بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى الذي أكرم عباده بشهر رمضان، ووالى عليهم جلائل الإحسان، والصلاة والسلام على المبعوث بالقرآن، وعلى آله وأصحابه كواكب الحيران.
وبعد:
أخي المسلم: إليك يا من ذاق نفحات شهر النفحات
إليك يا من عاش أيام شهر التجليات
إليك يا من اشتاقت نفسه إلى تلك الأيام المباركات
ها هو شهر النفحات يطل عليك بطلائعه الميمونة … ومواكبه الطاهرة … فهل أعددت نفسك – أيها الموفق – لتكون فيمن يستقبل تلك المواكب الميمونة؟!
إنه: (شهر رمضان) موسم الطاعات … وسوق الصالحات … وأيام اقتناص الحسنات.
شهر القرآن وشهر الجود والإحسان!
فإياك أيها العاقل أن تكون من المحرومين فيه!
درة رمضانية
أخي المسلم: شهر رمضان: شهر الحسنات … الصائم فيه بين حسنة ماضية وحسنة قادمة!
وفي هذه الصفحات سأذكرك بدرة من درر رمضان وبباب من أبواب الخير قليل من يلجه
أتدري ما هي هذه الدرة؟!
إنها (الصدقة في رمضان!) غنيمة باردة من غنائم هذا الشهر المبارك!
أخي: لست تجهل فضل الصدقة … وعظيم شرف الإحسان … ولكن للصدقة في رمضان مذاق خاص … وشرف عظيم!
قال الله تعالى: }مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{ [البقرة: 261].
وقال النبي r: «الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل، الصائم النهار» [رواه البخاري ومسلم].
قال يحي بن معاذ: «ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا من الصدقة».
وشهر رمضان – أيها الموفق – فرصة نادرة لاقتناص هذا الشرف العظيم … يحيا المسلم أيامه ولياليه بألوان من الطاعات … لا تسل عن عظيم ثوابها!
فهو شهر تضاعف فيه الحسنات … وترفع فيه الدرجات!
المحروم من حرم خيره … والشقي من خرج صفرًا من أيامه الزاهرة!
فما هو نصيبك – أيها العاقل – من حسنات هذه الدرة (الصدقة في رمضان)؟!
وإياك أن تفهم أن هذا الفضل لا يبلغه إلا أصحاب الملايين! بل أنت من أهله بقليل تجود به نفسك!
وإليك البشارة: قال رسول الله r: «من فطر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا» [رواه أحمد والترمذي/ صحيح الجامع للألباني (6415)].
وإليك بشارة أخرى: قال رسول الله r: «أفضل الأعمال أن تُدخل على أخيك المؤمن سرورًا، أو تقضي عنه دينًا، أو تطعمه خبزًا» [رواه ابن أبي الدنيا في «قضاء الحوائج»، والبيهقي في «الشعب»/ صحيح الجامع (1096)].
أخي المسلم: إنه: (شهر الجود) وأهل الجود والصدقة فيه من الفائزين بتلك الدرة الرمضانية … ومن المتخلقين بخلق يحبه الله تعالى.
قال رسول الله r: «إن الله كريم يحب الكرماء، جواد يحب الجودة، يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها» [رواه الطبراني وأبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "الشعب" والحاكم/ صحيح الجامع للألباني (1800)].
رمضان شهر الجود
أخي المسلم: هل تذكرت الجود وأنت تعيش نفحات رمضان؟!
هل تذكرت بر المساكين وأنت في شهر الجود؟!
هل تذكرت الإحسان إلى الضعفاء وأنت في شهر الرحمة؟!
سُئل بعض السلف: لم شُرع الصيام؟ قال: «ليذوق الغني طعم الجوع، فلا ينسى الجائع».
فيا من أظلك شهر الجُود … تذكر الجُود…
ويا من أظلك شهر القرآن تذكر الإحسان.
قل لي – أيها الموفق – ألا ترى كيف يقلق الجوع الحشى؟!
ألا ترى كيف ييبس الظمأ العروق؟!
