مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد…
فإن المستهدي بنور الإيمان.. والناظر بعين البصيرة قد علم تحقيقًا أنه لا طريق إلى تحصيل سعادة الدنيا والآخرة والفوز بالدرجات العلا.. ونيل رضا الرب تبارك وتعالى.. إلا بمداومة ذكره سبحانه.. وأخذ القلب حظًا وافرا من إجلاله وتعظيمه.
وأدرك يقينا أنه لا زكاة لهذا القلب وإصلاحه إلا بأن يكون الله – عز وجل – محبوبة وغاية مطلوبه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بمعرفته سبحانه وتعالى والمواظبة على ذكره. ونحن الآن في زمن كثرت فيه الذنوب.. وحلت الغفلة على الأوقات.. وسكن الصدأ في القلوب، فأي لحظة غفل فيها العبد عن ذكر الله – عز وجل – كانت وبالاً وخسرانًا عظيمًا.
وقد جهل معظم الناس أهمية الأذكار وما له من فوائد عظيمة.
ونحن نعلم أن العبد بين أمرين بين نعمة أنزلها الله وجب عليه حمدها.. وبين ذنب صاعد منه وجب عليه الاستغفار منه.
ومن هنا اخترت من هذه الأذكار والاستغفار والحمد نظرا لارتباطهما الوثيق بحياتنا.
أسأل الله العظيم أن يكون ما في هذه الرسالة خالصة لوجهه الكريم وأن ينفع بها كاتبتها وقارئها: } يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ{ [الشعر:88].
الاستغفار
هو طلب المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شرِّ الذنوب مع سترها.
الاستغفار مفتاح أبواب الخير ومفتاح أبواب المغفرة.. وهو سبب لنزول الرحمة.. وانشراح الصدر وراحة البدن.. تنجلي به الكربات.. وتزول به الوحشة التي في القلب.. ويكسب العبد به محبة الله وهو من الأذكار الجالية للرزق.. الدافعة للضيق والأذى.
وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى إلى المسارعة والمسابقة إلى مغفرته وذلك بالتوبة من الذنوب الإكثار من الاستغفار.
قال تعالى: } وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ{[آل عمران:133].
وقال تعالى: } سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ{[الحديد:21].
الاستغفار سمة من سمات الأنبياء والصالحين
*فهذا هود –عليه السلام- يأمر قومه بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة قال تعالى: } وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ{[هود:52].
*وكذلك بين لهم أن من استغفر الله وتاب من ذنبه فإن الله سيزيده قوة إلى قوته قال تعالى: } وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ{[هود:52].
*وهو من أسباب حصول المتاع الحسن قال تعالى: } وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ{[هود:3].
*ونوح يوصي قومه بالاستغفار لأنه طاعة لله –عز وجل- وسبب لمغفرة الذنوب قال تعالى: } فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا{[نوح:10].
وإنه سبب لنزول المطر قال تعالى: } يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ{[نوح:11-12].
والاستغفار من أسباب الرضا والخير قال تعالى: } وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا{[نوح:12].
ودفع البلاء قال تعالى:} وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{[الأنفال:33].
*وهذا نبينا محمد r يقول: «أنزل الله عليَّ أمانَين لأمتي: }وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{[الأنفال:33]([1]) فإذا مضيت وتركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة».
قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: النبي r والاستغفار فذهب النبي r وبقي الاستغفار.
وأمر الله سبحانه وتعالى محمدًا r بالاستغفار بعد أداء الرسالة والقيام بما عليه من أعبائها وبعد حصول الانتصار والفتح.
قال تعالى: } إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا{[النصر].
وقد كان من أدب نبينا محمد r في حياته كلها وفي موقف النصر الذي جعله ربه علامة له .. انحنى لله شاكرًا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة وسبَّح وحمد واستغفر كما لقَّنه ربه .. وجعل يُكثر من التسبيح والتحميد والاستغفار([2]).
فائدة: للاستغفار لحظة الانتصار إيحاء للنفس وإشعارها في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز.
وكان النبي – عليه أفضل الصلاة والسلام – يستغفر الله في المجلس الواحد سبعين مرة .. وفي رواية مائة مرة.
ولننظر حال الصالحين مع الاستغفار.
قال علي رضي الله عنه: ما ألهم الله سبحانه عبدًا الاستغفار وهو يريد أن يعذبه.
قال عائشة رضي الله عنها: طوبى لِمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا.
قال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم وفي طُرقاتكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة.
قال أعرابي: من أقام في أرضنا فليكثر من الاستغفار فإن مع الاستغفار القطار (القطار: هو السحاب العظيم القطر).
