مما لا شك فيه أن المسلمين محاطون بأنواع شتى من المشكلات الفردية والاجتماعية، ولكن ماذا ينبغي لهم أن يفعلوا نحو التغلب على هذه المشكلات؟
إن هذا السؤال باعث على الاستغراب إذا كان من قبل رجل مسلم عادي، فضلاً عن أن ينشأ في نفس عالم من علماء الإسلام، إذ إنه يعرف جيدًا أن الإسلام دين أخبر الله بإكماله فقال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ فكيف يسوغ له أن يقع فريسة اليأس، ويفكر فيما إذا واجه المسلمون أنواعًا من المشكلات، ماذا يعملون، وكيف يعيشون؟
إن الكتاب والسنة لم يدخرا وسعًا في بيان منهج الحياة وتعاليم الدين والدنيا، ووضع نظام شامل للحياة يحتوي على كل صغير وكبير، وما يضر وما ينفع، وكل ذلك في أسلوب واضح صريح، ثم لم يكتف الإسلام بوضع النظام، وبيان المنهج فحسب، بل إن الرسول e أقام مجتمعًا مثاليًا تمثلت فيه تعاليم الإسلام في شكل عملي، وطبقها الناس على حياتهم، ولذلك فإن سعادة الدين تتوقف على اتباع الرسول e .
أما إذا انقلبت الأوضاع، وبدأنا نعتقد أن اتباع الرسول عليه السلام رجعية، والعمل بسنته تزمت، فكيف يرجى حسن العاقبة في الآخرة ومصيرنا في الدنيا ظاهر معلوم! إن حياة الرسول e بجميع ما فيها من أعمال وأقوال ككتاب مفتوح أمامنا بفضل الصحابة والمحدثين رضي الله عنهم، فإذا قابلنا بحياتهم حياة الأمة الإسلامية نرى كيف أن السنن تفقد مكانتها من القلوب، وكيف يتجرأ الناس على تركها ونبذها علنًا وجهارًا، بل وكيف تحارب السنن اليوم ويعتبر من يدعو إليها سفيهًا أو أحمق فأي ظلم أكبر من هذا؟ وأي مبرر للمسلمين أن يشكوا من المشكلات والشقاء؟ ويبكوا على البلايا والمحن، وقد قال الله تعالى بكل صراحة وإعلان ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [سورى الشورى] وقال في سورة الروم ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.
والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة، وقد تحدث علي رضي الله عنه عن الآية الأولى فقال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل، وحدثنا به رسول الله e قال: ﴿ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ وسأفسرها لك يا علي! ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم». وقال الحسن البصري رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله e : «والذي نفس محمد بيده ما خدش عود، ولا اختلاق عرق، ولا عثر قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» وعن الضحاك رضي الله عنه قال: ما نعلم أحدًا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ الضحاك ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ ثم يقول الضحاك: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.
وقد تكون العلة في الحوادث والمصائب غير ما ذكرت، ولا يبتلى بها العامة وحدهم، بل تصيب الأنبياء والأبرياء أيضًا، وإنني بهذه المناسبة لا أتعرض لشرح هذه الآيات والأحاديث حتى أحتاج إلى ذكر الاحتمالات والإشكالات الواردة عليها، وإنما أريد الإشارة إلى تلك القوانين والأسباب التي تشير إليها الأحاديث الآنفة الذكر، ومن قوة هذه الأسباب قد يصيب ضررها بعض من لا علاقة لهم بهذه المعاصي، وقد جاء في حديث عن عائشة رضي الله عنها، أن الرسول e قال: «يكون في آخر هذه الأمة خسف، ومسخ، وقذف» قالت: قلت: يا رسول الله ! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا ظهر الخبث» رواه الترمذي.
وإذا كثر الخبث لا يحول دون عذاب الله شيء، بالرغم من وجود الصالحين والعلماء.
وقد وردت أحاديث متعددة بعناوين مختلفة في معنى النواصي بالخير، والمنع عن الشر، وإلا فإن الله سبحانه يسلط عذابًا من عنده، فعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي e قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده، ثم لتدعنه ولا يستجاب لكم» رواه الترمذي.
وعن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله e يقول: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون، إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا» رواه أبو داود وابن ماجة.
وعن جابر قال: قال رسول الله e : «أوحي الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام، أن اقلب مدينة كذا وكذا، فقال: يا رب، إن فيهم عبدك فلانًا لم يعصك طرفة عين، قال: فقال: اقلبها وعليه، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط».
وهناك مئات من الأحاديث تحتوي على معنى الوعيد، إذا لم يتألم المرء بالمنكرات، يعني إذا لم يقدر على تغييرها فلا بد من أن يستنكرها،ويتألم منها.
ولننظر الآن إلى الحالة التي نعيش فيها، وتفكر في العقوبات والبلايا التي نستحقها، بالنسبة إلى المعاصي والذنوب التي تصدر منا، وبالنسبة إلى تألمنا وقلقنا بالمنكرات التي نشاهدها وكيف يرجى – وحالنا هذه- أن تستجاب دعواتنا وتنحل مشكلاتنا وتنقرض المحن التي نعاني منها، وإذا كان الله لا يأخذنا بعذاب يفاجئنا ونقمة تقضي علينا جميعًا، فذلك بفضل رحمة الله علينا، ودعاء نبيه e .
لقد أصبحنا نحن المسلمين نعتز اليوم بكل معصية، ونشق الطريق لكل منكر، ونرى كل من يدعو إلى الكفر بعين ملؤها غبطة فإن اعترض عليه أحد أو أنكر عليه يعتبر رجعيًا، وممن يستحقون الطرد والحبس، لأنه يعوق المجتمع عن التقدم، ويحول دون طريقه إلى النهضة والمدينة، سبحان الله ! ما أعظم الفرق بين أمسنا ويومنا.
هذا ونشير الآن إلى بعض الفروع، مما له صلة ماسة بالموضوع، فالجميع يعلم أن الصلاة في الإسلام تحتل المحل الأول بعد الإيمان، وقد وردت الأحاديث الكثيرة في بيان أهمية الصلاة وأن تركها يؤدي إلى الكفر، وقيل: إن الصلاة فارق بين الكفر والإسلام، أما الأضرار والخسائر التي تلحق المرء بترك الصلاة فقد ذكرتها بإيجاز في رسالتي «فضائل الصلاة» ولكنني أتساءل: ما هو عدد أولئك المسلمين الذين يهتمون اليوم بهذه الفريضة؟
وأدهى من ذلك وأمرُّ أنه لا يوجد هناك من يحاسب تاركي الصلاة، وينبههم على ذلك، وينذرهم بسوء مصيرهم إذا لم يصلوا، وإذا أمكنت محاسبة الفقراء من المسلمين، فلا تمكن محاسبة الطبقة العليا أو الأغنياء، أو الذين يملكون نوعًا من الجاه والشرف، إنه لا يتجرأ أحد أن يستنكر منهم هذا الذنب، ويتكلم كلمة خوفًا من أن تسوءهم وقد بلغ اليوم من جراءة بعض السفهاء أن يجاهر بترك الصلاة، ويعلن أن الصلاة ليست عبادة ومن سوء حظنا أنه يثني عليه وأمثاله، ويعتبره بعض الناس صديقًا للمسلمين وعارفًا بمتطلبات العصر، وقضايا الحياة المعاصرة، فلا يعارضه عندهم إلا جاهل، أو من لا يصلح إلا للإمامة في الصلاة، والذي يجهل مصالح الساعة، ومطالب الوقت، وحاجة المسلمين.
وقد جاء في الحديث أن النبي e قال: «قرة عيني في الصلاة» ولكن الذي يدعي أنه من أتباع الرسول e يعتبر الصلاة شيئًا زائدًا، وهو الذي يتناوله الناس بالإجلال والإكرام، ويعترفون بدقة نظره، وسداد تفكيره.
كيف يشتكي المسلمون من الحوادث والنوازل التي تفاجئهم بين فينة وأخرى، وقد تغيرت أحوالهم وحياتهم رأسًا على عقب، بل يجب أن يفكروا فيما إذا نزلت عليهم مصيبة أو فاجعة، أنها لم تنزل بهم إلا لأنهم سببوا لها، وأنهم كانوا يستحقون ذلك بما كسبت أيديهم، وأن يقولوا، لولا رحمة الله وفضله علينا لم يبق لنا ذكر ولا أثر، وكنا قد أصبحنا في ذمة التاريخ.
هذا عن الصلاة، أما عن صلتنا بأركان الإسلام الأخرى من الصيام، والزكاة والحج فليست إلا ضعيفة، وليس عدد العاملين بها إلا قليلا جدًا، ولكن ولوعنا بالمحرمات والمحظورات في تزايد مستمر، ولنأخذ الخمر مثلاً فإنها نالت لدى كثير من المسلمين انتشارًا ورواجًا، حتى إنهم يتعاطونها بجراءة بالغة من غير حياء ولا خجل، وقد نبه القرآن على تحريمها في آيات كثيرة، وأمر بالابتعاد عنها، بكل صراحة، وقد جاء في الحديث:
حدثنا أبو العباس أنبأنا محمد بن عبد الله أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن حسين الزيادي أن مالك بن سعد التجيبي حدثه أنه سمع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: إن رسول الله e أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال: يا محمد! إن الله لعن الخمر وعاصرها، ومعتصرها وحاملها، والمحمولة إليه وشاربها، وبايعها ومبتاعها، وساقيها ومسقاها، هذا حديث حسن، صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فلننظر ما أكثر من يبتلى من الناس بلعنة الله ورسوله من أجل حرام هي الخمر، وكيف ستكون عاقبة هؤلاء الذين تحيط بهم اللعنة من الله الرؤوف بعباده، ومن الرسول العطوف على أمته؟ ولا تبتعد اللعنة عن الذين يسكتون على هذا المنكر، رغم قدرتهم على تغييره ولننظر إلى ما بلغت إليه حالتنا حول إنكار المنكر رغم قدرتها على تغييره، ولننظر إلى ما بلغت إليه حالتنا حول إنكار المنكر وتغييره، إذ إننا لا نلبث أن نرمي الذين يريدون هذا التغيير بالتزمت والرجعية، وقد قال النبي e : «اتقوا الخمر فإنها مفتاح كل شر» ولكننا حنيما نستفتح أبواب الشر بأيدينا كيف نشكو انتشار السيئات وما دمنا نعلم أن فتح هذا الباب يرادف معنى فشو المنكرات، وعموم البلايا والشدائد، لماذا نضج ونشكو عندما تأخذنا المحن، وتفاجئنا النوازل، إنها لسفاهة وجهل يجب أن نتجنبها.