فإن كان هذا حالك شهرًا واحدًا، فكيف بمن هذا حاله عامه كله!
ولكن هنالك من أهل الجود والإحسان من لا يهنأ لهم عيش إلا ببذل المعروف للضعفاء وأهل الحاجة.
قال حكيم بن حزام رضي الله عنه: «ما أصبحت صباحًا قط، فرأيت بفنائي طالب حاجة، قد ضاق بها ذرعًا فقضيتها؛ إلا كانت من النعم التي أحمد الله عليها، ولا أصبحت صباحًا لم أر بفنائي طالب حاجة، إلا كان ذلك من المصائب التي أسأل الله عز وجل الأجر عليها»!
وعن عروة بن الزبير قال: «لقد رأيت عائشة – رضي الله عنها – تصدقت بسبعين ألف درهم، وإنها لترقع جانب درعها»!
وذكر أن مالك بن دينار كان جالسًا ذات يوم، فجاءه سائل وسأله شيئًا، وكان عنده سلة تمر، فقال لامرأته: ائتيني بها.
فجاءت به، فأخذها مالك فأعطى نصفها السائل، ورد نصفها إلى امرأته.
فقالت له امرأته: مثلك يسمى زاهدًا! هل رأيت أحدًا يبعث إلى الملك هدية مكسرة؟!
فدعا مالك بالسائل، وأعطاه البقية، ثم أقبل على امرأته، فقال لها: يا هذه، اجتهدي ثم اجتهدي، فإن الله تعالى قال: }خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ{ [الحاقة: 30-32].
فيُقال: من أين هذه الشدة؟! قال: }إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ{ [الحاقة: 33، 34].
اعلمي أيتها المرأة إنا قد طرحنا من أعناقنا نصفه بالإيمان، فينبغي لنا أن نطرح النصف الآخر بالصدقة!
وكان أبو القاسم الجنيد لا يمنع قط أحدًا سأله شيئًا، ويقول: «أتخلق بأخلاق رسول الله r».
وكان حماد بن أبي سليمان r يقول: «لولا سؤال المحتاجين لي ما اتجرت في شيء أبدًا»!
وكان السري السقطي يقول: «ذهب المعروف، وبقيت التجارة، يعطي أحدهم لأخيه الشيء لأجل أن يعطيه نظيره»!
وكان بقية بن الوليد يدخل دار صديقه في غيبته، ويأخذ القدر من النار، ويضعه على باب الدار، فيأكل منه، ويفرق على الفقراء والمساكين، فإذا جاء أخوه فرح بذلك، وقال: جزاك الله من أخ صالح خيرًا، قدمت لنا اليوم معادنا!
أخي المسلم: تأمل في مواقف هؤلاء الأمجاد … قوم لذة المعروف عندهم فوق كل لذة! قوم وطنوا أنفسهم على اكتساب الذخر الباقي … والتجارة الرابحة.
فأين أنت من تلك المناقب الزاهية؟!
وها هو شهر الجود يدعوك إلى الجُود … وها هو شهر الرحمة يدعوك إلى رحمة الضعفاء … فهل أنت من الملبين لهذا النداء؟!
جُود رسولنا r في رمضان
الجود من الأخلاق الفاضلة التي لا يتخلق بها إلا أهل المروءات … ورسولنا r قد نال من كل خُلُق فاضل أرفعه … ففي دنيا الجود والكرم …كان أجود الناس يدًا … وأكرمهم عطاءً … ولكن جوده r في رمضان كان جودًا من نوع آخر … وهو ما يجعل للجود في رمضان مقامًا ساميًا.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي r أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله r القرآن، فإذا لقيه جبريل، كان أجود بالخير من الريح المرسلة» [رواه البخاري ومسلم].
قال الحافظ ابن رجب: «فإنه كان يلتقي هو وجبريل عليه السلام، وهو أفضل الملائكة وأكرمهم، ويدارسه الكتاب الذي جاء به إليه، وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق».
وقال أيضًا: «وكان جوده r يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضًا، فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك من قبل البعثة».
