فرق بين الداعية والجلاّد !
أكبر وأشدّ ضرر يمكن أن يلحق بالحقّ هو ذلك الّذي يكون من حامليه وأصحابه ،المدافعين عنه ،الداعين إليه،وإذا تنكر الناس للحق وانصرفوا عنه فإنّ علينا أولاً وقبل اتهام الناس بالسوء أنّ نراجع نحن أسباب هذا الإعراض والانصراف،وهل لنا فيه يد أم لا،ولا يجوز تكرار الاستشهاد بما ذكره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأنّ بعض الأنبياء يأتي يوم القيامة وليس معه أحد،لأنّ أولئك عصمتهم معلومة،أمّا مع كلّ وجوه النقص والتقصير الّتي تصدر منّا فالواجب البدء بتمحيص الخطاب الّذي نوجّهه للنّاس وتنقيته من أيّ شائبة تكون سبباً في صدّ النّاس عنه .
ودون الدخول في تفصيل كثير فإنّ الخطاب الإسلامي المعاصر فيه كثير من أسباب الصدّ عن سبيل الله،وعلينا أن لا نكابر ونغمض أعيننا ونجامل بعض الكبار ثمّ نلوم غيرنا إن تحدّث واستغلّ سكوتنا فتكلم بغير علم فَضَلَّ وأضَلّ.
فمن تلك الأسباب تقديم بعض النّاس الحق في قالب استعدائي استعلائي يتحدّى الآخرين ويستغلّ ضعف الباطل الّذي هُم عليه ليظهر عليهم ويشعر بنشوة النصر والتميّز ويستمتع بإقصائهم وإلغائهم تحت ذرائع مختلفة تارة نصرة السنة وتارة بيان الحق والرد على المبطلين،بينما حقيقة الحال أنّه يمارس نوعا من التكبّر والعلوّ في الأرض،بل هو من أردأ وأسوأ أنواعه قط ،لأنّه يصرف النّاس عن الحق ويصدّهم عنه،ولأنّه يستغلّ رحمة الله للعالمين التي من ألزم لوازمها التواضع وخفض الجناح فيصبح الحق بسبب هؤلاء عنوانا للكبر والتحدي وإذلال الآخرين،يقول الغزالي أبو حامد : (أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوامِّ بتعصب جماعة من جَهَلَة أهل الحق. أظهروا الحق في معرض التحدّي والإدلالِ،ونظروا إلى ضعَفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء،فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة،ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة،وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها).
أمّا أكثر ما يسيء للحق فهو أن يتحوّل في أيدي بعض الناس إلى سياط يسومون به مخالفيهم سوء العذاب،ويضيّقون عليهم مجاري العيش والحياة الكريمة،بدعوى محاربة البدع وأهلها،وهذا على فرض صحّة مواقفهم العلميّة أصلاً،وإلاّ فقد يفعلون ذلك وهم على خطأ وضلالة ويظنون أنّهم يحسنون صنعاً،وهذا كلّه سببه اتّباع للهوى،وما أجمل ما قال ابن تيمية رحمه الله في مناسبة تشبه هذه :«الهجرة الشرعية لابد أن تكون خالصة لله موافقة لأمره فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرا غير مأمور به كان خارجا من هذا و ما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانّة أنها تفعله طاعة لله».