ولنأخذ الربا مثلاً ونتأمل فيما جاء حوله من إنذار ومنع في الكتاب والسنة، فقد آذن الله سبحانه بحرب ضد الذين يتعاملون بالربا ثم لا ينتهون يقول: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ وذلك لأن الناس في الجاهلية كانوا يتعاملون بالربا فلما جاء الإسلام نهاهم عن ذلك، حتى عن تنفيذ ما سبق من التعامل الربوي، فضلا عن أخذ الربا من جديد.
وورد في الحديث ما ينذر بخطر الربا، وما يترتب عليه من عقاب وسخط من الله، وقد جاء في الحديث عن رسول الله e أنه قال: «الربا سبعون جزءًا أيسرها أن ينكح الرجل أمه» ولا شك أن النيل من عرض المسلم أدهى وأمر من الربا، وفي حديث آخر: «لعن الرسول e آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: هم سواء».
أما إذا نقدنا تعامل الناس اليوم على مقياس الشريعة، فلا نجد ما يخلو من تعامل ربوي إلا قليلا جدًا وأشد من ذلك أننا لا نتلكأ في استباحة الربا جهرًا، ونصدر حول ذلك كتبًا ومؤلفات ويضيق الخناق على من عارض في هذه القضية، وهو يواجه ألوانًا من التهم والافتراءات ثم هو يحارب محاربة شديدة، ويقاطع في بعض الأحيان.
وقس على ذلك الأحكام الشرعية الأخرى، التي لا تنال قيمة في أعيننا ولا أهمية، ولا نقيم لها وزنًا ما، كما أن المنكرات والسيئات من الأعمال التي تحذر منها الشريعة، وتنهى عن اقترافها تجد كل تقدير وتحبيذ ولا نرى أي عار في ممارستها، والتجاهر بها، بكل حرية ووقاحة، من غير أن يوجد هناك من يستنكرها أو ينهي عنها، فإذا تشجع أحد على الاستنكار والحيلولة دونها، لا يعتبر محمود العاقبة.
وبعد هذه الأمثلة التي ضربتها أقدم لكم طائفة من أحاديث الرسول e يتبين بها مدى انحرافنا عن الجادة، وحيدنا عن الطريق، وذلك ما يسبب لنا كوارث ونكبات ليست إلا من كسب أيدينا، وما دام المسلمون يصدقون النبي e يجب عليهم أن لا ينسوا نتائج الأعمال التي أخبر بها أمته، فإن النتائج تابعة دائمًا للأعمال والأخلاق، فمن أراد أن يتجنبها فليترك الأعمال التي تأتي بنتائج وخيمة، شأن الذي يريد أن لا يحترق جسمه من النار، فيبتعد عنها جهد الطاقة.
([1]) كلمة مقتبسة من خطبة طارق بن زياد في الأندلس.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e «إذا اتخذ الفيء دولاً ، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء، وزلزلة وخسفًا، ومسخًا وقذفًا، وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع» رواهما الترمذي وذكرهما في المشكاة بروايته، وذكر صاحب الإشاعة حديث علي رضي الله عنه بأطول منهما، وفي مجمع الزوائد من حديث عوف بنحوه، وفيه وقعدت الحملان على المنابر واتخذ القرآن مزامير.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقي الله في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو. رواه مالك.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله e فقال: «يا معشر المهاجرين! خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، ولم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» رواه ابن ماجة واللفظ له والبزار، والبيهقي ورواه الحاكم بنحوه، وقال: صحيح على شرط مسلم، ورواه مالك بنحوه موقوفا على ابن عباس، ولفظه قال: ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقي الله في قلوب الرعب، ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو، ورفعه الطبراني وغيره إلى النبي e .
الختر بالخاء المعجمة والتاء المثناة فوق: هو الغدر ونقص العهد؛ والسنين جمع سنة، وهي العام المقحط الذي لم تنبت الأرض فيه شيئًا سواء وقع قطر أو لم يقع.
وجاء في حديث آخر عن النبي e قال: «يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب، ولهو ولعب، فيصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير، وليصيبنهم خسف وقذف، حتى يصبح الناس فيقولون: خسف الليلة ببني فلان، وخسف الليلة ببني فلان بدار فلان، ولترسلن عليهم حجارة من السماء، كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها، وعلى دور، ولترسلن عليهم الريح العقيم، التي أهلكت عادًا، على قبائل فيها وعلى دور لشربهم الخمر، ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات، وأكلهم الربا، وقطيعة الرحم» رواه أحمد والبيهقي وصححه الحاكم.
وفي حديث آخر عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e : «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» رواه ابن ماجة والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح؛ والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ورواه الطبراني وقال: فيه من قطيعة الرحم والخيانة والكذب، وإن أعجل البر ثوابًا لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي e قال: «كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي e : «عفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم» .
وانظروا كيف يتحدث النبي e ببالغ الاهتمام «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا منه، فتدعونه فلا يستجيب لكم».
وجاء في حديث آخر يقول: «إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرون، فإذا فعلوا عذب الله الخاصة والعامة» رواه في شرح السنة.
ولا شك في أن هذه هي الأمور التي تسبب الكوارث والنكبات الجديدة، كالزلازل والأعاصير، والفيضانات، والمجاعات، واصطدام القطارات، وما إلى ذلك من الحوادث، التي تتجدد كل يوم مما لا يأتي عليه الحصر، وكذلك الأمراض الجديدة والمصائب الحديثة التي انتشرت اليوم في كل مكان، بينما لم يكن لها وجود من قبل، ويعرف ذلك من له اطلاع على الأمور، ومعلومات بالقضايا والمشكلات، وبما أننا أغلقنا على أنفسنا باب النهي عن المنكر، والأمر بالمعروف، لا ترجى استجابة الدعاء، وهل يكفي دعاؤنا في الصلوات ما دمنا آخذين بأسباب تحول دون استجابة الدعوات.
وقد ورد في أحاديث كثيرة أن رسول الله e لعن الراشي والمرتشي، وفي بعضها لعن الرائش، أي الذي يتوسط بينهما، ونهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن الظلم، فإنه يحول دون استجابة الدعاء، وقال: «إن الله يملي للظالم» عسى أن ينتهى عن ظلمه، ولكنه إذا بطش الظالم لا يتركه، وجاء في القرآن الكريم ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ فلننظر إلى الاعتداءات التي يقوم بها الناس بعضهم على بعض، أليس الله يراها؟ ولا يأخذ أهلها بالمصائب والشدائد؟ وقد جاء في الحديث: «إن الذين يستجاب دعاؤهم، المضطر والمظلوم، وإن كان فاجرًا» وفي رواية: وإن كان كافرًا.
وورد في الحديث عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله e : «يقول الله: اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصرًا غيري» رواه الطبراني وقد قال الشاعر الفارسي ما معناه: اتق دعاء المظلوم فإنه لا يدعو دعاء إلا وتبادر إليه الاستجابة، وقال النبي e : «من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء» رواه الطبراني ولا غرابة فيما إذا كثرت دعوات المظلومين وتزايدت أن تنصرف رحمة عن أهل الأرض، وتنزل عليهم الصواعق وتحيط بهم الكوارث، فإن دعوة المظلوم لا ترد، كما مر آنفًا وكما روى ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله e بعث معاذًا إلى اليمن فقال: «اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
ويروى عن النبي e يقول: «لا تزال أمتي بخير، ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا، فأوشك أن يعمهم الله بعذاب» رواه أحمد.
وبصرف النظر عن المواخير السرية لا نجد أي مدينة تخلو عن الفواحش وحيث لا تمارس الفاحشة جهارًا ولا تكثر فيها أولاد الزنا، حتى يضطر المسؤولون في البلدية في إنشاء محاضن خاصة بهم، وقد أنذر الرسول الكريم e بنزول عذاب الله حيث تظهر الفاحشة، ويكثر الزنا، والربا، فعن ابن عباس رضي الله عنهم عن رسول الله e قال: «إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه الحاكم.
يجب أن نقف هنا وقفة متأمل.. ودارس الأوضاع، لكي ندرك فداحة هذا الخطر المحدق بنا، فكم من رجال يبتلون بهذه المعاصي، ويصابون بهذه الأدواء، التي تؤدي إلى نتائج وخيمة جدًا، تلك التي أنذر بها الرسول e والتي نعاني منها اليوم شيئًا كثيرًا.