وهذا الحسن البصري جاءه رجل يشتكي جدب الأرض من قلَّة الأمطار فأوصاه بأن يُكثر من الاستغفار ثم جاء آخر يشكو إليه قلَّة المال، فأوصاه بكثرة الاستغفار، ثم جاء رجل ثالث يشكو قلَّة الولد، فأوصاه بالاستغفار بكثرة أيضًا. فهبَّ رجل من القوم وكان قد شهد المواقف الثلاثة.
فسأله: يا إمام، لقد اشتكى الثلاثة من أمور مختلفة؛ فالأول يشكو من موت وجفاف الضرع، والثاني يشو من قلَّة المال، والثالث يشكو عدم الإنجاب، وقد كانت إجابتك لثلاثتهم واحدة وهي الاستغفار فما سرُّ هذا رحمك الله؟
فقال الحسن البصري: ارجع معي إلى كتاب الله وفيه يقول على لسان نبي الله نوح –عليه السلام-: } فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا{ [نوح:11-12].
الاستغفار عقب الطاعات
وللاستغفار عقب الطاعات أمرٌ عجيب؛ فها هم حجاج بيته وفي أجلِّ العبادات يأمرهم بأن يستغفروه عقب إفاضتهم من عرفات وهو أجلُّ المواقف وأفضلها.
قال تعالى: } ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ{[البقرة:199].
فالاستغفار هو للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة.
وهكذا ينبغي للعبد كلما فرغ من عبادته أن يستغفر الله عن التقصير ويشكره على التوفيق، لا من يرى أنه أكمل العبادة، ومنَّ بها على ربه.
واتباعًا لسنة نبينا محمد r أنه كان يستغفر عقب كلِّ عمل صالح.
كان النبي r إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثًا وشرع للمتوضئ أن يقول بعد وضوئه: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين»([3]).
فهذه توبة بعد الوضوء..
وتوبة بعد الحج..
وتوبة بعد الصلاة..
وتوبة بعد كلِّ عمل صالح..
فنعلم من ذلك أن الاستغفار يجبر النقص، فإذا استغفرتَ ربك فكأنك تقول: يا رب، لم أوف حقك.. ولم أعبدك حقَّ عبادتك فإنَّ ذنوبي كثيرة، لهذا بعد هذه الطاعة التي وفقتني إليها لا أملك إلا أن أقول أستغفر الله.. أستغفر الله.
وكثيرًا ما يُقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون في الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان.
وكثيرًا ما يُقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون في الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان.
ولا شكَّ أنَّ العبَّاد أحوج ما يكونون إلى الاستغفار لأنهم يخطئون بالليل والنهار فإذا استغفروا الله غفر لهم.
كيف وصيغ الاستغفار
*الاستغفار عمل سهل ميسور على من يسَّره الله له.
*الاستغفار مشروع في كلِّ وقت ولكنه يجب عند فعل الذنوب.
*إذا كان الاستغفار في صلاة هو أحسن وهو أن يصلي الإنسان ركعتين ويستغفر الله.
قال رسول الله r: «ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ ويحسن الوضوء فيصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر الله له»([4]).
*بعد كل عمل صالح وآخر الليل.
صيغ الاستغفار:
1- سيد الاستغفار وهو أفضلها وهو أن يقول العبد: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»([5]).
من قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي دخل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح دخل الجنة.
2- عن أبي مسعود رضي الله عنه ومرفوعًا: «من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه» غفر الله ذنوبه وإن كان فارًا من الزحف (أي هاربًا من الجهاد ولقاء العدو في الحرب)([6]).
3 – استغفر الله ثلاثا بعد كل صلاة مكتوبة: عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله r إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا([7]).
4- اللهم اغفر لي: عن النبي r قال: «إنَّ رجلاً أذنب فقال ربِّي أذنبت فاغفر لي، فقال الله – عز وجل- عبدي عمل ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرتُ لعبدي.. ثم عمل ذنبًا آخر فقال ربي إني عملتُ ذنبًا فاغفره.. فقال الله – عز وجل- علم عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به.. قد غفرتُ لعبدي.. ثم عمل ذنبًا آخر فقال ربي إني عملتُ ذنبًا فاغفره لي.. فقال الله – عز وجل- علم عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به، أُشهدكم أني غفرتُ لعبدي»([8]).
5- ربي اغفر لي وتب عليَّ أنك أنت التواب الرحيم: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد لرسول الله r في المجلس الواحد مائة مرة.. «ربي اغفر لي وتب عليَّ»([9]).
