وإلا فقد ذكر النبيّ-صلى الله عليه وسلم-الرؤيا من التهاويل أنّها من الشيطان فسمّاها رؤيا .
قال : عيسى بن دينار : (الرؤيا : هي رؤية ما يتأول على الخير والأمر الذي يسر به، الحلم : هو الأمر الفظيع المجهول يريه الشيطان للمؤمن ، ليحزنه ويكدر عيشه)
والمقصود أن كلا المشاهدتين من أسماء الخواطر القلبية ، ممّا يعرض في ذهن النّائم من الصور والتخيّلات ؛ وعليه : (فمعنى الحلم معنى الرؤيا ، ولكن غلب استعمال الرؤيا في المحبوبة ، والحلم في المكروهة ).
ولذلك قال ابن الأثير –رحمه الله- في «النهاية» (1/417) : «الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء، لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن ، وغلب الحلم على ما يراه من الشر القبيح ، ويستعمل كل واحد منهما موضع الآخر ، وتضم لام الحلم وتسكن».
وأحسن منه أن يقال : «الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا ، والتفريق بينهما من الاصطلاحات الشرعية التي لم يعطها بليغ ، ولم يهتد إليها حكيم ، بل سنها صاحب الشرع للفصل بين الحق والباطل ، كأنه كره أن يسمى ما كان من الله وما كان من الشيطان باسم واحد»
المعاجم تفسر الحلم بالرؤيا ؛ فهل كان العرب الخلّص في عصر المبعث يضعون أحد اللفظين بدلاً من الآخر ، حين تحدّاهم القرآن بسورة من مثله ، فيقال مثلاً : أفتوني في حلمي إن كنتم للحلم تعبرون ؟
ذلك ما لا يقوله عربيّ يجد حسّ لغته ، سليقة وفطرة ، ونستقرئ مواضع ورود اللفظين في القرآن فلا يترادفان ..
استعمل القرآن الكريم ( الأحلام ) ثلاث مرات ، يشهد سياقها بأنها الأضغاث المهوشة والهواجس المختلطة ، وتأتي في المواضع الثلاثة بصيغة الجمع ، دلالة على الخلط والتهوش لا يتميز فيه حلم عن آخر : { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ } [الانبياء : 5 ] .
وعلى لسان الملأ من قوم العزيز ، حين سألهم أن يفتوه في رؤياه : { قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِين} [يوسف:44] .
وأما الرؤيا ، فجاءت في القرآن الكريم سبع مرات ، كلها في الرؤيا الصادقة ، وهو لا يستعملها إلا بصيغة المفرد ، دلالة على التميز والوضوح والصفاء .
من بين المرّات السبع ، جاءت الرؤيا خمس مرّات للأنبياء ، فهي من صدق الإلهام القريب من الوحي :
-
رؤيا إبراهيم –عليه السلام- في آية الصّافّات : {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيم قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين} [الصافات: 104 ، 105]
-
رؤيا يوسف–عليه السلام- إذ قال له أبوه : { قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ } [ يوسف : 5 ] .
-
رؤيا المصطفى –صلى الله عليه وسلم- في الإسراء : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } .
-
رؤياه في الفتح : {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27] .
وتمضي القصّة في سياقها القرآني ، فإذا رؤيا الملك صادقة الإلهام ، وليست كما بدت للملأ من قومه أضغاث أحلام . »
وبهذه التعريفات من كلام أهل العلم ، يظهر أنّ الرؤى والأحلام لها حقيقة ، وجوديّة ، مخلوقةٌ في ذهن الرائي ، والنّائم ، وليست هي بالشيء العدميّ كما ينكره أهل البدع ؛ بل ذكرها الله –عز وجلّ- في كتابه ، وأخبر برؤى جماعة من الأنبياء –عليهم السلام- وغيرهم، والواجب حمل الكلام على الحقيقة الشرعيّة ، وهذا هو الذي فهمه أهل العلم ، وردّوا على من أنكر ذلك ، بل ذكروا أنّ منكر الأحلام ، وعلوم التعبير من أهل البدع ، كالمعتزلة والقدريّة وغيرهم حتّى ذكر هذه المسألة جماعة ممّن صنّفوا في الاعتقاد ، وأثر فيها نقول عن أهل العلم الكبار .
-
يقول الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله-:«و الرؤيا من الله حق ، إذا رأى صاحبها في منامه ما ليس ضغثا ، فقصها على عالم ، وصدق فيها فأولها العالم على اصل تأويلها الصحيح ، و لم يحرف ، فالرؤيا تأويلها حينئذ حق ، و قد كانت الرؤيا من الأنبياء وحيا ، فأي جاهل اجهل ممن يطعن في الرؤيا ، و يزعم أنها ليست بشيء ، و بلغني أن من قال هذا القول لا يرى الاغتسال من الاحتلام ، و قد روى عن النبي –صلى الله عليه وسلم- :«أن رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده» و قال –صلى الله عليه وسلم-: «إن الرؤيا من الله» ».
وقال أبو الطيّب في «قطف الثمر» (ص : 111-112) : «والرؤيا من الله تعالى وحي حق … وتأويلها حقّ … فأيّ جاهل أجهل ممّن يطعن في الرؤيا ، ويزعم أنّها ليست بشيء ».
-
قال عثمان بن سعيد الداني (ت : 444هـ) –رحمه الله- في «الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات ، وأصول الديانات» (ص:190-192) : "ومن قولهم –أي : أهل السنة والجماعة- إن التصديق بالرؤيا واجب ، والقول بإثباتها لازم ، وأنها جزء من أجزاء النبوة ، كما ورد الخبر عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، وروى أنس ، وأبو هريرة عنه قال : «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» .
وجاء عن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- ، وعم غير واحد من الصحابة ، والتابعين ، أنها «الرؤيا الصالحة يراها أو تُرى له» .
وقال –عز من قائل- مخبراً عن نبيه يوسف –عليه السلام- :{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِين} [يوسف:4] إلى آخر الآيات .
وقال مخبرًا عنه : { هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } وكذلك ما أخبر به من رؤيا إبراهيم –عليه السلام- في قوله : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } يريد : العمل ، أي : بلغ أن يتصرف معه وأن ينفعه : { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } إلى آخر الآيات .
وقال النبيّ –صلى الله عليه وسلم- : «الرؤيا من الله ، والحلم من الشيطان»"
للشيخ الالباني رحمه الله