وورد في روايات عديدة: أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب أو صورة؛ وعن أبي وائل قال: غزوت مع عمر رضي الله عنه الشام، فنزلنا منزلاً فجاء دهقان يسأل على أمير المؤمنين، حتى أتاه، فلما رأى الدهقان عمر سجد، فقال عمر: ما هذا السجود؟ فقال: هكذا نفعل بالملوك، فقال عمر: اسجد لربك الذي خلقك، فقال: يا أمير المؤمنين إني قد صنعت لك طعامًا فأتني، قال: فقال عمر: هل في بيتك من تصاوير العجم؟ قال: نعم! قال: لا حاجة لنا في بيتك، ولكن انطلق فابعث لنا بلون من الطعام ولا تزدنا عليه، قال: فانطلق فبعث إليه بطعام فأكل منه، رواه الحاكم.
إن نظرة واحدة على بيوت الناس اليوم تكشف لنا أن تزيينها لا يتم إلا بالصور، من غير أن يتجرأ أحد من المشايخ أو العلماء أن يتفوه بكلمة ضدها، فما بالنا نغلق علينا أبواب الرحمة، ونستدعي أسباب الشقاء والعذاب، ثم نشكو ونصرخ حينما تغشانا المصائب والمشكلات، فبينما كان سلفنا الصالح لم يرضوا بالدخول في بيت فيه صورة، نحن نرحب بكل صورة ونعلقها في بيوتنا للزينة والجمال.
اقرؤوا الحديث التالي واستعرضوا الأحوال التي يرضى بها المسلمون، وإعراضهم المدهش عن تعاليم دينهم، يقول النبي e : «ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين، يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين، اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا» رواه أحمد بإسناد صحيح واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه.
ينبغي أن نفكر فيما يدخره الناس من أموال بالبخل والشح، ولا ينفقون ذلك، لا في سبيل الله ولا في سبيل راحتهم، كيف أنهم يؤخذون بأنواع المشكلات والبلايا التي تكلفهم نفقات باهظة، وقد تعتري الأمراض المنوعة التي تفني معظم أموالهم المدخرة، وقد يكون الولد خلفًا ينثرها من غير رفق ولا هوادة، حتى ينفد كل ما جمعوه من الثراء والأموال.
هذه أمور ليست من الافتراضات التي يصنعها الإنسان، بل إنها حقائق واقعة يواجهها الناس كثيرًا في الحياة، وقد ورد في أحاديث متعددة أن الإنسان يعتقد أن ماله ليس إلا لنفسه على أنه لا يتمتع به في أكثر الأحيان، قال رسول الله e : «يقول العبد: مالي! مالي! مالي! وإنما له من ماله ثلاث، ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، وأعطي فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس» رواه مسلم.
وجاء في رواية عن علي رضي الله عنه أنه قال: إن فضل مالك ليس إلا لغيرك وأنت خازنه، وهناك أحاديث كثيرة تحتوي على هذا المعنى وقال الله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ يقول ابن عباس رضي الله عنه: العفو ما يتوافر عن الأهل والأولاد، ولا يفوتنا في هذه المناسبة أن نفكر فيما يدل إليه الإسلام من طرق "مكافحة الفقر" الذي ينال لدى الدول المتخلفة أهمية كبرى. وتعتمد عليه في استلفات أنظار الشعب، وكسب إقبال الجماهير وما أعظم الفرق بين رجل يؤمر أن لا يدخر عنده أكثر مما يحتاج إليه، وبين رجل يحث على أن لا يدخر عنده أكثر من حاجته، وينفق على الفقراء ما يفيض عنها برضاه، فإن الأول ظلم محض، والآخر خير خالص، وفي الأول كبت لحرية الكسب، وتثبيط الهمم، وتعطيل النشاط، وفي الثاني تشجيع على كسب ما أمكن، وبذل الجهود في المكاسب والخيرات، ثم الإنفاق على الفقراء والمساكين وأصحاب الحوائج.
ولا يختص الترغيب في الإنفاق بفضل المال الذي يتوافر عن الحاجة، بل يستحسن جدًا صرف النظر عن المطالب، وإيثار الغير على النفس، فقد قال القرآن في مدح الأنصار ﴿ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ ولم يكن إيثارهم هذا مجرد إعلان وذكر، بل إن الرسول e قدم نماذج عملية له، وأتبعه أصحابه رضي الله عنهم في هذه الأسوة بالعمل، تشهد بذلك سيرهم وتزخر كتب الزهد والرقاق بهذا الموضوع، وإنني لا أريد في هذه المناسبة أن أخوض في التفاصيل، وإنما أريد الإشارة فقط إلى أن المشكلات والعوائق التي نبتلي بها ليست إلا من كسب أيدينا.
وقد دلنا النبي e على أسباب المصائب والنكبات التي لا مراء فيها، كما وصف لنا علاجها أيضًا، ولا أصدق مما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام وحدثه سواء آمن به أحد أم لم يؤمن، وقد قال عليه السلام: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية» وقال أيضًا: «وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء» جمع الفوائد فلم يترك e جزءًا من الأجزاء، ولا ركنًا من الأركان لحياة الإنسان إلا وقد حدث عنه وأشار إليه، يحدث عن الفتن فيقول: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا» المشكاة.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله e فقال: «يا أيها الناس! توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة الصدقة في السر والعلانية، ترزقوا وتنصروا وتجبروا» رواه ابن ماجة، وجاء في رواية أن رسول الله e قال: «ما نقص مال من صدقة، ولا عفا رجل عن مظلمة، إلا زاده الله بها عزًا، فاعفوا يعزكم الله ولا فتح رجل على نفسه باب المسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» رواه في المعجم الصغير.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله e : «إذا أبغض المسلمون علماءهم وأظهروا عمارة أسواقهم، وتناحروا على جميع الدراهم، رماهم الله عز وجل بأربع خصال: بالقحط من الزمان، والجور من السلطان، والخيانة من ولاة الأحكام، والصولة من العدو» رواه الحاكم وعنه أيضًا قال: «جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والنقص في اللذة» تاريخ الخلفاء- وعن أنس رضي الله عنه قال: خدمت رسول الله e عشر سنين، ولم يعبس في وجهي.. ثم قال: «يابني! أسبغ الوضوء يزد في عمرك ويحبك حافظاك، ثم قال لي: يا بني! إن قدرت أن تجعل من صلاتك في بيتك شيئًا فافعل، فإنه يكثر خير بيتك، ثم قال لي: يا بني! إذا دخلت على أهلك فسلم، يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك» رواه الطبراني في المعجم الصغير.
كل هذه الروايات تشير إلى أن المعاصي وكثرة الذنوب إذا كانت تسبب النكبات والحوادث، وتصنع المشكلات والعراقيل، كانت الطاعة، والعبادة له، والعمل بتعاليمه- سببًا كبيرًا لسعادة المرء، وكفيلة له بالنجاح في الدنيا والآخرة.
قال رسول الله e : «إن الله تعالى يقول:؛ يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي املأ صدرك غنى، وأَسُدَّ فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أَسُدَّ فقرك» رواه في الجامع الصغير برواية أحمد والترمذي، وابن ماجة والحاكم عن أبي هريرة.
هذا الحديث القدسي وما أشبهه من الروايات يشير إشارة واضحة إلى أن السعادة والنجاح يتوقفان على عبادة الله، ولكن العبادة هي التي تواجه اليوم كثيرًا من الجور والظلم من بين سائر الواجبات الدينية غيرها، فالمسلمون اليوم في أغلب الأحوال يغفلون أوقات العبادة وراء اكتساب الدنيا.
وما دامت هذه حالنا، وزاد انهماكنا في لذاتنا، فكيف لا تتفاقم الأخطار والمشكلات التي تحدق بنا من كل جانب، إن المسلمين لن يتمكنوا من التوصل إلى حل مشكلاتهم بالاستغناء عن الدين، فقد قرأنا في الروايات الآنفة الذكر أن الله يعد بالفقر وشغل القلوب بالهموم إذا لم يتفرغ المرء لعبادته، وقد ورد في الحديث الصحيح أن الله تعالى يقول ما معناه: «إن العباد إذا أطاعوني نزلت عليهم الأمطار ليلا، وهم نائمون، وطلعت لهم الشمس نهارًا، ولا يسمعون صوت الرعد».
ولكن شؤم أعمالنا يحول دون النظام الطبيعي للفصول، واختلاف المواسم والطقوس، فنعاني من قلة الأمطار، وكثرة الجدوب، والمجاعات، وعذاب السيول والفيضانات، بله نزول أمطار الرحمة، وتأمين الأرواح والأموال من الخوف والحزن.
يروى عن كعب الأحبار أنه قال: أصاب الناس قحط شديد على عهد موسى رسول الله e فخرج موسى ببني إسرائيل يستقى بهم فلم يسقوا، حتى خرج ثلاث مرات ولم يسقوا، فأوحي الله عز وجل إلى موسى عليه السلام، إني لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمام، فقال موسى: يا رب ومن هو؟ حتى نخرجه من بيننا فأوحي الله عز وجل إليه: يا موسى أنهاكم عن النميمة، وأكون نمامًا! فقال موسى لبني إسرائيل: توبوا إلى ربكم بأجمعكم عن النميمة فتابوا، فأرسل الله تعالى عليهم الغيث.
وقال سفيان الثوري: بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين، حتى أكلوا الميتة من المزابل وأكلوا الأطفال، وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال، يبكون ويتضرعون فأوحي الله عز وجل إلى أنبيائهم عليهم السلام، لو مشيتم إلي بأقدامكم حتى تحفى ركبكم وتبلغ أيديكم عنان السماء، وتكل ألسنتكم عن الدعاء، فإني لا أجيب لكم داعيًا ولا أرحم لكم باكيًا حتى تردوا المظالم إلى أهلها.
