وعاهدهم له صلى الله عليه وسلم أن يكونوا له أنصاراً وتابعين ، ثم جدَّد لهم هذا العهد وأحياهم وجمعهم فى بيت المقدس ليروا الحَبيب بعد تكليفه بالرسالة وبعد أمره بالبلاغ وليصلى بهم إماماً لأن الله جعله كذلك-أى إماماً – لجميع الأنبياء والمرسلين ، وسوف نذكر فى هذا المقام بعض ما تطيقه العقول من الصور التى جعلها الله لحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: صورة حسية ظاهرية:
وقد رآها من كان فى عصره وأوانه ، ويكرم الله بمشاهدتها المؤمنين الصادقين إلى يوم الدين ، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم: {مَنْ رآني في المَنَامِ فَقَدْ رأى الحَقَّ إنَّ الشَّيْطَانَ لا يَتَشَبَّهُ بي}{1}
فرؤيته صلى الله عليه وسلم محفوظة من أن يتشبه بها شيطان أو يتمثل بها أحد من الجان لأنها محفوظة بحفظ الرحمن عز وجل
وثانياً: صورة معنوية:
وتلك صورة تراها القلوب إذا صفت وتراها النفوس إذا وفت ، بيَّنها الله فى الآيات القرآنية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً{45} وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً{46} الأحزاب
وغيرها من الآيات القرآنية التى تبين أوصافه القرآنية والتى تقول فيها السيدة عائشة رضى الله عنها: {كان خُلقه القرآن}{2}
وثالثاً: صورة نورانية :
وهى صورة يراها الملأ الأعلى وتراها الأرواح إذا ارتقت فى سماء القرب من حضرة الكريم الفتاح ، قال فيها الله: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} المائدة15
النور هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والكتاب المبين هو القرآن الكريم ، وليس النور هو الكتاب لأن الله فصل بينهما بالواو وهى حرف عطف يقتضى المغايرة أى يقتضى ما قبلها أن يكون مغايراً ومخالفاً لما بعدها ، فلو كان النور هو الكتاب لكانت الآية: "نور كتاب مبين" لكن النور شئ والكتاب المبين شئ آخر
فالنور هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والكتاب المبين هو القرآن الكريم الذى أنزله الله عليه ، والقرآن نور: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً} الشورى52
والله عز وجل نور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} النور35
فالله نورٌ والقرآن نورٌ والحَبيب المُصطفى نورٌ {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} النور35
ورابعاً: هناك الصورة الربانية:
وهى الصورة التى خلقها الله قبل خلق جميع البرية وخلق منها أرواح النبيين والمرسلين وأخذ عليهم فيها العهد والميثاق الذى يقول فيه فى قرآنه المبين: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} آل عمران81
إذاً هناك أربع صور لرسول الله ذكرناها على قدر العقول
فهل المقصود بقول الله {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ} رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإن كان كذلك ، فأين يقع هذا المعنى من الصور التى بيناها لكم؟
وجوابنا: الإثنان ، فالكتاب هو رسول الله: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ} الإسراء105
وأين نزل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} الشعراء193
على: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} الإسراء105
ولذلك قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى{3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{4} النجم
فلا ينطق عن هوى فى نفسه ولا عن رأى فى شخصه ، وإنما ينطق مبلغاً عن الله لأنه صلى الله عليه وسلم فنى عن نفسه ولم يعد له حظ ولا هوى ولا مطمع دنيوى أو فانى ، وإنما كان كل همه أن يبلغ رسالات الله إلى خلق الله: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} صلى الله عليه وسلم
وذلك لأنه صورة الحق التى ظهرت بين الخلق ، صورة حقية فى صورة آدمية ، باطنه حق وظاهره خلق ، وظاهره مرآة تبين جمال باطنه ، إذاً فقد أصبح ظاهره حق وباطنه حق ، وإلا لما أوجب الله علينا اتباعه حتى فى مشيه وفى طعامه وشرابه وفى كل أموره ، وقد قال سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص: {يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ أَفَأَكْتُبُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فِى الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ قَالَ: نَعَمْ ، فَإِنِّى لاَ أَقُولُ فِيهِمَا إِلاَّ حَقًّا}{3}
فهو صورة الحق التى أجلاها للخلق ليتجملوا بهذا الجمال ، فيحوزوا رضاء الحق عز وجل ، وكأن الله جعله مثالاً للكمالات التى يحبها من خلقه ، فمن أراد أن يكون حَبيباً لله فليتخلق ويتجمل بجمال حَبيب الله ومُصطفاه فيصير مثله حَبيباً لله على قدره لا على قدر الحَبيب الأول صلى الله عليه وسلم
عليكم أولاً استحضار صورته الحسية لكى يتهنى بها القلب ، لكن حاول أن تتجمل ليس بصورته الحسية ولكن بأوصافه المعنوية ، وعندما تتجمل بأوصافه المعنوية يمن عليك الله فيُجمل باطنك بأوصافه النورانية ، ولما يجمل باطنك بأوصافه صلى الله عليه وسلم النورانية يفتح لك فتوحات العارفين ويجعلك من أهل مقامات القرب من رب العالمين عز وجل ، وهذا هو سر أهل الخصوصية مع الصور المحَبوبية
{1} صحيح ابن حبان عن أبى هريرة {2} مسند الإمام أحمد {3} مسند الإمام أحمد