6- في الصحيحين أنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال قل: «اللهم إني ظلمتُ نفسي ظُلمًا كثيرًا وأنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»([10]).
فجمع في هذا الدعاء بين الاعتراف بحاله والتوسُّل إلى ربِّه – عز وجل- بفضله وجوده، وأنه المنفرد بغفران الذنوب ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معًا.
فوائد الاستغفار على الأمة
إذا كثر الاستغفار في الأمَّة وصدر عن قلوب بربها مطمئنة..
دفع الله عنهم النقم..
وصرف عنهم البلايا والمحن..
وهو جالب للمطر وللخصب..
والبركة وكثرة النسل..
ومصدر للعزة والمنعة..
وبسط الأمان..
فوائد الاستغفار على الفرد
1- يورث جلاء القلب من صدئه.
2- أنَّ العبد إذا ذكر الله في الرخاء عرفه في الشدة.
3- سبب اشتغال اللسان عن الغيبة والكذب والفحش والباطل واللغو.
4- إن من يستغفر الله يقبل الله توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم.
5- يُبدل الله سيئاته حسنات .. فتلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر.. فينقلب الذنب طاعة فيوم القيامة وإن وجد مكتوبًا عليه فإنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته.
6- يكسب محبة الله.. فالله سبحانه وتعالى يحب التوابين من ذنوبهم قال تعالى: }…إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ{[البقرة:222].
7- تفتح له أبواب الخير والهداية وكلما زاد استغفار العبد زاد عليه الخير.. ورزقه الله راحة البدن وانشراح الصدر.. وقلَّة الهم والحزن… وحفظ شأنه.
8- تيسير الرزق من حيث لا يحتسب وسهلت عليه الطاعات.
9- تزول الوحشة التي بينه وبين الله ويبصره الله بالحق.
10- ينتفع به العبد الصالح حتى بعد الموت.. قال رسول الله r: «إنَّ الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول يا رب أنى لي هذا؟ فيقول باستغفار ولدك لك»([11]).
11- إنه لا يتحسر يوم القيامة لأن المجرم المفرط يتحسر في التوبة والإنابة ويود لو كان من المحسنين المخلصين التوابين.
12- تكون صحيفته مليئة بالاستغفار.
قالت عائشة رضي الله عنها: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا.
13- سروره من صحيفته يوم القيامة قال r: «من أحبَّ أن تسرَّه صحيفته فليُكثر فيها من الاستغفار»([12]).
14- وهو من أسباب السعادة الزوجية.
15- إن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات فإن له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة.
قال الرسول r: «من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكلِّ مؤمن ومؤمنة حسنة»([13]).
([1]) تفسير ابن كثير.
([2]) سيد قطب في ظلال القرآن ص3396.
([3]) وخرج الحديث في صحيح الجامع للترمذي، الذي حققه الشيخ الألباني.
([4]) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
([5]) رواه البخاري.
([6]) رواه أبو داود والترمذي قال الألباني إسناده قوي.
([7]) رواه مسلم.
([8])أخرجاه في الصحيحين تفسير ابن كثير من سورة آل عمران.
([9]) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح.
([10]) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح.
([11]) رواه أحمد بإسناد حسن.
([12]) رواه البيهقي في شعب الإيمان وحسنه الألباني.
([13]) رواه الطبراني وحسنه الألباني.
يورث طهارة القلب ونقاء الضمير..
وصلاح العمل والطمأنينة…
ويقوي اعتدال الصحة ويطيب النفس..
ويزيد في الخيرات وتنزل البركات.. وتيسير العلم..
كيف تداوم على الاستغفار
اعلم أنه من أيسر العبادات..
وفي البداية سوف يكون كلفة ثم ألفة..
وفي ذكره دواء وذكر الناس داء..
استأجر الحسن البصري حمَّالاً فسمعه يقول: أستغفر الله.. الحمد الله.. طول الطريق فقال: يا هذا، أنت لا تحسن إلا هذا الكلام فقال: لا، إني أحفظ نصف القرآن أو ثُلثه، ولكني أعلم أنَّ العبد بين أمرين: بين نعمة أنزلها وجب عليه حمدها وبين ذنب صاعدًا منه إلى الله وجب عليه استغفاره فقال الحسن البصري: حمَّالاً أفقه منك يا حسن!