وتزخر كتب التاريخ والحديث بمثل هذه الوقائع والحديث، كما أن هناك مئات من الروايات التي تحتوي على معنى تأثير الأعمال في الحياة، وأن الإنسان إذا كان صالحًا في أعماله، مرضيًا في سيرته، يدرك سعادة الدنيا والآخرة، أما إذ كانت أعماله غير مرضية فإنما يخسر منافعهما ويواجه من الآلام والمصائب ما يشقى به في الحياة.
فإذا كانت أحاديث النبي e مما نؤمن به ونصدقه، فمن الظلم الصريح أن نعرض عنها، ونلقي بأيدينا إلى التهلكة، ونستحق أصناف العذاب والمصائب، ثم نشكو من ضعف المسلمين ومحنهم.
إن مثلنا كمثل مريض ينطلق بطنه، ولكنه عوضًا عن أن يستعمل دواء يكافح المرض يداويه بدواء الإسهال، إننا نخاف بطش الحكومات، ونعاني من اضطهاد الدول ولكننا لا نفكر فيما صرح به رسول الله e بقوله: «كما تكونون كذلك يؤمر عليكم» فإن كنا نريد أن يؤمر علينا رجال صالحون يجب علينا أن نقبل على الأعمال الصالحات، ولا نبغي عنها عوضًا.
ففي حديث آخر عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله e : «إن الله تعالى يقول: أنا الله لا إله إلا أنا، مالك الملوك وملك الملوك، قلوب الملوك في يدي، وإن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرحمة والرأفة، وإن العباد إذا عصوني حولت قلوبهم بالسخط والنقمة، فساموهم سوء العذاب، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك، ولكن اشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع، كي أكفيكم ملوككم» رواه أبو نعيم في الحلية، كذا في المشكاة، وفي مجمع الزوائد برواية الطبراني، وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن مالك بن مغول، قال: في زبور داود مكتوب: إني أنا الله لا إله إلا أنا، فذكر معناه.
وتتضمن روايات عديدة هذا المعنى، وفي الدعاء المأثور عن النبي e «اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا» وقال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: حدثت أن موسى أو عيسى قال: يا رب! ما علامة رضاك عن خلقك؟ قال: أن أنزل عليهم الغيث إبان زرعهم، وأحبسه إبان حصادهم، وأجعل أمورهم إلى حلمائهم، وفيأهم في أيدي سمحائهم، قال: يا رب! فما علامة السخط؟ قال: أن أنزل عليهم الغيث إبان حصادهم، وأحبسه إبان زرعهم، وأجعل أمورهم إلى سفهائم وفيأهم في أيدي بخلائهم، وجاء في حديث عن النبي e قال: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليولين الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم» فالذين ينتظرون من خيارهم وصلحائهم دعاء، أو يرون أن دعاءهم لا يستجاب لهم، لا ينبغي أن يفوتهم التفكير فيما إذا كانوا منقطعي الصلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد ورد في حديث آخر.
«إذا أراد الله بقوم خيرًا ولي عليهم حلماءهم، وقضي بينهم علماؤهم، وجعل المال في سمحائهم، وإذا أرد بقوم شرًا ولي عليهم سفهاءهم، وقضي بينهم جهالهم، وجعل المال في بخلائهم – كذا في الجامع برواية الديلمي ورقم له بالضعف، وفي رواية: إن الله تعالى إذا غضب على أمة لم ينزل بها عذاب خسف ولا مسخ، غلت أسعارها، ويحبس عنها أمطارها، ويلي عليها أشرارها».
كذا في الجامع برواية ابن عساكر عن علي رضي الله عنه، ورقم له بالضعف، ولكن رأيت أن الحديث له طرق عديدة بأسانيد شتى، وتأيد بقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ على ما ورد تفسيره في عدة آثار من الدر المنثور وغيره، وفي مجمع الزوائد عن جابر أن الله عز وجل يقول: «أنتقم ممن أغضب بمن أغضب، ثم أُصَيِّر كلاً إلى النار » رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أحمد بن بكر الياسي ضعيف.
وجاء في حديث: «لا تسبوا الأئمة، وادعوا الله لهم بالصلاح فإن صلاحهم لكم صلاح» كذا في المجمع، وفي الجامع برواية الطبراني عن أبي أمامة- وفي حديث آخر: «لا تشغلوا قلوبكم بسبب الملوك، ولكن تقربوا إلى الله بالدعاء لهم، يعطف الله قلوبهم عليكم» كذا في الجامع برواية ابن النجار عن عائشة رضي الله عنها- وقال مكي بن إبراهيم: كنا عند ابن عون فذكروا بلال بن أبي بردة، فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه، وابن عون ساكت، فقالوا: يا ابن عون! إنما تذكره لما ارتكب منك، فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة «لا إله إلا الله» و «لعن الله فلانًا» فلأن يخرج من صحيفتي لا إله إلا الله أحب إلي من أن يخرج منها لعن الله فلانًا- إحياء العلوم للغزالي.
ويروى أن رجلاً جعل يدعو على حجاج بن يوسف أمام رجل صالح، فقال له: لا تفعل، فإن ما يقع الآن إنما هو من نتائج أعمالك، وأخاف أن حجاجًا إذا عزل أو يموت يولي عليك القردة والخنازير.
أما القول السائر: «أعمالكم عمالكم» فضرب للمثل وقيل: إنه حديث، والمعنى أن ولاتكم يكونون بحسب أعمالكم، وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله e «من اتقى الله أهاب الله منه كل شيء، ومن لم يتق الله أهابه الله من كل شيء».
إنني لا أريد بذكر هذه الروايات استقصاءها، وإنما ذكرتها كشهادة على أن النكبات التي تطرق أبوابهم وتلم بهم، ليست عفوًا بل إنهم هم الذين مهدوا لها الطريق، وفتحوا لها الأبواب، بحيدهم عن الصراط القويم، وانحرافهم عن دينهم وأخلاقهم، وأعمالهم التي لا تتفق وشأنهم، وقد سبقت الإشارة في أقوال النبي e وفي كتب الحديث إلى أن المعاصي هي التي تجر الشقاء والنقمة من الله تعالى، وأن الأعمال الصالحة ذريعة للصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، كما جاء التصريح بأن المعصية إذا كانت من نوع كذا تسبب النكبات والمصائب من نوعها أيضًا، وكذلك الطاعة الخاصة تمهد الطرق إلى ما يشبهها من الأجر والثواب.
إننا نشكو الحوادث والنوازل ولا نفكر أبدًا فيما يجر هذه الحوادث إلينا، ويسبب تلك النوازل لنا، بل ونرجو على ذلك أن نكرم بالجوائز ونعطي الأجر والثواب في الدنيا، وإذا أراد أحد أن ينصح لنا، وينبهنا على هذا الخطأ الذي يصدر منا، أخذناه بالعقوبة وطردناه من المجتمع، فليس مثلنا إلا كمثل المريض الذي يشكو الآلام والمرض، ولا يمتنع عما يسبب له الآلام ويزيدها، وكلما وصف له الطبيب ما يستعمله من الأدوية رفضها، وسفهه.
ومما يبعث الحيرة والاستغراب الشديدين أننا نرى الناس لا يتلكأون أبدًا إذا نبهوا على خطر أو خوف أن يهتموا بإزالته، والابتعاد عنه، بكل ما يستطيعون من وسائل وإمكانات، ولكن الناس أنفسهم لا يعيرون أهمية لكلام الرسول e ولا يعتنون بالأخطار التي نبه عليها وصرح بها في أقواله وأحاديثه، ولا يهتمون بما بين من النافع والضار من أعمال وأمور في الحياة، وذلك بالرغم مما ندعيه نحن المسلمين من حب الله ورسوله، والفداء في سبيله.
إذا نشر بلاغ رسمي من الحكومة ينص على أن إلقاء الخطاب إذا كان من نوع كذا جريمة يعاقب عليها المرء بسجن عشرة أعوام، يحذر كثير من الخطباء الأقوياء، والكتاب الشجعان، من أن تبدر منهم كلمة يستحقون بها العقوبة، فيأخذون بالحيطة الدقيقة في كلامهم، أما إذا أعلن الملك الكبير وصرح الله سبحانه بتحريم الربا مثلا، ويؤذن المرابين بالحرب- ويؤذن لمن آذى وليًا من أوليائه بالحرب أيضًا- ويلعن أصحاب الربا وشاربي الخمر، فكم من الناس يبالون بهذا البلاغ العظيم؟ ويفكرون فيما يصيبهم من النكبات والنوازل إذا لم يمتثلوا أمره، يجب أن يفكر كل إنسان فيما يقوم به نحو أوامر الله وأحكامه، إننا إذا كنا لا نرفض ما حرمه الله ولا ننتهي عما نهى عنه، فلا بد من أن ننتظر عقاب الله، ونستعد لمحاربة الله، واحتمال لعنته ومواجهة النكبات والشدائد التي تنزل بنا.
وقد يستشكل بعض الناس من الخاصة، فضلاً عن العامة، أن الحسنات والسيئات، إذا كانت تحمل نفعًا وضرًا للمسلمين، فما بالها ليست كذلك للكافرين، لأن النفع والضرر لا يتغيران بتغير الأشخاص والرجال، غير أننا نرى الكافرين ينعمون في الدنيا، ويتمتعون باللذات والرفاهية، من غير أن يمسهم شيء من أضرار أعمال السيئة، على العكس من المسلمين الذي ليسوا كذلك، وقد جر هذا الاستشكال بعض الجهال إلى إنكار النصوص والأحاديث، واعتبروا مقياس النجاح والسعادة في الدنيا الأمور التي وجدوها في الكافرين، ولا شك أن منشأ هذا الإشكال إنما هو الجهل بتعاليم الإسلام، والإعراض عنها، فلم يترك النبي e في أحاديثه أي مدخل للشك والارتياب، ولكن الغفلة بلغت بنا إلى حيث لا نفهم فيه الحقيقة.
