الفتاة، ذلك الصّرح الّذي يعلّق عليه كلّ الآمال، الّتي سوف تصير في يوم مازوجةًفيها السّكن والفيئ والظّلال، ثمّ أُمّاًتُعدّ لتربية الأجيال وصنع الأبطال.
كان الأعداء سابقا يعجزون عن الوصول إلى عقول بناتنا لبثّ ما لديهم من سموم، وعَرْضِ ما عندهم من كفر وإلحاد ومجون، أمّا الآن فقد أصبحتتحمل أفكارُهم الرّياح: رياحمهلكة، بل أعاصير مدمّرة، تقصف بالمبادئ والقيم، وتدمّر الأديان والأخلاق، وتقتلع جذور الفضيلة والصّلاح من جذورها، وتجتثّ عروق الحق من أصولها. إنّه غزو لا تشارك فيه الطّائرات ولا الدّبابات، ولا القنابل ولا المدرّعات، وليس له في صفوف الأعداء خسائر تُذْكر، بل خسائره في صفوفنا نحن المسلمين، إنّه غزو الشّهوات، والأفلام والمسلسلات، والأغاني والرّقصات، وإهدار الأعمار بتضييع الأوقات.
أمّا بناتنا في الواقع: فالواقع لا يخفى على ذي عينين، ولن يكون خلاف في وصفه بين اثنين، فبناتنا أمام هذا الغزو الفاضح أصناف ثلاثة:
– صنف على الفطرة، لا ترضى بالرّذيلة، وتحبّ كلّ سبل الفضيلة، ولكنّه صنفٌ لا يدري بما يُكاد له في وضح النّهار، كالرّيشة في مهبّ الرّيح ما لها من قرار.
– وصنف منهنّ تغيّرت فطرتهنّ، والشّيطان سكنهنّ، فرضيت بالدنيّة، والخزي والرزيّة.
– وصنف هنّ أنفس من كلّ عزيز، لا ترضى الواحدة منهنّ إلاّ أن تضع بصمتها على المجتمع، فترأب صدعَه، وتصلح فاسده.
همّتها عالية، وأحلامها غالية، وسؤالها ورجاؤها ما قالته أمّ سلمة للنبّيّ صلّى الله عليه وسلّم: يَا رَسُولَ اللهِ،لَا أَسْمَعُ اللهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ والجهاد؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍأَوْأُنْثَىبَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
فالأمل معقودٌ على إيجاد هذا الصّنف من النّساء ..
أوّلا: الإكثار من الدّعاء.قال الله تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف: من الآية17]، وقال عزّوجلّ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السّجدة:من الآية13].
وتأمّل كلام عيسى عليه السّلام كما حكاه القرآن:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً، وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}.
فانظر إلى قوله عليه السّلام: وجعلني، وجعلني، ولم يجعلني، فمن الّذي آتاه ؟ إنّه الله .. ومن الّذي آواه ؟ إنّه الله ..ومن الّذي جعله، والّذي لم يجعله ؟ إنّه الله.
واللهِ لو اجتمع المربّون من جميع الأقطار، والمعلّمون من جميع الأمصار، ما استطاع أحد منهم أن يهدي ولدك إلاّ بإذن الله:{إِنَّكَ لا تَهْدِيمَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
ثانيا: استحضار نعمة البنات: فإنّ المسلم إذا نظر إلى البنات بأنّهنّ من نِعمِ الله العظيمة، سعَى إلى شكرها بتسخيرهنّ في طاعته وابتغاء مرضاته.
يقول المولى جل وعلا:{للهِ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـاثاً} [الشورى:49،50]، قال بعض السّلف: من بركة المرأة أن تلِد الإناث قبل الذّكور؛ لأنّ الله تعالى بدأ بذكرهنّ.
وقد حضّ الإسلام على الاعتناء بالبنات خاصّة ورعايتهنّ، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ )).
وفي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ))-وضمّ أصابعه-.