أولادنا والاستغفار
إنَّ فطرة الطفل تكون في التلقين والتعويد أكثر قابلية من أي شيء آخر وأي مرحلة أخرى. فالطفل الصغير يجب أن يتعلم الاستغفار من الصغر ويتعود عليه، وذلك لا يتسنَّى إلا بالقدوة الحسنة، فحين يسمع الطفل والديه يستغفران الله في الأوقات المعلومة مثل بعد الفريضة أو في غيرها من الأوقات فلا شك أن الطفل يبدأ في تكرار ذلك لرغبته في التشبه بوالديه، ومن ثم يبدأ الوالدان في تبيان أهمية هذا الأمر.
فنعلمه الاستغفار عندما يفقد شيئًا..
أو يحزن..
أو يصعب عليه شيء..
أو تحدث له مشكلة..
أو وقت الشدَّة..
وأن يستغفر الله عندما يذنب، ونذكره بحديث الرسول r عن التائبين وما لهم من أجر عظيم حيث قال r: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»([1]).
ونعلمه كذلك بعد الاعتذار لمن أذاه بلسانه أن يستغفر الله لتحلَّ الكلمة الطيبة مكان الخبيثة ونعلمه كيف يكسب محبة الله لأن الله يحب التوابين والمستغفرين من ذنوبهم قال تعالى: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ{[البقرة:222].
ونعلمه الاستغفار لحظة الفرح والانتصار قدوة برسولنا محمد r ليتعلم أن يُسارع في الاستغفار في موقف التقصير والعجز حتى في لحظة الانتظار والفخر وهذا يصدُّ قوى الشعور بالزهو والغرور.
فائدة: قول لقمان يا بني، عود لسانك (اللهم أغفر لي) فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً.
المرض والاستغفار
إذا عرف سبب الشيء سهل علاجه بإذن الله.
فقد يكون المرض جزاء لذنب ارتكب كما قال تعالى: } وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ{[الشورى:30].
وكما قال عليه الصلاة والسلام: «ما اختلج عرق ولا عين إلا بذنب وما يدفع الله به أكثر» (الاختلاج:الحركة والاضطراب)([2]).
والحمد لله أن جعل المرض للمسلم كفارة لخطاياه التي اغتر فيها قلبه وسمعه وبصره ولسانه وسائر جوارحه.
ولعل تعجيل العقوبة على المؤمن في الدنيا خير له حتى تكفر عن ذنوبه ويلقي الله سالمًا طاهرًا منها، عن أنس رضي الله عنه عن النبي r: «إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة»([3]).
فعليك بمعالجة مرضك بإزالة سببه وهو الذنب.. فبادر بالتوبة والاستغفار والله غفور رحيم يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات قال تعالى: } وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا{[النساء:110].
وليكن أسوتك في كثرة الاستغفار نبيك محمد –عليه الصلاة والسلام- فقد كان يكثر من الاستغفار مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه.
عن الأغر بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله r قال: «إنه ليغان على قلبي وإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة»([4]).
قال ابن الأثير – رحمه الله – في معنى قوله (يغان) أراد ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو منه البشر، لأن قلبه أبدًا كان مشغولاً بالله تعالى.. فإن عرض له – وقتًا ما – عارض بشري يشغله عن أمور الأمة والملَّة ومصالحهما، عدَّ ذلك ذنبًا وتقصيرًا فيفزع إلى الاستغفار([5]).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله r: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها حتى الشوكة يشاكها»([6]).
عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله r: «ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»([7]).
قصة المرأة العقيمة
امرأة رزقها الله الولد بعد عقم دام عدَّة سنوات ظلت خلال هذه السنوات تتردد على المستشفيات للعلاج وأخيرًا أجريت لها عملية طفل أنابيب ولكن لم تنجح العملية، فلما يئست من جميع المحاولات لجأت إلى الله ولم تفتر عن الاستغفار ليل نهار من الدعاء، وبعد شهر حملت بفضل الله وبرحمته المولود الأول والآن لديها ثلاثة أطفال، } فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا {[نوح:10].
المستغفرون بالأسحار
قال تعالى: } كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{[الذاريات:17-18].
والأسحار هي الفترة التي تكون في آخر الليل حيث يصفو فيها الجو ويسكن.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: إنَّ آخر الليل أفضل للدعاء والاستغفار، وأنَّ الدعاء في ذلك الوقت مجاب([8]).
ويشهد له قوله تعالى: } وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ{[آل عمران:17].
وخُصَّ وقت السحر لأنه وقت النزول الإلهي، يوم يتنزل الله – عز وجل- نزولاً يليق بجلاله إلى السماء الدنيا سبحانه وتعالى فيقول: «هل من سائلٍ أعطيه، هل من داعٍ فأجيبه، هل من مستغفرٍ فأغفر له»([9]).