ورد في الحديث الشريف: «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطي عليها في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يعطي بها خيرًا» كذا في الجامع الصغير برواية مسلم وأحمد عن أنس، ورقم له بالصحة- وفي رواية أخرى: «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا،وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة» كذا في الجامع برواية أنس، وعبد الله بن مغفل، وعمار بن ياسر، وأبي هريرة وعزاهم إلى المخرجين، ورقم له بالصحة.
وقد وردت روايات عديدة في معنى أن الله سبحانه يعجل للكافر مثوبة أعماله الحسنة في الدنيا، وبما أنه لا ينال في الآخرة أي ثواب وأجر، يجزي على حسناته التي تصدر منه في الدنيا، ويعيش في هناء ورفاهية أكثر الأحيان، أما المؤمن فإن مركز جزائه ومثوبته هي الآخرة، فيكفر الله عن سيئاته في الدنيا بابتلائه في الشدة والضيق، وكلما زادت سيئاته وكثرت معصيته زاد شقاء في الدنيا، يقول النبي e : «أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا، الفتن والزلازل والقتل» رواه أبو داود.
وهنا يشكل على بعض دارسي التاريخ أن بعض الأمم الماضية لم تؤخذ بالعقاب ما دامت مصابة بالمعاصي، ومنطلقة عن حدود الدين ولكنها لما امتنعت عن المعاصي والمنكرات، وتابت إلى الله، أخذت بالعذاب، فما السبب في ذلك؟ والجواب هو ما أسلفنا في السطور الماضية، وقد يجاب عليه أيضًا بأنها خرجت عن حظيرة الدين ومست حدود الكفر، واستغنت عن الله، فاستغنى الله عنها كذلك، ولكنها حينما اهتدت وثابت إلى الرشد والصواب، ابتلاها في الدنيا تكفيرًا عن سيئاتها، ووقاء لها من عذاب الآخرة، شأن المرض الذي يتعدى حدود الجراحة، فلا تجري عليه العملية الجراحية ولكن الطبيب إذا رجا أن الجراحة تنفع المريض يقوم بها.
انظر إلى معيشة النبي e واستغنائه عن الدنيا، يتحدث عنها عمر رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله e فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه متكئًا على وسادة من أدم حشوها ليف، فرفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: يا رسول الله! أدع الله فليوسع على أمتك، فإن فارسًا والروم قد وسع عليهم وأعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله، فجلس النبي e وكان متكئًا، فقال: «أوَ في ذلك أنت يا ابن الخطاب؟ إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا» فقلت: يا رسول الله! استغفر لي. رواه البخاري.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله e : «يقول الله: لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر عصابة من حديد فلا يشتكي شيئًا، ولصببت عليه الدنيا صبًا».
وذلك كله لأن الدنيا لا تعدل جناح بعوضة عند الله، فقد قال النبي e: «لو كانت الدنيا تعدل جناح بعوضة عند الله ما سقي كافرًا منها شربة ماء» وفي حديث آخر: عن جابر أن رسول الله e مر بجدي أسك ميت، قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟» فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، قال: «فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم».
في هذه الأحاديث دليل على أن الدنيا لا قيمة لها عند الله تعالى، وأن الكفار لا يبتغون إلا الدنيا وحدها، فيجزيهم الله على ما يصدر منهم من بعض الحسنات في دنياهم، والمسلم المؤمن يستحق ثواب الآخرة، ومهما كان مبتلي بالمعاصي والسيئات، لا بد له من أن ينال ثواب الآخرة، ويتمتع بنعيم الجنة، بعدما يجتاز مراحل العقوبة في الدنيا، ويقاسي فيها من آلام ومحن، وذلك هو ما يبشر له بالخير في الآخرة، كما جاء في الحديث: عن عقبة بن عامر عن النبي e قال: «إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» ثم تلا رسول الله e : ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ رواه أحمد.
وجاء في حديث آخر عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله e : «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تصرعها مرة وتعدلها أخرى، حتى يأتي أجله، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء، حتى يكون انجعافها مرة واحدة» متفق عليه، وهناك نصوص كثيرة كلها تدل على أن السبب في سعادة الكفار في الدنيا إنما هو الإملاء من الله سبحانه وتعالى، وجزاء لأعمالهم الحسنة في الدنيا، فكل كافر يقوم بالعمل الطيب يجزي على ما فعل، ولا يؤاخذ على كفره في الدنيا، أما المسلم فلا يترك حتى في الصغائر من ذنوبه، إلا ويؤاخذ عليه، فكلما زاد المسلمون ذنوبًا ومعاصي تحيط بهم النكبات والمشكلات، فلا سبيل لنجاتهم منها إلا أن يجتنبوا الذنوب والسيئات من الأعمال، ويأمروا غيرهم بذلك، يقول النبي e : «لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وماله، وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة» رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وأيضًا عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله e : «إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة» رواه الترمذي.
أما الكفار فإنما يعاقبون في الدنيا بكثرة ظلمهم، أو إسرافهم في الفسق والفجور، أو اعتدائهم على الأنبياء فإذا فعلوا لا يملي لهم الله، بل يعجل لهم العقوبة التي تعم غيرهم ، وقصص الأمم البائدة التي ذكرها القرآن كلها شاهد عدل على ذلك، كما أن تاريخ انقراض الدول يدل على أن الظلم حيثما كثر وتعدى الحدود نصر الله المظلوم، وأيده بالروح والملائكة، ويستجيب دعاءه ولو كان كافرًا.
بآرك الله فيك أخي
وهنا لا بد من تنبيه وهو أن الله سبحانه خالق الأسباب، وقد فرق بين المؤمن والكافر في تأثير هذه الأسباب، فلا ينبغي أن نعتقد أن الذي ينفع الكافر ينفع المؤمن، وأن ما يضره يضر المؤمن أيضًا، فإن مثل هذا الاعتقاد جهل بالدين، وعدم وقوف على كلام الله ورسوله.
ومن ثم يجب أن نفهم جيدًا أن المركز الأصيل لعقوبة الكفار هي الآخرة، وقد يظهر شيء منها في الدنيا نظرًا إلى بعض المصالح، أما الحسنة التي يؤدونها، والأعمال الطيبة التي يقومون بها، فلا بد من أن يلقوا جزاءها من الله رب العالمين في هذه الدنيا، وذلك لأنهم لا يؤمنون بالآخرة فكيف يترقبونها، وبم يعللون تأخير الجزاء، ومن المعقول أن ينالوا عقوبة إنكار الآخرة في الآخرة، قال الله تعالى: ﴿ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [السجدة:].
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ [الأحقاف].
وأسوق هنا عدة آيات من القرآن الكريم مما يوضح الموضوع:
1ـ ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ ﴾ [البقرة]
2ـ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ*﴾ [البقرة].
3ـ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [البقرة]
4ـ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء].
5ـ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام].
6ـ﴿ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ [الأنعام].
7ـ﴿ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ﴾ [الأنفال].
8ـ﴿ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة].
9- ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود].
10- ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ﴾ [الرعد].
11- ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا *﴾ [بني إسرائيل].
12- ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى *﴾ [طه].
13- ﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ [القصص].
14- ﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص].
15- ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص].
16- ﴿ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان] وسورة [فاطر]
17- ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى].
وهناك آيات كثيرة أخرى تتضمن معنى أن غاية الكفار والمشركين من حياتهم إنما هي الحياة الدنيا فحسب، وأن منافع الدنيا وحدها تنال اهتمامهم وإعجابهم، بل إنهم لا يؤمنون بالآخرة، والذين يؤمنون منهم بالآخرة، لا يستوفون شروط الإيمان بها، ولذلك فإن رضي الله ببعض أعمالهم الحسنة، يجزيهم بها في دنياهم.
سئل ابن عباس رضي الله عنه عن تفسير الآية ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ فقال: إن الله تعالى يستوفي جزاء أعمالهم بصحة أبدانهم، وإدخال السرور إلى أنفسهم بزيادة الأولاد والأموال، وإلى ذلك تشير الآية الواردة في سورة بني إسرائيل: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾ يعني أن الله تعالى يعطي من يشاء ما يشاء.
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه في ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴾ قال: يؤتون ثواب ما عملوا في الدنيا، وليس لهم في الآخرة من شيء.
وعن قتادة رضي الله عنه في: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ يقول:
من كانت الدنيا همه وسدمه، وطلبته ونيته، وحاجته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة ليس فيها حسنة، وأما المؤمن فيجازي بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة.
وعن مجاهد رضي الله عنه في: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ قال: من عمل للدنيا لا يريد به الله، وفاه الله ذلك العمل في الدنيا أجر ما عمل.
وعن ميمون بن مهران رضي الله عنه قال: من كان يريد أن يعلم ما منزلته عند الله فلينظر في عمله، فإنه قادم على عمله كائنًا ما كان، ولا عمل مؤمن ولا كافر من عمل صالح إلا جزاه الله به، فأما المؤمن فيجزيه في الدنيا والآخرة بما شاء، وأما الكافر فيجزيه في الدنيا الدر المنثور.
وقد ورد في تفسير الآية: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *﴾ عن محمد بن كعب قال: من يعمل مثقال ذرة من خير من كافر، يرى ثوابها في الدنيا، في نفسه وأهله، وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس عنده خير، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا من مؤمن، يرى عقوبته في الدنيا، في نفسه وأهله، وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس عليه شيء، وعلى ذلك يقول النبي e : «أمتي هذه مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، إنما عذابها في الدنيا، الفتن والزلازل والقتل والبلايا» كذا في الجامع الصغير ورقم له بالصحة.