وروى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر مرفوعاً: ((لاَ تَكْرَهُوا البَنَاتِ؛فَإِنَّهُنَّ المُؤْنِسَاتُ الغَالِيَاتُ)) ["الصّحيحة" (3206)].
ثالثا: الدنوّ منهنّ: فالدنوّ علامة الحبّ والتّقدير والاحترام.
وخاصّة إذا بلغت الفتاة أشدّها، فقد روى أبو داود والترمذي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: (( مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا حَدِيثًا وَكَلَامًا بِرَسُولِ اللَّهِصَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَمِنْ فَاطِمَةَ،كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ)).
وخير مثال يُذكر حال الخنساء مع أخيها صخر، فإنّها قالت في رثائه القصائد الطِّوال، وأبلغت في المقال، ولم تقل حرفاً فيمن استشهد من أولادها، ذلك لأنّ أخاها صخراً كان لها نِعْم المُعين والمؤنِس.
وينشأ من البعد عنهنّ:
– الجهل بأحكام الدّين: فإن رأت الفتاة بينها وبين والدها بعدا، وجعل بينه وبينها سدّا، فأنّى لها أن تقصده لتعلّم دينها؟!
– خفاءالخطأ: فقد تكون الفتاة على خطأ، فيزداد نموّا مع مرور أيّامهم، لماذا ؟ لوجود ذلك الحاجز المنيع .. لا يصل صوت كلّ منهما إلى الآخر.
أمّا لو كان هناك احتكاك ومخالطة، ونقاش ومحادثة، فسيمكن للفتاة أن تفاتح والديها في الموضوع كصديق يحادث صديقه، ورفيق يناصح رفيقه:{كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: من الآية 94].
– الفراغ المهلك: فإنّ الزّجاجة الفارغة إن لم تملأها بالماء العذب الزّلال، ملئت بالهواء وسوء الحال.
فإذا لم تكن حاضرا في حياة ابنتك مربّيا ومعلّما، وناصحا ومفهّما، فسيبحث كلّ منهما عن ناصح خارج البيت. ولك أن تتصوّر ما الّذي ستجده خارج البيت؟!
وقد أثبتت الدّراسات النّفسيّة أنّ 80 % من الفتيات اللاّء يحرمن من حنان الأب والأخ يبحثن عنه خارج البيت.
رابعاً:التّعليم والتأديب.
فإنّ الله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، قال عليّ رضي الله عنه في هذه الآية:" علّموا أهليكم الخير "، وقال مجاهد رحمه الله:" أوصوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدّبوهم ".
وكان يقال:" من أدّب ولده أرغم أنف عدوّه "
وقد عظّم الله تعالى لقمان الحكيم في كتابه من أجل وصيّته الغالية لابنه.
وعليك بالقصص الهادف البنّاء: كقصص الصّالحات، من أمثال امرأة فرعون في صبرها على الزّوج الطّاغية، وأمّ سليم في صبرها على فقد الأحباب، وأمّ شريك في ثباتها، وغيرهنّ.
فهي أخبارٌتزيد المرأة ثباتا على ثبات، شعارها: الاستقامة إلى الممات ..أخبارٌتصل حاضرها بماضيها، والقلوب بناصرها وباريها .. أخبار تناديها أنّه قد سبقك على هذا الدّرب نساءٌ تسمعين أخبارَهم، فاتّبعي واقتفي آثارهم.
وفي مقام العلم وطلبه: حدِّثها عنأمّهات المؤمنين، قال الذّهبي رحمه الله عن أمّ المؤمنينعائشةرضي الله عنها:"لا أعلم في أمّة محمّدصلّىالله عليه وسلّم،بلولا في النّساء مطلقا امرأةً أعلم منها" ["سير أعلام النّبلاء" (2/140)].
وقال مسروق:"رأينا مشيخة أصحابرسول الله صلّى الله عليه وسلّميسألونها عن الفرائض"، وقال عطاء: كانت عائشة أفقه النّاس.