وروي أنه لما قال أبناء يعقوب له } اسْتَغْفِرْ لَنَا{أخرهم إلى السحر بقوله } سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ{.
قال سفيان: إن لله ريحًا مخزونة تحت العرش تهب عند الأسحار فتحمل الأنين والاستغفار.
قال الشيخ حسن البنا رحمه الله: أمامك كل يوم لحظة بالغداة ولحظة العشي ولحظة في السحر تستطيع أن تسمو فيها كلها بروحك الطهور إلى الملا فتظفر بخير الدنيا والآخرة.
النسيان والاستغفار
العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئ ذلك النور وكثرة النسيان تسبب للإنسان الهم والضيق.
جلس الإمامالشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه فأعجبه ما رأى من وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا فلا تُطفئه بظلمة المعصية.
وقال الشافعي رحمه الله:
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأنَّ العلم فضل
وفضل الله لا يؤتاه عاصي
فمن لزم الاستغفار جعل الله له فضل يورث القلب أو العقل نورًا.
قال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب وأما دواؤكم فالاستغفار قال تعالى: } وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ{[هود:90].
وروي عن ابن تيمية – رحمه الله – قال : كان إذا أحزبني أمر أستغفر الله ألف مرة فيفرج عليَّ هذا الأمر. (وهنا العدد كناية عن الكثرة فلا يُحتج به).
عن الضحاك قال: ما نعلم أحدًا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب.
قال تعالى: } وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ{[الشورى:30].
العقم والاستغفار
1- رجل مصاب بالعقم منذ ثلاثة عشر عامًا، يقول إنه قد ذهب إلى جميع الأطباء ليجدوا له العلاج من هذا العقم فأخبروه بأنه ليس لديه حيوانات منوية تساعده على الإنجاب.
ذهب بعدها إلى أمريكا قاصدًا أحسن المراكز لعلاج العقم فأخبروه بنفس الشيء وأن الأمل معدوم في إنجابه، رجع بعدها وهو في حزن شديد إلى أن التقى ابن عمه فأخبره بما حدث فقال له ابن عمه: إذا أردت أن تُرزق بأطفال عليك بشيئين: أكثر من الدعاء والاستغفار وتخير أوقات الدعاء كيوم الجمعة، عند خروج الإمام وآخر ساعة من يوم الجمعة وفي قيام الليل، فإن كان لك خيرًا في الأولاد في الدنيا فسيرزقك الله بهم أو تجد أعمالك هذه في الآخرة واقفة بأمر الله.
فبدأ بهذا وبعد خمسة أشهر حملت الزوجة بأول مولود. واليوم عنده ثلاثة أطفال!([10])
2- رجل متزوج لم يرزق بالأطفال. قابله أحد أصدقائه فسأله عن حاله وعرف أنه لا ينجب فقال له: الزم الاستغفار، فلزمه وبعد مرور عدَّة سنوات رزقه الله بالذرية.
3- امرأة متزوجة ولم تنجب، حاولت مرارًا أن تعالج نفسها عند الأطباء دون فائدة .. نصحتها إحدى صديقاتها بالاستغفار ليلاً ونهارًا وفي كل الأوقات وخاصة وقت السحر.. وبعد ثلاثة أشهر حملت.. ثم ذهبت إلى الطبيب فسألها أين تعالجتِ؟ فقالت: لزمتُ الاستغفار والدعاء فرزقني الله بما أريد.
4- امرأة عقيمة منذ سنوات وبعدها فرج الله عليها بالحمل فسألها أقرباؤها كيف تعالجت؟ قالت: بالدعاء والاستغفار وخاصة وقت السحر.
أخيرًا لمن أصابه أي مرض أو نازلة وأردتَ أن تشفى وأن يرفع الله عنك، عليك بالتوبة والاستغفار.
خاتمة
من أراد الهداية.. وتوفيقه إلى العمل الصالح.
يجب عليه أن يكثر من الاستغفار.. حتى يعينه الله على ترك المعاصي.. وأن يكثر التفكير في أعماله وينظر في مخالفة أعماله.
وكلما اشتدَّ ندم الإنسان زاد مقته لنفسه لما يرى من قبح زلته وتفريطه.. فهو في همٍّ وغمٍّ لذنوبه ويجد أبواب الخير مُقفلة.. وأن الإنسان يتمنى فعل الطاعات أو الابتعاد عن الذنوب والمعاصي.. ولكن لا يقدر ومع كثرة الذنوب أصبح قلبه قاسيًا لا يدري من أين يبدأ الطريق..