كل هذه الروايات دالة على أن هذه الأمة تؤاخذ على خطاياها في هذه الدنيا، رحمة عليها وكفارة من ذنوبها، فإن لم تكن قد أصيبت بالبلايا على كثرة ذنوبها وآثامها، لكان ذلك نذير خطر كبير بالنظر إلى معادها ومصيرها، فالعلاج الوحيد لتوقي هذه الأمة المحمدية من المصائب والحوادث، ومواجهة النكبات والخسائر، إنما هو تركيز عنايتها بالاحتراس من المعاصي، فإذا ما صدر منها شيء من الذنوب تندم عليه، وتستغفر الله منه وتتوب إليه، أما أن ترتع في مراتع الذنوب والمعاصي، وترجو السلامة من كل غضب من الله، فلا يكون ذلك، ولن يكون.
وما دام المسلم يتظاهر بالإسلام ويرتكب المعاصي، لا ينهض ولا يعز ولكنه إذا انقلب كافرًا وقطع صلته بالإسلام، يستطيع أن يتدرج في الدنيا إلى مدارج العز والرفاهية، وينال فيها جزاء كل الحسنات التي يقوم بها، فعن سليمان بن عامر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ! إني أبي كان يصل الرحم، ويفي بالذمة، ويكرم الضيف، قال: «مات قبل الإسلام؟» قال: نعم قال: «لن ينفعه ذلك، ولكنها تكون في عقبه، فلن تخزوا أبدًا، ولن تذلوا أبدًا ولن تفتقروا أبدًا».
هذا الحديث يرد على سؤال أن الكافر بالرغم من سوء أعماله يعيش في الدنيا في بحبوحة من العيش والراحة، لأن والديه قد خلفًا له ثمار أعمالهم الطيبة، ولا شك في أن هناك نصوصًا كثيرة من الكتاب والسنة، تدل على أن مبدأ التقدم والرفاهية ليس أمرًا مشاعًا بين الكافر والمسلم، وقد يشاركان في بعض الأمور، أما مقياس التقدم للمسلمين فإنما هو تنفيذ الدين كله، والاحتراس من المعاصي، فكلما كثرت المعاصي كثرت البلايا والنوازل، ولا ينبغي أن نقيس حياتنا على حياة الكفار الذين لا يصابون بالبلايا رغم صدور السيئات والمنكرات منهم، بل إنهم يتقدمون في جميع مراحل الحياة، كما لا ينبغي أن نأمن كل بلية ونازلة لأننا إذا فعلنا ذلك نكون قد نادينا المصائب، أو استحققنا الاستدراج الذي لا تتأخر نقمته كما سبق أولا.
ولذلك فإن ارتجاء المسلمين السعادة مع اقتراف السيئات والمعاصي يرادف حرمانهم إياها، كما أن النظر إلى الكفار واقتفاء خطاهم طمعًا في المنافع، وحرصًا على الرفاهية التي يتمتعون بها، ليس ما يسمى بالوقاحة فقط، بل إنه يمهد الطريق إلى الخيبة والإخفاق.
كان من عادة الفرس والروم في الحروب أن الفريق الغالب كان يقطع أعناق رؤساء الفريق المغلوب، ويحمل رؤوسهم إلى الأمير والحاكم تظاهرًا بالفخر والغلبة، فلما تحارب المسلمون في عهد سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وانتصروا على أعدائهم فعلوا معهم مثل ما كانوا يفعلون، وحملوا رأس أحد البطارقة الرومية مع عقبة بن عامر رضي الله عنه إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلما بلغه أنكر ذلك أشد إنكار، فقال له عقبة بن عامر: إنهم يصنعون بنا، فقال: أتسنون بفارس والروم؟ لا يحمل إلي رأس، إنما يكفي الكتاب والخبر، ولو أن الفقهاء أجازوا ذلك نظرًا إلى بعض النصوص، ولكن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لم يرض وكره الاستدلال بالفرس والروم.
عن طارق بن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، وأبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة له فنزل عنها، وخلع خفيه، فوضعها على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟ تخلع خفيك، وتضعهما على عاتقك، فتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: أوه، لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة! جعلته نكالاً لأمة محمد e إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.
الحقيقة أن العز الحقيقي هو ما يمنحه الله، ومن أكرمه الله بعزه، لا يبالي بذلة الدنيا وأهلها.
وقد جاء في الحديث ما معناه: إن من يطلب العزة في الناس بمعصية الله، ينقلب مادحوه ذامين له، فلم يعد للمسلمين طريق نحو السعادة والتقدم والعزة، ولم يبق لهم طريق لتحقيق غايتهم من الحياة، إلا الحصول على رضا الله والعمل بمرضاته.
ومن العجب العجاب أن ينطلق المسلمون إلى تقليد الكفار والمشركين، والأكل من فتات موائدهم ليحققوا لهم بعض النفع، تاركين كتاب الله وسنة رسوله اللذين يفيضان نورًا وهداية، ويدعوانهم إلى كل خير وتقدم وسعادة.
أليس هذا وقاحة ومقاطعة لله ولرسوله؟ إن مثلهم في ذلك كمثل المريض الذي يعيش مع طبيب كبير يعتبر مرجع الناس ويقصده المرضى من كل مكان، ولكنه لا يراجع الطبيب في أمره، بل يعتمد على متطبب متطفل لا يؤمه المرضى، ولا يشفيهم بعلاجه.
عن جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى رسول الله e بنسخة من التوراة فقال: يا رسول الله! هذه نسخة من التوراة، فسكت فجعل يقرأ فوجه رسول الله e يتغير، فقال أبو بكر: ثكلت الثواكل، ما ترى ما بوجه رسول الله e ؟ فنظر إلى وجه رسول الله e فقال: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله، رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا وبمحمد e نبيًا فقال رسول الله e : «والذي نفس محمد بيده! لو بدا لكم موسى فاتبعتموه، وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حيًا وأدرك نبوتي لاتبعني».
لقد كان غضب النبي e حقًا، لأن المسلم ما لم يكن محيطًا بالكتاب والسنة، وما فيهما من أحكام ونصوص، لا يستطيع أن يستفيد من كتاب اختلط فيه الباطل مع الحق، أما من كان عنده علم كاف بالدين، وهو يميز الحق عن الباطل، فلا بأس عليه أن يقرأ كتابًا ليس فيه حق محض، لأنه لا يكاد يضل الطريق السوي لما عنده من علم الكتاب والسنة، والتوراة عندما كان فيها من الأحكام ما نسخ، وتناوله اليهود بالتحريف، أبدى النبي e غضبه على قراءته، خوفًا من أن يلتبس الأمر، ويؤدي إلى الضلال، وقال ابن سيرين رضي الله عنه: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
وعلى ذلك شدد العلماء والمشايخ النهي عن صحبة رجال لا تستقيم سيرتهم الدينية، وعن استماع خطبهم وقراءة كتاباتهم لكي يتقى تأثيرهم السيئ وما جاء في المثل: «انظروا إلى ما قال ولا تنظروا إلى من قال» فهو صحيح يؤيد الذي جاء في الحديث بألفاظ مختلفة «الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها» ولكن ذلك لا يتأتى ما لم يكن المرء يتمتع بالتمييز بين الحق والباطل، ويكون ناضج العقل خبيرًا بقواعد الدين، حتى يستطيع أن يقول: هذا حق، وهذا باطل، هذا صواب، وذاك معارض للكتاب والسنة.
والواقع أن صلاح المسلمين ونجاحهم ليس إلا في اتباع الدين كاملاً واقتداء أسوة الرسول e وسيرة السلف الصالحين، مهما شوه المشوهون صورة الإسلام، ورماه الكفار والمشركون بالرهبنة والتعصب، والتاريخ الإسلامي الناصع الذي لا غبار عليه البتة يشير إلى أن الإسلام هو الذي أنقذ العالم من حيرة الضلال والانهيار، وأضفى عليه حياة جديدة، وقداسةً وطهرًا، وأن المسلمين هم الذين حاربوا التقاليد الباطلة والعادات الوحشية، وأعادوا كل شيء إلى نصابه، وملؤوا العالم خيرًا وعدلا، واستقامة ومعرفة بالحقوق، فلم يكن يوجد من يرتكب السيئات، ويخالف القوانين الإسلامية العادلة، حتى قالوا: لم يكن أحد يترك الصلاة إلا منافق ظاهر نفاقه، وكلما حزبهم أمر أو مصيبة فزعوا إلى الصلاة.
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: إذا هبت ريح عاصفة فزع النبي e إلى الصلاة، ودخل المسجد، ولم يخرج ما لم تنته، وقد تحدث عديد من الصحابة رضي الله عنهم بطرق مختلفة عن عادة الرسول e هذه، وفزعه إلى الصلاة كلما حزبه أمر كما روى أحد الصحابة عن النبي e أن الأنبياء السابقين كانوا يفعلون ذلك، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتبعون النبي عليه الصلاة والسلام ذلك أيضًا، وقد كانت الصلاة تحتل عندهم محلاً رفيعًا جدًا حتى إن سهام الأعداء ما كانت تقطع صلاتهم، وما كانوا يسمعون صوت الأذان إلا ويتركون تجارتهم وأعمالهم، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجه تعليمات عن الصلاة إلى عماله، وولاة أمور الحكم في عهده، وأخبرهم بأن الصلاة أهم شيء عنده، فمن حافظ عليها حافظ على الدين كله، ومن أضاعها أضاع الدين كله.
وعندما بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد إلى أهل الردة، أمره بأن يقاتلهم على خمس خصال، فمن ترك واحدة من الخمس قاتله، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاء، وصيام شهر رمضان، فقال: اتق الله ما استطعت واحكم بالعدل، وصل الصلاة لميقاتها وأكثر ذكر الله.
