كثر في هذه الأيام الكلام والكل يُدلي بدلوه والكل يقدح زناد فكره ويقترح الطريق إلى الإصلاح والسبيل إلى النجاح بعد أن أصبحت أحوالنا تُذكرني بما كانت عليه دولتنا أيام المماليك كل لحظة تقوم ثورة من أحد المماليك على الباقين يتقاتلون ويحاربون بعضهم بعضاً والخاسر في ذلك هي الجموع المنكسرة الفقيرة التي لا تملك من أمر نفسها قليلاً ولا كثيراً لأنهم كانوا من غشمهم وقوتهم ينهبون المتاجر ويسلبون ما في البيوت ويصنعون ما لا يستطيع الإنسان ذكره باللسان – مع أنهم كانوا مسلمين – في إخوانهم المسلمين
أي سبيل يجب أن نمضي فيه ليصلح الله حالنا؟ نسمع كلمات عامة غير متخصصة في هذا المجال أو ذاك منهم من يعتقد أن السبيل لإصلاح البلاد هو إفاضة المال وتكثير الخيرات وملء الجيوب والخزائن والبيوت بأنواع الأموال وادَّعوا أن ذلك ما صار عليه أهل الغرب فتقدموا في نظرهم ووصلوا في الحضارة إلى ما يعتقدون أن هذا ما ينبغي أن يكون عليه العالم أجمع
ومنهم من يعتقد أن تحقيق الآمال لا يكون إلا بالعلم العصري الحديث الذي يُنمي المخترعات والذي يزيد الاكتشافات والذي يسهل الطاقات ويحول الأعمال إلى أعمال سهلة النوال عظيمة الكم بعد المنتج النهائي فتكون قيمتها الاقتصادية لها بال
ونقول لهؤلاء وهؤلاء: أما من يدَّعي أن المال هو سبيل الإصلاح فتعالوا معي إلى أغنى عوالم الأرض وهي الدول الإسكندنافية مثل السويد والنرويج والدنمارك وبعدها في المرتبة أميركا وكندا وبعدها اليابان وألمانيا وبعدها الدول الأوربية الأخرى عندهم الخيرات لكنهم لم يكتسبوا القيم التي جاء بها الرسل والأديان السماوية فتجد أصحاب المصانع وأصحاب المزارع والتجار يكثر عندهم الخير فيحسبون حسبة مالية رياضية لو أجَّرنا مخازن احتياطية لهذه الخيرات ستزيد التكلفة علينا ويكون الربح قليل ماذا يصنعون؟ يرمون الزبد في المحيط ويرمون القمح والذرة وكل هذه الأصناف الفاخرة في المحيط ولا تأخذهم شفقة ولا حنانة ولا رحمة مع معرفتهم المعرفة التامة بأن هناك أناس على سطح البسيطة يتكففون ولا يجدون حتى لقمة العيش الجاف ولكنهم لا يرسلونها إليهم حتى يروجون بضاعتهم ويبيعونها بما تحدده الحسابات الرياضية والنظرية عندهم
مع أن نبينا صلي الله عليه وسلم وهو في أعمق الخلافات بينه وبين أهل مكة وأشد العداوة منهم له صلي الله عليه وسلم حدثت مجاعة كبرى في مكة استجابة لدعوته فقد قال صلي الله عليه وسلم{اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ}[1] فلما أصابهم القحط أرسل أبو سفيان إليه صلي الله عليه وسلم برسالة يقول له (أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ) أي أقاربك وأسرتك فأرسل صلي الله عليه وسلم جمالاً محملة بالميرة – دقيق وقمح وسمن وخيرات – ومعها خمسمائة دينار مع أنهم كانوا له محاربين وللعرب عليه مؤلبين ويريدون أن يقضوا على دعوته في أي وقت وحين
انظر إلى هذا وانظر إلى الذين يتشدقون بحقوق البشر وحقوق الإنسان والحريات والديمقراطية أين ذاك في الاقتصاد؟ لا يوجد له مجال لأن المهم عندهم هو المكسب ولو بموت الآدميين ولو بجوع الفقراء والمساكين لا يهم وإنما المهم عندهم هو المكسب
ثم بعد ذلك مع أن عندهم كل ما يحتاجه المرء في دنياه من مسكن ومأكل ومشرب وملبس وعلاج وتعليم إلا أن عندهم أكبر نسبة أمراض عصبية ونفسية في العالم وأكبر نسبة في حوادث الانتحار في البشرية كلها وفساد تام في العلاقات الاجتماعية فلا توجد روابط ولا مودة ولا تراحم ولا بر لإبن بأبيه ولا أي أنواع الصلات التي جاءت بها الديانات والتي لولاها لمات الإنسان كمداً إذا أحسَّ أنه لا يستطيع أن يتواصل مع من حوله
أما العلم الذي جعلوه ديناً يدينون به فإننا نقول لهم: كم من أشياء ثبت بالعلم أنها ضارة بالإنسان وتحيق به الضرر الشديد ولا بد له أن يتجنبها ليتجنب هذا الأذى الذي يصيبه بسببها ولكننا نجدهم أجمعين لا يستطيعوا تركها كالخَمر والمُخَدرات والزِنَا والعلاقات الجِنسِية المشبوهة والمِثلية كاللِوَاط والسِحَاق وغيرها والرِبَا ومنه خراب العالم الاقتصادي كل هذه الأمور يثبت العلم إثباتاً فائق الحد أضرارها ويدعو لاجتنابها هل من يؤمنون بالعلم ويُقدسونه استطاعوا إيقاف هذه الأشياء في حياتهم؟ أبداً لكن الدِين يستطيع أن يقضي على أي أمر من الأمور في طرفة عين أو أقل
فالخَمر استطاع الإسلام أن يقضي عليها في آنات معدودات حتى أن الله لما أنزل فيها أمر آية الختام في تحريمها بعد التدرج في تحريمها {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} روت الروايات أن كل من كان عنده جرة أو زجاجة فيها خَمر كسرها وأفرغ محتوياتها حتى قيل أن الخَمر من كثرتها ساحت في طرقات المدينة فكان كل من يريد أن يمشي يخوض في الخَمر من كثرتها في لحظة وأقل بدين الله
فالدين له هيمنة على القلوب وله سلطان على النفوس لا يستطيع أن يبلغه العلم مهما تحقق صدقه ومهما سخَّر المختبرات ومهما اخترع من أدوات ومهما جهَّز من مخترعات إلا أن الإنسان باطنه لا يخضع إلا لما جاء من عند خالق الأرض والسماوات إذاً ما العلاج؟
[1] الصحيحين البخاري ومسلم سنن الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
أمراض الأمة وبصيرة النبوة
منقول من كتاب [أمراض الأمة وبصيرة النبوة]