أخي المسلم: إن كثرة جوده r في رمضان كان لمعان كثيرة، ينبغي أن تفهمها، إذ إن النبي r هو المبين للشريعة، وفي كثرة جوده r في رمضان؛ لفت لك أيها المسلم إلى تلك المعاني العظيمة، وقد ساق هذه المعاني الحافظ ابن رجب، حيث قال:
منها: شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل فيه.
ومنها: إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أن من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا.
ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء، كما قال r: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء» [رواه البخاري ومسلم].
فمن جاد على عباد الله، جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، كما في حديث علي رضي الله عنه عن النبي r قال: «إن في الجنة غرفًا يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها» قالوا: لمن هي يا رسول الله؟! قال: «لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» [رواه أحمد والترمذي والحاكم].
وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام، والقيام، والصدقة، وطيب الكلام، فإنه يُنهى فيه الصائم عن اللغو والرفث.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا، واتقاء جهنم، والمباعدة عنها، وخصوصًا إن ضم إلى ذلك قيام الليل.
ومنها: أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل ونقص … وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي، ولهذا نُهي أن يقول الرجل: صمت رمضان كله، أو قمته، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.
ومنها: أن الصائم يدع طعامه وشرابه لله، فإذا أعان الصائمين على التقوى على طعامهم وشرابهم؛ كان بمنزلة من ترك شهوة لله، وآثر بها، أو واسى منها، ولهذا يشرع له تفطير الصائم معه إذا أفطر؛ لأن الطعام يكون محبوبًا له حينئذ، فيواسي منه، حتى يكون ممن أطعم الطعام على حُبَّه، ويكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطعام والشراب له، ورده عليه بعد منعه إياه، فإن هذه النعمة إنما عُرف قدرها عند المنع منها. باختصار.
لماذا الصدقة في رمضان
أخي المسلم: الصدقة لا شك مندوب إليها في كل حين … ولكن صدقة رمضان لها قدر خاص … وقد مر معك كلام الحافظ ابن رجب في ذلك.
قال الإمام الشافعي: «أحبُّ للرجل الزيادة بالجُود في شهر رمضان، اقتداءً برسول الله r، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم».
أخي المسلم: إن شهر رمضان شهر تساوى في نهاره الناس؛ من غني وفقير … فالكل مفطوم عن الطعام والشراب … ولكن عند الإفطار يظهر الفرق!
فترى الغني قد امتلأت مائدته بأنواع الطعام والشراب! وأما الفقير فهو يسد رمقه بما يجده أمامه … وقد لا يجد ذلك!
فيا صاحب المائدة الحافلة بألوان المأكول والمشروب … هل ذكرك جوع الصيام أخًا لك لا تصل يداه إلى تلك الألوان من الطعام؟!
كان ابن عمر رضي الله عنهما يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعهم أهله عنه، لم يتعش تلك الليلة! وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه، أخذ نصيبه من الطعام، وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة، فيصبح صائمًا ولم يأكل شيئًا!
اشتهى بعض الصالحين من السلف طعامًا، وكان صائمًا، فوضع بين يديه عند فطوره، فسمع سائلاً يقول: من يقرض الملي الوفي الغني؟! فقال: عبده المعدم من الحسنات!
فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه، وبات طاويًا!
وجاء سائل إلى الإمام أحمد، فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره، ثم طوى وأصبح صائمًا!
وكان الحسن البصري يطعم إخوانه وهو صائم تطوعًا، ويجلس يروحهم وهم يأكلون!
وكان ابن المبارك يطعم إخوانه في السفر الألوان من الحلواء وغيرها وهو صائم.
أخي المسلم: اجعل من شهر رمضان واعظًا لك … ومذكرًا بآلام الضعفاء … فإن رمضان مدرستك … فإياك أن تكون من الفاشلين فيها!
وتقبل الله صيامي وصيامك … وأعانني وإياك على طاعته في صباحي وصباحك … ومسائي ومسائك …
والحمد لله تعالى دائمًا … والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه دائبًا.