو بن عبيد : 2024.

هو واحدٌ ممن أسسوا لقيمة العقل في تراثنا المعرفي عامة ، والديني خاصة .
بقدر عقلانيته ، فهو شديد التدين ، زاهد ناسك متعبد .
• حج أربعين مرة لأربعين سنة ماشياً من موطنه ببصرة العراق ، وراحلته ( = الجمل الذي يركبه ) متروكٌ للفقراء والضعفاء والزمنَى .
• عُرضَ عليه مالٌ كثير ، فرفض ، وعلّل الأمر : لم يأخذ أحدٌ من أحد شيئاً إلا ذُلّ له . والرجل يكره أن يُذلّ إلا لله تعالى .
• يعرّف بلاغة الموعظة الحسنة في أسلوب رشيق : " هي تقرير حجة الله في عقول المكلفين ، وتخفيف المئونة على المستمعين ، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين ، بالألفاظ المستحسنة في الآذان ، المقبولة عند الأذهان ، رغبةً في سرعة استجابتهم ، ونفي الشواغل في قلوبهم بالموعظة الحسنة من الكتاب والسنة " .
• من دعائه : " اللهم أغنني بالافتقار إليك ، ولا تفقرني بالاستغناء عنك . اللهم أعنّي على الدنيا بالقناعة ، وعلى الدين بالعصمة " .
• تمنَّى مستحيلاتٍ … فقال … : " أعيتني ثلاثُ خِلال : تَرْكي ما لا يعنيني ، ودرهم من حلال ، وأخٌ إذا احتجتُ إلى ما في يده بذله لي " .
• مرّ ، بزمن الأُمويين ، على رجال للشرطة يسوقون رجلاً فقيراً متهماً بسرقة مال " قليل "… ليقطعوا يده … فقال : لا إله إلا الله ، سارقُ السرّ يقطع سارق العلن .
هذا هو عمرو بن عبيد بن باب ( 80هـ : 144 هـ = 699 م : 761 م ) ، أصله من كابل الأفغانية . وُلدَ ، ونشأ ، في البصرة العراقية .
هو أحد أهم تلاميذ الحسن البصري على الإطلاق ، وقف ، فكرياً وحركياً ، ضد مقولة الجبر ( = الإنسان مسيّر ) … تلك التي أشاعها النظام الحاكم وقتها تبريراً لكثير من الأخطاء ، والخطايا ، التي لحقت سواء بنظام / طريقة الحكم ، أم بالمحكومين ؛ حيث تحول الأمر السياسي من " الشورى " إلى " المُلْك " ، وسادت المظالم الاجتماعية والسياسية ، وعمّت الاضطهادات طوائفَ المعارضين على اختلاف أطيافهم شيعةً وخوارج … إلى أن انتهى الأمر بمأساة كربلاء التي استُشهِد فيها الحسين ، رضي الله تعالى عنه .