كانت وقعة أجنادين الشهيرة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حارب فيها المسلمون ضد الروم، فلما تراءى العسكران بعث قائد الروم رجلا عربيًا كعين له، فقال له: ادخل في هؤلاء القوم، فأقم فيهم يومًا وليلة، ثم ائتني بخبرهم، فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر عليه، فأقام فيهم يومًا وليلة، ثم أتاه فقال له: ما وراءك؟ فقال له: بالليل رهبان وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم لقطعوا يده، ولو زنى لرجم لإقامة الحق فيهم.
وقد وردت في كتب الحديث قصة امرأة مخزومية سرقت في عهد رسول الله e في غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه، فلما كلمه أسامة بن زيد فيها تلون وجه رسول الله e فقال: «أتكلمني في حد من حدود الله» قال أسامة: أستغفر الله لي! فلما كان العشي قام رسول الله e خطيبًا فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد! فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع يدها».
هذا! وتزخر كتب الحديث بمثل هذه القصص التي تملأ قلوب الكفار رعبًا ودهشة من المسلمين، كما أن القائد الرومي حينما سمع مقالة الرجل العربي الذي بعثه عينًا إلى جيوش المسلمين ، قال لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خبر من لقائهم على ظهرها.
أسر المسلمون روميًا فانفلت من أساره وفر، فلما وصل إلى هرقل سأله عن خبر المسلمين وقال له: أخبرني عن أحوالهم بما تتمثل لي سيرتهم تمامًا، فقال له: إنهم رهبان بالليل وفرسان بالنهار، ولا يأخذون من أهل الذمة شيئًا بغير مقابل، يلتقون فيما بينهم بالسلام، فقال هرقل: إن كنت صادقًا فيما تقول، فإنهم سيملكون موضع قدمي هاتين.
وكتب يزيد بن أبي سفيان إلى أبي بكر رضي الله عنه يخبره بما جرى في حرب أنطاكية: «أما بعد! فإن هرقل ملك الروم لما بلغ مسيرنا إليه، ألقى الله الرعب في قلبه، فحول ونزل أنطاكية» وكتب أبو بكر رضي الله عنه معه بهذا الكتاب: «أما بعد! فقد بلغني كتابك تذكر فيه تحول ملك الروم إلى أنطاكية، وإلقاء الله الرعب في قلبه من جموع المسلمين، فإن الله تبارك وتعالى- وله الحمد- قد نصرنا ونحن مع رسول الله e بالرعب، وأيدنا بملائكته الكرام، وإن ذلك الدين نصرنا الله فيه بالرعب، هو هذا الدين الذي ندعو الناس إليه اليوم».
لقد كان جيش هرقل كثيفًا بإزاء جيش المسلمين، وأخبر بذلك عمرو بن العاص أبا بكر رضي الله عنهما، فكتب إليه: «إنكم لا تغلبون بقلة عددكم، وإنما تغلبون بالمعاصي على كثرة عددكم، فاحترسوا منها» وذلك ما جعل المسلمين غالبين على كل شيء من البر والبحر، والحيوانات من السباع والطيور عدا الإنسان، ويزخر التاريخ بقصص انتصاراتهم التي تحوج إلى أسفار.
ذات مرة احتاج المسلمون إلى نصب معسكرهم في إحدى غابات أفريقيا التي كانت تموج بالسباع والحشرات السامة، فوصل عقبة بن عامر قائد الجيش إلى ناحية ببعض أصحاب رسول الله e وأعلن قائلاً: أيتها الحشرات والسباع! نحن أصحاب رسول الله، فارحلوا، فإنا نازلون فمن وجدناه بعد قتلناه، وما هي إلا لمحات قليلة إذ عم هذا الخبر في أوساط هذه الحيوانات، وارتحلت كلها تحمل أولادها.
وعن ابن المنكدر أن سفينة مولى رسول الله e أخطأ الجيش بأرض الروم أو أسر، فانطلق هاربًا يلتمس الجيش، فإذا هو بالأسد، فقال: يا أبا الحارث! أنا مولى رسول الله e كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد له بصبصة، حتى قام إلى جنبه، كلما سمع صوتًا أهوى إليه، ثم أقبل يمشي إلى جنبه حتى بلغ الجيش، ثم رجع الأسد.
ولما حان الزحف على المدائن في حرب الفرس كانت دجلة تعترض الطريق، فأمر الكفار بنقل السفن منها لكي لا يعبرها المسلمون وكانت أيام المطر ودجلة فائضة، فأمر قائد الجيش سعد الفرسان أن يخوضوا النهر بأفراسهم، فكانوا يمشون في النهر مثنى تسبح أفراسهم، وكان سلمان رفيق سعد رضي الله عنهما في السباحة، فكان يكرر سعد رضي الله عنه قوله: والله لينصرن الله وليه ، وليظهرن دينه، وليهزمن عدوه، ما لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات.
وبعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه العلاء بن الحضرمي في حرب المرتدين إلى البحرين، فسلكوا مفازة، وعطشوا عطشًا شديدًا حتى خافوا الهلاك، فنزل وصلى ركعتين، ثم قال: يا حليم، يا عليم، يا علي، يا عظيم، اسقنا! فجاءت سحابة كأنها جناح طائر فقعقعت عليهم وأمطرت، حتى ملؤوا الآنية وسقوا الركاب، ثم انطلقنا حتى أتينا دارين، والبحر بيننا وبينهم، وفي رواية أتينا على خليج من البحر ما خيض فيه قبل ذلك اليوم، ولا خيض بعد، فلم نجد سفنًا وكان المرتدون قد أحرقوا السفن، فصلى ركعتين، ثم قال: يا حليم، يا عليم، يا علي، يا عظيم، أجزنا! ثم أخذ بعنان فرسه ثم قال: جوزوا باسم الله، قال أبو هريرة: فمشينا على الماء، فوالله ما ابتل لنا قدم، ولا خف ولا حافر، وكان الجيش أربعة آلاف، ويروى أنه كان للعلاء بن الحضرمي، ومن كان معه حوار إلى الله تعالى في خوض هذا البحر، فأجاب الله دعاءهم، وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر وكان شاهدًا معهم:
وأنزل بالكفار إحدى الجلائل
دعانا الذي شق البحار فجاءنا
بأعظم من فلق البحار الأوائل
وهناك وقائع كثيرة لعبور البحار والأنهار وما شاكلها، ولكن هذه القصص- أيها القارئ العزيز- ليست للتسلية والاستمتاع ولا لتزجية الوقت، بل إنها مرآة يجب أن نرى فيها صورنا الكالحة، فما من صغير ولا كبير إلا وقد أرشدنا إليه رسولنا العظيم في أقواله، وفرق لنا بين سبل الخير والشر، فلما عمل بها السلف الصالح نجحوا وفازوا، ونحن حينما لم نقم لها وزنًا، ولا عرفنا قدرها، ولا أردنا اتباعه e ، وقد خلت قلوبنا من خوف الله، ذللنا وامتهنا، ولم تتمخض حياتنا بالسعادة والنجاح، اقرؤوا التاريخ الإسلامي تروا كيف كان الخليفة يوصي الجيش وقائده، وكم كان الجيش حريصًا على تنفيذ وصايا الخليفة، انظروا كيف أوصى عمر سعدًا رضي الله عنهما حينما أرسله إلى العراق وأمره عليها.
يا سعيد بن وهيب! لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله e وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم، وهم عباده يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله e منذ بعث إلى أن فارقنا عليه، فالزمه، فإنه الأمر. هذه عظتي إياك، إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك، وكنت من الخاسرين، ولما أراد فراقه قال له: «إنك ستقدم على أمر شديد فالصبر الصبر! على ما أصابك ونابك، تجمع لخشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته، وإنما طاعة من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وإنما عصيان من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة» البداية والنهاية.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله e : «من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى» وقد كان الصحابة رضي الله عنهم قد تفطنوا لهذه الكلية وعضوا عليها بالنواجذ، والحقيقة أن من آثر الآخرة على الدنيا، وتحمل خسائرها بإزاء الآخرة، فهو وإن أضر بدنياه في ظاهر أمره غير أنه ليس ضررًا في الواقع، فقد قال النبي e : «من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر ين عينيه، وشتت عليه أمره، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له».
وقد تواترت قصص الصحابة رضي الله عنهم والصالحين من عباد الله فيما يتصل بالدنيا وإتيانها راغمة إليهم، وكيف لا يكون ذلك، فإن الدنيا لم تخلق إلا لخدمتهم.
بعث سعد ذات مرة عاصم بن عمر أميرًا على قليل من الجيش لفتح ميسان، فلما وصل عاصم إذا بالمسلمين قد نفد ما كان عندهم من الزاد، وبحثوا فلم يجدوا فلقيهم رجل من أهل فارس كان راعيًا بناحية من إحدى الغابات، فسألوه عن لبن وحمالة من الدواب، فكذبهم وقال: لا أدري، وإذا بثور خار في الغابة، وقال: كذب عدو الله، ها نحن! فدخل عاصم الغابة، وجاء بالثيران منها، ووزعها على الجيش.