وما كان علمها قد حوّلها إلى آلةكما حوّل رجال زماننا ونساءه، ولكنّه علم ورّث عملا، قال ابن أخيها القاسم بن محمّد بن أبي بكررضي الله عنه:" كنت إذا غدوت بدأت ببيت عائشة، فأسلّم عليها، فإذا هي قائمة تصلّي وتقرأ:{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَالسَّمُومِ} [الطور:27]، وتدعو وتبكي، وتردّدها، فقمت حتّى مللت القيام، فذهبت إلى السّوق لحاجتي،ثمّ رجعت فإذا هي قائمةكما هي تصلّي وتبكي"!.
وكانت تتصدّق بمالها كلّه، ثمّ تقول لها جاريتها: لم تتركي لنا شيئا نأكله، فتقول: لو ذكّرتني لفعلت ؟!
–وهذهحفصة بنت سيرين، فلا تسل عن حسن عبادتها وتمامها، ويكفينا وصف تلكم الجارية السّندية الّتي اشترتها، فقيل لها: كيف رأيت مولاتك ؟ فذكرت كلاما بالفارسيّة معناه:أنّها امرأة صالحة، إلاّ أنّها أذنبت ذنبا. فسئلت: ما هو ؟ قالت:لا أدري،ولكنّني أراهاوأسمعها تبكي اللّيل كلّه!
– وإذا أردْتَ ترغيبها في التستّر والحجاب، فما عليك إلاّ أن تذكّرها بما رواه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنهاقالت:"كنت أدخل بيتي الّذي دُفِن فيه رسولاللهصلّى الله عليه وسلّموأبي،فأضع ثيابي،وأقول:إنّما هو زوجي وأبي،فلمّا دفن معهما عمر بن الخطابرضيالله عنهفوالله مادخلت إلاّ وأنا مشدودة عليّ ثيابي حياء من عمر..!
وذكِّرها بما رواه البخاري عن عطاء قال: قال لي ابنُ عبّاس رضي الله عنه:ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت:بلى، قال: هذه المرأة السّوداء، أتت النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت:إنّي أُصرع وإني أتكشّف، فادع الله لي! فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:((إن شئت صبرت ولك الجنّة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك))، قالت:أصبر،ولكن ادع الله لي ألاّأتكشّف– وفي رواية قالت:إني أخاف هذا الخبيث أن يجرّدني– فدعا لها.
فقد هان عليها صرع العفاريت ولا ترضى أن يبدو شيء من بدنها رضي الله عنها وأرضاها.
خامسا: الرّفق في التّعليم. فالرّفق ما كان في شيءٍ إلاّ زانه، وإنّ الله إذا أراد بأهل بيتٍ خيرا أدخل فيهم الرّفق.
سادساً: ثمّ عليك بالحزم، فهو عين الحكمة. ولا يعنِي الرّفق أن نتساهل فيما فرضه الله تعالى علينا تُجاه البنات من مراقبتهنّ، وتذكيرهنّ.
فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّمعدّ المرأة كلّها عورة، وينبغي للإنسان أن يستر عورته، فقد روى التّرمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ،فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ)).
وعلى الوالدين أن يتذكّرا أنّها ناقصة عقل ودين: ففي الصّحيحين عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا رَأَيْتُمِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ))، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قال:((أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ)) قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: ((فَذَلِكِ مِنْنُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟)) قُلْنَ: بَلَى. قَالَ: ((فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا)).
وهذاالخطاب موجّه إلى الكُمَّل من نساء العالم، من رضي الله عنهنّ وأرضاهنّ، فكيف بغيرهنّ ؟
ومعلوم ممّن لحظ واقع المرأة اليوم أنّ المرأة سريعة الانقياد وراء عواطفها، ممّا سهّل المهمّة على أعداء هذا الدّين في استغلالها لضرب تعاليم الإسلام، وهدم صروح الإيمان. ولو وعظتها لسمعت، ولو سمعت لنسيت.
وغير ذلك من الأمور الّتي تبيّن لنا أنّ المرأة لا بدّ من الاعتناء بها، وعدم التّساهل معها.