يقولالقرطبي: الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار، فمن استغفر بلسانه وقلبه مصرٌّ على معصيته فاستغفاره يحتاج إلى استغفار.
قال بعضالعارفين: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب في استغفاره، فما سُلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه.. وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها.. ما ينساه مما عمله أضعاف ما يذكره وفي الدعاء المشهور: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا اعلم وأستغفرك لما لا اعلم».
وإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها. فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصوصه شيئًا أنفع من التوبة والاستغفار.
لقي بعض السلف رجلٌ فأغلظ عليه ونال منه، فقال له : قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك، فدخل فسجد لله وتضرَّع إليه وتاب وأناب إلى ربه، ثم خرج إليه فقال له ما صنعت؟
فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلَّطك به عليَّ.
1- فائدة:
وما ينبغي ملازمته والإكثار منه في الليل والنهار الاستغفار.. فإنَّ حاجة العبد إليه عظيمة جدًا أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب.. إذ أنه كثير الخطايا.. كثير الزلل إن لم يقيده هواه.. وإما تأسره شهوته وإما يسجنه شيطانه فلابد من غفلته وتقصيره في حق الله.
2- فائدة:
عن ابن القيم الجوزية قال: قلت لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- يومًا: سُئل بعض أهل العلم أيما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟
فقال: إذا كان الثوب نقيا فالبخور وماء الورد أنفع له وإن كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع له.
فقال –رحمه الله- فكيف والثياب لا تزال دنسة؟
3- فائدة:
قال ابن المبارك: رُبَّ مستغفرٍ أذنب في استغفاره!
قالوا كيف؟ قال: يذكر بعض الصالحين، فيقول: أستغفر الله ومعناه أنه ينتقد عليه، فلا يكتب له أجر هذا الاستغفار بل يُسجل عليه خطيئة!
4- فائدة:
عن عوف بن عبد الله قال: قلب التائب بمنزلة الزجاجة يؤثر فيها جميع ما أصابها.. فالموعظة إلى قلوبهم سريعة وهم إلى الرقَّة أقرب… فداووا القلوب بالتوبة.. فلربَّ تائبٍ دعته توبته إلى الجنة حتى أوفدته عليها، وجالسوا التوابين فإن رحمه الله إلى التوابين أقرب.
أخيرًا وتسلية لكلِّ تائب ما هو حديث المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام: «لله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه.. من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه.. فآيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمةٌ عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدَّة الفرح: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك"! أخطأ من شدَّة الفرح»([11]).
اللهم اجعلنا من عبادك المستغفرين بالليل والنهار يا أرحم الراحمين.
الحمد
الحمد: هو الثناء على المنعم بما أولاكه من معروف ويكون بالجنان واللسان والأركان.
قال ابن عباس: الحمد لله كلمة كل شاكر.
وقرن الله – سبحانه وتعالى – الشكر بالإيمان، وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به.
قال تعالى: } مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ{[النساء:147].
وقرن الله الشكر بالذِّكر:
قال تعالى: } فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ{[البقرة:152].
وجعل الله الشكر مفتاح أهل الجنة:
قال تعالى: } وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ{[الزمر:74].
وأطلق جزاء الشكر إطلاقًا ولم يذكر جزاءهم ليدلَّ ذلك عل كثرته وعظمته، وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر قلَّة وكثرة حسنًا: قال تعالى: } وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ{[آل عمران:145].
وصف سبحانه الشاكرين بأنهم "قليل من عباده":
قال تعالى: } وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ{[سبأ:13].
وعلَّق سبحانه وتعالى المزيد بالشكر.. والمزيد منه لا نهاية له كما لا نهاية للشكر:
قال تعالى: } تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ{[إبراهيم:7].
ولما علم عدو الله إبليس قدر مقام الشكر، وأنه من أجل المقامات وأعلاها، جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه:
قال تعالى: } ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ{[الأعراف:17].
يقول القرطبي في تفسير الحمد: قال رسول الله r: «لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكان الحمد لله أفضل من ذلك».. يعني إلهامة الحمد لله أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا.
لأنَّ ثواب الحمد لا يفنى، ونعيم الدنيا لا يبقى.
والشكر قيد النعم وسبب المزيد كما قال عمر بن عبد العزيز: قيِّدوا نعم الله بشكر الله.
وذكر ابن أبي الدنيا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لرجل: إن النعمة موصولة بالشكر والشكر يتعلَّق بالمزيد من الله وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع من العبد.