وقال بعض المؤرخين، إن هذه القصة حدثت مع سعد رضي الله عنه في القادسية، ولكن لا مانع من أن تكون قد حدثت مع الرجلين كليهما، ولما سمع الحجاج بن يوسف الثقفي بهذه القصة تعجب منها، ودعا الذين شهدوها يطلب منهم تصديقها فقالوا: إننا سمعنا صوت الثور، فسألهم عن قول الناس في هذا، فقالوا: إن الناس كانوا يستدلون بهذه الوقعة على رضا الله سبحانه عن المسلمين، وأن نصر الله حليفهم، فقال الحجاج: إن هذا لا يكون إلا إذا كان الجيش كله تقيًا، فقالوا: إنا لا نعلم ماذا كان في قلوب الجيش، فأما ما رأينا، فما رأينا قط أزهد في الدنيا منهم، ولا أشد بغضًا لها، ليس فيهم جبان، ولا غال، ولا غدار.
ولا غرابة فيما إذا كانت البهائم تنطق، أو تعرض نفسها لخدمة الصالحين من عباده، فإن نطق البهائم مما تحكي عنه الأحاديث الصحيحة فقد جاء في البخاري وغيره من كتب الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله e قال: «بينما رجل يسوق بقرة إذا أعيا فركبها فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلم» فقال رسول الله e : «فإني أؤمن به أنا، وأبو بكر، وعمر، وما هما ثم، وقال: بينما رجل في غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها فأخذها فأدركها صاحبها فاستنقذها، فقال له الذئب: فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم، فقال: أؤمن بها أنا، وأبو بكر، وعمر، وما هما ثم» المشكاة باب مناقب أبي بكر وعمر.
تحتوي كتب المعجزات على شيء كثير من مثل هذه الحكايات كما في الشفاء للقاضي عياض، فمن شاء فليراجعه إن هؤلاء الصالحين البررة من عباد الله حينما أخلصوا لله، وتوكلوا عليه، إنقاد لهم كل شيء، حتى الحيوانات والبهائم تستجيب لندائهم، وتسعى لإسعافهم، ويصدق عليهم المثل «كما تدين تدان» إن التاريخ يزخر بذكر حنينهم نحو الشهادة في سبيل الله.
يروي أبو داود أن النبي e ضحى بمائة بدنة في حجة الوداع، ولما كان النبي e ينحر البدن طفقن يزدلفن إليه خمس وست بدنات دفعة واحدة، كل واحدة منها تحب أن يبدأ بها e ، وعندما نرى في الدنيا أن صغار الحكام الذين لا يملكون من أمرهم شيئًا يساعدون أتباعهم ومحبيهم بكل إمكانياتهم فكيف لا يحمي الله سبحانه عباده المطيعين، ويمنع ظهرهم، وقد وعدهم بذلك في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾ و ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ﴾.
كان الصحابة رضي الله عنهم قد فهموا هذه الحقيقة جيدًا، فكانوا يعيشون في طاعة الرسول، والنصر حليفهم في كل وقت، وما أن عثروا وزلوا في أمر من الأمور إلا واجهوا مشاقًا، وابتلوا بمحن كما وقع في معركة أحد، أمر رسول الله e جماعة من الرماة بالثبات في مكانهم على كل حال، وكان المسلمون يغلبون على عدوهم، فلما رأوا أن الغلبة تمت للمسلمين أو تكاد، ظن بعض أفراد من الرماة أن لا حاجة إلى البقاء في المكان، وخرجوا يتعقبون الكفار،وقد استنكر أميرهم خصلتهم هذه، ولما خرجت الرماة من مكانهم، أوتي المسلمون من قبلهم، وكذلك اغتر بعض المسلمين يوم حنين بكثرتهم، فأصيبوا بهزيمة وبلاء، وإلى ذلك أشار القرآن، فقال: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾.
وفي حرب المرتدين قامت المعركة أولا مع طليحة الكذاب، ففر منهم كثير، وقتل عدد، وفر طليحة أيضًا وتشجع المسلمون، وارتفعت همتهم، ثم وقع قتال عنيف مع جماعة مسيلمة قتل فيه آلاف من رجاله، واستشهدت جماعة من المسلمين، وكان خالد بن الوليد قائدًا في هذه المعارك فيقول: إنا لما فرغنا من طليحة الكذاب، ولم تكن له شوكة، قلت كلمة، والبلاء موكل بالقول: وما بنو حنيفة؟ ما هي إلا كمن لقينا، فلقينا قومًا ليسوا يشبهون أحدًا، ولقد صبروا لنا من حين طلعت الشمس إلى صلاة العصر.
يعني إنه يتأسف على ما بدر منه ذلك القول، الذي أدى إلى شدة المقاومة، وطول المدة، وذلك ما جعل الخلفاء الراشدين يؤاخذون بأدنى شيء، وينبهون على أقل خطأ، وعندما كان خالد بن الوليد يلي حرب العراق، كتب إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
"أما بعد، فدع العراق وأخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض مختفيًا في أهل القوة من أصحابك، الذين قدموا معك العراق من اليمامة، وصحبوك في الطريق، وقدموا عليك من الحجاز، حتى تأتي الشام، فتلقى أبا عبيدة، ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام"
وكان فيما كتب إليه به أن: "سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع بعون الله سبحانه أحد من الناس إشجاءك، ولم ينزع الشجا أحد من الناس نزعك، فلتهنأك أبا سليمان النعمة، والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله تعالى له المن وهو ولي الجزاء".
لقد كان هؤلاء الناس يهتمون كثيرًا بالزجر والتنبيه على أمور لا تسترعي الانتباه بوجه عام، وكانوا يؤاخذون على المعاصي أشد المؤاخذة.
ذات مرة ألح عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عزل خالد ابن الوليد عن قيادة الجيش، أيام خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في أمر حدث له، ولكن أبا بكر رضي الله عنه لم يرض به، فلما كانت خلافة عمر رضي الله عنه، وأجاز خالد أحد الشعراء بجائزة قيمة، طلبه عمر رضي الله عنه، وقد شدت يداه إلى عنقه.
وقد كتب عمر رضي الله عنه مخرجه أول مرة إلى أمراء الأجناد: أن يوافوه بالجابية ليوم سماه لهم في المجردة، وأن يستخلفوا على أعمالهم فلقوه حيث رفعت لهم الجابية، فكان أول من لقيه يزيد، ثم أبو عبيدة، ثم خالد على الخيول عليهم الديباج والحرير، فنزل وأخذ الحجارة فرماهم بها، وقال: سرع ما لفتم عن رأيكم، إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم منذ سنين، سرع ما ندت بكم البطنة، وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنها بلا مقه، وإن علينا السلاح. قال: فنعم إذًا. وركب حتى دخل الجابية. تاريخ الطبري.
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما فتحت ميسان في أيامه، ولاها النعمان بن عدي بن نضلة بن عبد العزي بن حزنان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لوي بن غالب، وكان من مهاجرة حبشة، ولم يول عمر أحدًا من قومه بني عدي ولاية قط غيره، لما كان في نفسه من صلاحه، وأراد النعمان امرأته معه عن الخروج إلى ميسان، فأبت عليه، فكتب النعمان إلى زوجته
بميسان يسقي في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية
وصناجة تجثو على حرف ميسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه
تنادمنا في الجوسق المتهدم
فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ أما بعد! فقد بلغني قولك:
تنادمنا في الجوسق المتهدم
وأيم الله لقد ساءني ذلك! وقد عزلتك، فلما قدم عليه قال له: والله ما كان من ذلك شيء، وما كان إلا فضل من شعر وجدته، وما شربتها، فقال عمرك أظن ذلك، ولكن لا تعمل لي عملا أبدًا. معجم البلدان.
انظروا إلى هذه الشدة في أمر الله، والأخذ بالحيطة على كل خطوة وفي كل مجال، فإن ذلك هو السر في ارتفاع هؤلاء الناس إلى منازل عالية في الدنيا والآخرة، فلما ظهر منهم معصية أصابهم ضررها، كما مرت أمثلة ذلك آنفًا، وكلما كانوا أرفع منزلة كان أخذ الله أشد، مهما صدر منهم ذنب حقير، وهذا مما يعقل، إذ أن المثل السائر يقول: « حسنات الأبرار سيئات المقربين» وقد نبه الله سبحانه نبيه العظيم على ما صدر منه من إيثار شخص كان يرجو إسلامه، ويتكلم معه، على الأعمى الذي جاءه، على أن ذلك لم يكن إلا للدين فحسب، وبالعكس من ذلك كلما كان المرء من طبقة عادية، صفح عنه في صغائر الذنوب، وأخذه في كبائرها.
إن جزيرة «سردانية» الشهيرة فتحت حوالي سنة 90هـ وقد كثر في هذا الفتح غلول، فلما كانوا في السفينة راجعين هتف هاتف غيب وقال: اللهم أغرقهم، فغرقوا.
لقد ذكرنا أقوال الرسول e في أول هذا المقال، وهذه الوقائع أمثلة لها، والتاريخ الماضي يزخر بذكرها، أما ما يجري اليوم في عالمنا فهو ماثل أمام الأعين، إننا نحن المسلمين لم نترك سببًا من أسباب البعد عن الله إلا وقد أخذنا عليه بالنواجذ، ولا سيئة من سيئات إلا واعتنقناها، ولا تزال النكبات والويلات تحيط بنا جماعة المسلمين، وتراود أنفسهم، وقد بدأ التنصل عن فروع الدين وأحكامه يعمل عمله في مجتمعنا.
وكل ذلك يحتاج إلى حل سريع، وعلاج ناجع، ولكن هذا الحل وذاك العلاج ليس إلا في الرجوع إلى الدين، والتمسك به، والاحتراس من المعاصي.
إن كلامًا مثل هذا يسمى في مصطلح اليوم «رجعية » فمن يجاهر بـــ «الرجعية» ومن يؤثرها على «التقدمية»!
فإلى الله المشتكي وهو المستعان
|
أمين
وفيك بركة أختي
جعل الله هذا العمل في ميزان حسناتك
أخوك فلسطيني من غزة