أعلنت مدرسة الحسن البصري ، وخاصة على لسان عمرو بن عبيد ، أن " الإسلام ينحاز بالكامل إلى حرية الإنسان واختياره ومسؤوليته ، وأن الجبريين ، بدعوتهم تلك ، يلحقون " الجور " بالذات الإلهية ، إنْ هي حاسبت الناس على أعمال هي التي أجبرتهم عليها ؛ فالعدل ، وهو من صفات الله تعالى ، يقتضي تقرير الحرية والاختيار والمسؤولية للإنسان " .
إن صحيح العقيدة لا بد أن ينتهي بالإنسان إلى الإيمان بأن الله تعالى هو موجد هذا العالم بما فيه ومن فيه ، لكن صريح العقل لا بد أن ينتهي بالإنسان العاقل المكلّف إلى الاعتراف – كذلك – بوجود قوانين طبيعية واجتماعية لها تأثيرها في الأشياء ، تمهيداً لإفساح المجال أمام العقل البشري ليعرف هذه القوانين ، فتكون – من ثم – أداةً طيّعة في يده يسخّر بها الكون لخدمته ، ليكون – كالأمر القرآني – خليفةً في الأرض ، والخليفة يكون مستقوياً على ما استخلف فيه ، وهذه القوة تكمن في العلم بالقوانين الكونية : طبيعيةً كانت أم اجتماعية .
إن الآلية التي تحاول أن ترد كل الظواهر – طبيعية واجتماعية – إلى علة واحدة ، ووحيدة ، وبعيدة ، وأُولَى ، تقوم بإلغاء كل العلل القريبة ، ما ينتج عنه – لا محالة – إبطال أي معرفة بشرية علمية بالطبيعة ، إذ المعرفة العلمية تستلزم – بحسب مفردات المنهج العلمي – ثبات القوانين والنواميس التي تتحكم في الظاهرة موضع البحث .
وإذا كان نفي العلة – أو العلل – القريبة سيؤدي – على المستوى الطبيعي – إلى نفي المعرفة الإنسانية ، فإنه – على المستوى الاجتماعي – سيؤدي إلى نفي الإنسان ذاته ، إذ سيكون القول بإنكار قوانين السببية في العالم والطبيعة مدخلاً إلى القول " باحتمالية " الظواهر ، وهذا بدوره سيؤدي إلى القول " بجبرية " الإنسان اجتماعياً وسياسياً ؛ فالقول بعلة أولى واحدة ، ووحيدة ، لكل الظواهر الطبيعية والاجتماعية ما هو إلا تجهيل بالأوضاع الطبيعية ، وتكريس للأوضاع الاجتماعية والسياسية ، ويصبح كل ما يقال عن علل طبيعية وعلاقات ضرورية محددة بين الأسباب والنتائج – بحسب هذا التصور – ضرباً من الوهم والخيال … فمن الجائز – حينئذ ، وعند من ينفي العلل القريبة – أن : " يحدث شبع رغم عدم تناول الطعام ، وأن يحدث جوع رغم تناول الطعام ، وأن يقع الاتصال بين القطن والنار دون حدوث احتراق ، وأن يتحول القطن إلى رماد محترق دون ملاقاة النار " .
كان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ( 95 هـ : 158 هـ = 714 م : 775 م ) من أتباع عمرو بن عبيد ، بل كان " يتولى جميع نفقات عمرو من المريدين ، ويظهر له الميل الشديد ، ويكنّ له أعظم الود والإجلال والتوقير " .
برغم كون عمرو ذا أصول عرقية غير عربية ، إذ كان من الموالي ، إلا أن هذا لم يمنعه أن يقدم رأياً لمفهوم حضاري يرى أن " للعادات والتقاليد والثقافة ، باعتبارها صلات ووشائج ، قوةً تفوق في قوة توحيدها وتأليفها بين الناس قوةَ الأنساب والعروق والأرحام " . ومن ثم تصبح هذه الروابط الحضارية ، يقول الجاحظ ، " بمثابة الرحم الواحد ، ولدتهم منه العروبة ولادة جديدة ، كي يؤلفوا معاً مجتمعهم الواحد والجديد " .
وكان للرجل رأي سياسي له اعتباره ؛ فحين تولى عمر بن عبد العزيز أمر الخلافة ، وقف البعض ، معه ، يصادر " أموال أمراء بني أُمية ويبيعها ، في مزاد علني ، لحساب الأمة " . وسأله أحدهم : " كيف تعترف بإمامة عمر بن عبد العزيز ، وهو قد تولّى الخلافة بالميراث دون شورى ؟ . أجابه : لقد أخذ عمر الخلافة بغير حقّها لا باستحقاق لها ، لكنه استحقها بالعدل حين أخذها " .
وهذا النص يبين أنه رغم أن عمر لم يصبح إماماً ، لا بالتفويض ، ولا بالبيعة ، لكنه أصبح إماماً ، بكل معنى الكلمة ، لما أحدث في المجتمع ، والدولة ، تحوّلات اجتماعية واقتصادية وسلوكية ، حمده عليها أهلُ الحل والعقد … فالناس أجمعون إلى يومنا هذا .
ولما أصبح المنصور خليفةً استدعى عمراً وقال له : " لقد أمرْنا لك بعشرة آلاف درهم . فرد عمرو : " لا حاجة لي فيها " . فقال المنصور : " والله لتأخذها " . فيرد عمرو : " والله لا آخذها " . فيتدخل ولي العهد ، المهدي ، ابن المنصور ، ويقول لعمرو مستنكراً : " يحلف أمير المؤمنين ، وتحلف أنت " ؟ . فيقول عمرو ، بعد أن عرف مَن الفتى / الشاب : " والله لقد ألبسك أبوك لباساً ما هو من لباس الأبرار ، ولقد سماك باسمٍ ما استحققتَه عملاً ، ومهّد لك أمراً أنت أمتع ما تكون به أشغل ما تكون عنه . اعلم يا فتى أنْ نعم ، يحلف أبوك وأحلف أنا ، فإنه إذا حلف أبوك وأحنثه عمُّك – يقصد نفسَه – فذلك لأن أباك أقوى على كفّارات اليمين من عمك " . فيسأله المنصور : " ألك حاجة " ؟ . فيرد : " نعم ، لا تبعثْ إلي حتى أجيئك " . فيقول المنصور : " إذن لا نلتقي أبداً " . هنا ودّعه الخليفة واقفاً تقديراً واحتراماً لعالم زاهد غير هيّاب ولا وجل ، وأنشد في إثْره :
كلكم يمشي رويد
كلكم يطلب صيــد
غير عمر بن عبيـد .

بااااارك الله فيييك
بااااااااااااااارك الله فيك أخي
جعله الله في ميزان حسناتك
اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.