شكر النعم سبب حفظ النعم
يسأل الإنسان نفسه كم مرة يحمد الله في اليوم مقارنة بالنعمة التي عنده؟
إذا كنت تنعم بالعافية، أما تريد دوامها وزيادتها؟
إذا أوتيت مالاً وافرًا أما ترغب في تكاثره وعدم نقصانه؟
إذا كنت تعيش في آمان، أما تتمنى أن يبقى هذا الأمان؟
فسبب حفظ النعم هو الشكر:
لو أُسدِي إليك معروفًا لرغبت في شكره ولسعيت من أجل ذلك إحساسًا منك بأنَّ المعروف حقُّ الشكر.
والنفس قد جُبلت على حبِّ من أحسن إليها من الناس، فكيف بالنعم المتفضل وهو الذي..
خلقنا.. وأطعمنا..
وسقانا…وعافانا..
وحفظنا؟
يقول أبو سليمان الواسطي: ذكر النعمة يورث حب الله.
([1])رواه ابن ماجة والطبراني.
([2]) رواه الطبراني في الصغير (2/103) من حديث البراء وصححه الألباني.
([3]) أخرجه الترمذي (4/519) (ح2396) وحسنه وقال الألباني حسن صحيح.
([4]) رواه مسلم (4/2057) (ح2702).
([5]) النهاية (3/403).
([6]) رواه مسلم (4/1993) (ح4752).
([7]) رواه الترمذي (4/520) (ح2398) وقال الترمذي حسن صحيح.
([8]) فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/38.
([9]) متفق عليه أخرجه البخاري برقم (1145، 6321، 7494).
([10]) من شريط الدكتور خالد الجبير " أسباب منسية " .
([11]) رواه مسلم.
قال الإمام أبو حامد الغزالي: اعلم أنه لم يقصر الخلق عن شكر النعمة إلا بالجهل والغفلة.
فإنهم منعوا بالجهل والغفلة معرفة النعم، ولا يُتصوَّر شكر النعمة إلا بعد معرفتها.
فلا ترى البصير يشكر صحَّة بصره إلا أن تعمى عينيه، فعند ذلك لو أُعيد عليه بصره وأحسن به شكر الله.
شكا بعضهم فقره إلى بعض أرباب البصائر، وأظهر شدة اغتمامه به فقال له:
أيسرُّك انك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟
فقال: لا، فقال: أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم؟
فقال: لا، فقال أيسرك أنك أقطع اليد والرجلين ولك عشرون ألفًا؟
فقال: لا، فقال أيسرُّك أنك مجنون ولك عشرة آلاف درهم؟
فقال: لا، فقال أما تستحي، تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفًا؟!
ودخل ابن السماك على بعض الخلفاء وبيده كوز ماء يشربه فقال له: عظني!
فقال: لو لم تُعطَ هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشان فهل كنت تعطيه؟
قال:نعم.
قال: لو لم تُعطَ إلا بملكك كله فهل كنت تتركه؟
قال:نعم.
قال: فلا تفرح بِمُلك لا يساوي شربة ماء.
فبهذا تبيَّن أن نعمة الله تعالى على العبد في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الدنيا كلها.
ما هو العلاج؟
يقول الإمام أبو حامد الغزالي:
فما علاج هذه القلوب الغافلة حتى تشعر بنعم الله تعالى؟
أما القلوب البصيرة فعلاجها التأمُّل في نعم الله.
أما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا خصَّتها أو شعرت بالبلاء معها فسبيله أن يَنظر أبدًا إلى مَن دونه وأن يصرف العمر إلى ما خلق العمر لأجله وهو التزود من الدنيا للآخرة.
وأن تعالج القلوب البعيدة عن الشكر وأن تعرف أنَّ النعمة إذا لم تشكر زالت.
كان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول:
عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقلَّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم.
وقال بعض السلف: قيدوا النعم بالشكر.
صيغ الحمد
1- الحمد لله تملأ الميزان:
قال رسول الله r: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأنَّ ما بين السماء والأرض»([1]).
2- «يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك»، يقول الله عزَّ وجلَّ لملكين: «اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها»([2]).
3- «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحدٍ من خَلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر» من قالها صباحًا ومساءً أدَّى شكر يومه وليلته([3]).
4-«الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له…» في صحيح مسلم عن أنس أن النبي r كان إذا آوى إلى فراشه قالها([4]).
قال رسول الله r: «ألا أدلُّك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار؟ تقول:
الحمد لله عدد خلقه..
والحمد لله عدد ما في السموات وما في الأرض..
الحمد لله عدد ما أحصى كتابه..
الحمد لله عدد كل شيء والحمد لله ملء كل شيء…
وتسبح الله مثلهنَّ تعلَمهنَّ وعلِّمهنَّ عقبك من بعدك»([5]).
فوائد الحمد
1- إن الحمد لله مديم للنعم وسبب في زيادتها.
2- من أُلهم الشكر لم يحرم المزيد.
3- زيادة رصيد المؤمن من الحسنات، ففي الحديث: كلُّ تحميده صدقة، فحين يقول المؤمن الحمد لله فإنها صدقة تُسجَّل في رصيد حسناته.
4- وهو من غراس الجنة لحديث الرسول r قال: «ألا أدلُّك على غراس هو خير من هذا؟ تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، يغرس لك بكل كلمة منها شجرة في الجنة»([6]).
5- ينال رضا الله بقوله "الحمد لله" يرضى الله عن الإنسان إذا انتهى من الأكل فقال: الحمد لله وإذا انتهى من الشرب قال: الحمد لله لحديث النبي r: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها»([7]).
6-الحمد لله صيد النعم.
7-إن أفضل عبَّاد الله الحمادون. قال رسول الله r: «إنَّ أفضل عباد الله يوم القيامة الحمَّادون»([8]).
8-الحمد لله أفضل الدعاء قال رسول الله r «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله»([9]).
9- الحمد لله سبب في تجديد النعم وزيادتها لأنك إذا حمدت الله ثبت النعم عندك ورضي عنك، فإذا رضي الله عنك أنزل عليك الخير كله فالحمد لله باب لكسب واسع.
ولما كنا نقرأ الفاتحة في كل ركعة فقد أعاننا الله على شكره في ساعات كثيرة من الليل والنهار.
والنبي أتاح لنا تكرار هذا الحمد عقب كلِّ صلاة حينما دعانا إلى قول الحمد لله بعد كل صلاة 33 مرة.
قال ابن القيم: "علامة سعادة العبد ثلاث:
إذا أُنعم عليه شكر..
إذا ابتُلي صبر… إذا أَذنب استغفر".
وإذا بشِّرت بنعمة تسر، أو باندفاع نقمة فأسجد شكرًا لله، ولو كنتَ على غير وضوء أو في غير اتجاه القِبلة، فعن أبي بكر رضي الله عنه أنَّ النبي r كان إذا أتاه أمرٌ أو بُشِّر به خرَّ ساجدًا شُكرًا لله تعالى([10]).
ولنا وقفة مع نبي الله سليمان عندما مر بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل فسمع نملة تأمر النمل بالدخول إلى مساكنهم قال تعالى: } قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ{[النمل:18].
فسمع سليمان عليه السلام وفهمه .. قال تعالى: } فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ{[النمل:19].
فقال شاكرًا لله الذي أوصله إلى هذه النعمة: يا ربُّ، ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننتَ بها عليَّ من تعليمي منطق الطير والحيوان وعلى والديَّ بالإسلام لك وبالإيمان بك.
وهذا عنوان سعادة العبد أن يكون شاكرًا لله على نعمه، الدينية والدنيوية وأن يرى جميع النعم من ربه فلا يفرح بها ولا يعجب بها بل يرى أنها تستحق عليه الشكر كثيرًا([11]).
خاتمة
ما أحوجنا إلى الله عزَّ وجل!
اعلم يا من عزمتَ المواظبة على ذِكر الله أنك في كلِّ طرفة عين محتاج إلى توفيق الله تعالى وإعانته لك، فعليك بالالتجاء إلى الله على الدوام وسؤاله أن يُعينك على ذِكره ذِكرًا كثيرًا.
قال r لمعاذ رضي الله عنه: «والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول بعد كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك»([12]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي r قال: «أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء؟ قولوا: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»([13]).
([1]) رواه أحمد ومسلم والترمذي.
([2]) رواه أحمد وابن ماجة.
([3]) أخرجه أبو داود.
([4]) رواه مسلم في الدعوات.
([5]) صحيح رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 2613.
([6]) صحيح: رواه ابن ماجة رقم 2615 وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم (2613).
([7]) أخرجه مسلم رقم (2734) كتاب الذكر والدعاء.
([8]) صحيح: رواه الطبراني في (الكبير) عن عمران بن حصين وصححه الألباني في صحيح الجامع (1571).
([9]) حسن: رواه الترمذي (7) والنسائي وابن ماجة.
([10]) رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه.
([11]) تفسير ابن كثير والسعدي.
([12]) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
([13]) أخرجه أحمد (2/299) وصحح إسناده الألباني في الصحيحة (2/524).
في ميزان حسنآتك إن شاء الله