ويبيّن لنا التاريخ أن هكذا " متفيقهين " كانت أداتهم في التعامل مع أخطاء ، وجرائم ، الحكام استخدام الأحاديث الضعيفة ، وربما المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ، كذلك تأويل بعض آيات القرآن الكريم بغرض إضفاء الـ شرعية كمدخل لتبرير حتى قتل المعارضين … وبلغ الأمر قمته المأساوية في تداول مصطلح استحدثه هؤلاء … وهو مصطلح " الحاكم المتغلّب " !!! . أسّس هؤلاء لمدرسة جديدة في الفقه الإسلامي ، هي " مدرسة فقهاء السلاطين " التي خرّجت مجموعاتٍ من الـ متفيهقين الذين ينضح كلامهم بالكراهية ، وباحتقار أهل العلم والاجتهاد ، ما يجعل كلام هؤلاء أدخلَ إلى باب السفاهة منه إلى باب الفقه والفقهاء المعتبرين ، حتى لو أظهر هؤلاء الحماسَ المصطنعَ غيرةً على الإسلام .
والملاحَظ أن من بين مشايخ السلطة من يحتج بأقوال لابن تيمية ، لكن المطالع لاحتجاجات هؤلاء يجد أنها دالة على جهل لا يغتفر بكل ، وأي ، منهجية علمية !!! كذلك فهم لا يذكرون عن الرجل إلا ما ينفّر الناس منه ؛ حتى يبدو وكأنه " الفقيه المنغلق على نفسه ، المتشدد في الأحكام المضيّق على عباد الله المسلمين " .
لم يكن ابن تيمية فقيهاً فحسب ، بل كان موسوعةً فكريةً وعلميةً في آن ؛ فالرجل أجاد علوم الحديث والعقيدة وأصول الفقه والفلسفة والمنطق وعلم الفلك والفيزياء ، واشتهر عنه البراعة في شرح الجبر والرياضيات .
ومن أبرز مؤلفات ابن تيمية كتابه " نقض المنطق " .. وكان به أول من خلع عن المنطق الأرسطي القداسة التي حطها عليه رجال الدين المسيحي في أوروبا حتى شاع القول : " إن الكنيسة مسّحتْ أرسطو " ، ثم كان للرجل السبق في تأسيس منطق إسلامي تأسست عليه ، بعدُ ، قواعد الفقه وأصوله ، وكان ابن تيمية بكتابه هذا سابقاً لما فعله كل من فرنسيس ، وروجرز ، بيكون في نقدهما للمنطق الأرسطي .
نقرأ في كتب التاريخ أن ابن تيمية دعا أعيان دمشق للاجتماع به ، وكان ذلك في يوم الاثنين الموافق 28 ديسمبر العام 1299م ، واتفق الجميع أن يسيروا إلى السلطان غازان ، وتقديم النصح له باعتباره حاكماً مسلماً .
تقدّم ابن تيمية وفدَ دمشق ليتحدث بالنيابة عنهم ، فدخل على غازان فلم يعبأ بهيبته ولا حرسه ولا مظاهر الأبّهة والسلطان من حوله ، خاطبه فأسمعه قول الله ورسوله في إقامة العدل .
قال ابن تيمية للمترجم " قل لغازان إنك تزعم أنك مسلم ومعك قاضٍ وإمام وشيخ ومؤذِّنون ، وغزوتنا وأنت مسلم ، وكان أبوك وجدُّك كافرين ، وما عملا الذي عملتَ ؛ فقد عاهدا فوفَّيا ، وأنت عاهدتَ فغدرتَ ، وقلتَ فما وفَّيْتَ ، وعلينا جُرْتَ وظلمتَ " .
استطاع ابن تيمية أن يحصل على وثيقة أمان من غازان … إلا أن جنوده نقضوها واستمروا في نهب المدينة ، ولم يَسلم من النهب إلا القلعة ؛ فقد رفض حاكمها أن يسلمها إلى التتار ، وصمم أن يدافع عنها مهما كلفه ذلك من تضحيات ، وكان في ذلك ملتزماً بنصيحة ابن تيمية الذى بعث إليه برسالة يقول فيها " لو لم يبق في قلعتك إلا حجر واحد ، فلا تسلمه إليهم إن استطعت " .
وكان من " توابع " هذا الموقف ، أن أخذت صورة ابن تيمية المجاهد أفئدةَ المسلمين في كل من دمشق القاهرة ، وبدأ الحقد ، تجاه الرجل ، يظهر في أقوال ، وأفعال ، فقهاء السلطة ، فراحوا يدُّسون على الرجل ، ويحرّضون عليه بغرض إزاحته عن الساحة الفقهية والعلمية معاً ، وكان أن استجاب للأمر السلطانُ ، فجمع له خصوم ابن تيمية بعضاً من فتاواه ، وادعوا أمامه أن هذه الفتاوى تحرض على الخروج على الحكام والعلماء معاً .
طلب السلطانُ ابنَ تيمية ، وعقد له مجلساً للمحاسبة ، وانتهى المجلس إلى الأمر بحبس الرجل في سجن قلعة الجبل سنةً ونصفاً … بل وزيدَ في الظلم ، فجاءوا بأخوين لابن تيمية وحبسوهما ، دون تهمة ، معه إمعاناً في التنكيل .
بعد انتهاء " حبس " الرجل ، عاد إلى دمشق ، لكن الأمر لم يطل ، فتحرك رجال السوء ، فتم حبْسُه ، مرة أخرى ، في برج الإسكندرية لمدة ثمانية أشهر عساه يتوب ويكف عن التفاعل مع " الجماهير " ضد الظلم والاستبداد . رأى البعض أن يبقى ابن تيمية في مصر تحت أعين العسس ؛ إذ كانوا أكثر خبرة وتدريباً .
بقي الرجل زمناً في مصر ، ثم عاد إلى دمشق فعقد له السلطان مجلس مناظرة لمحاكمته على ما اختلف فيه مع " علماء عصره " ، وانتهي المجلس بحبسه في قلعة دمشق ليقضى ما تبقي من عمره في السجن حتى توفّاه الله في العام 1328م ، وكان عمره وقتها 67 عاماً .
وعلى صعيد العمل بالحق الذي يعتقده الرجل ، وعلى صعيد " حفظ بيضة الدين " ، تبقى معركة " شقجب " علامة فارقة بحياة هذا الـ فقيه المعذّب ، كما أسماه ، يوماً ، الراحل عبد الرحمن الشرقاوي … فما حقيقة هذه المعركة التي رأيناها فاصلةً بحياة ابن تيمية ؟ .
في العام 1303م ، قرر المغول غزوَ دمشق ثانيةً ، وذلك خلال عهد المماليك ، فبدأ ابن تيمية بتحريض أهل الشام بدمشق وحلب على المقاومة ، وانتدبه القوم للسفر إلى مصر لملاقاة سلطانها الناصر محمد بن قلاوون ليحُثَّه على الجهاد ، فأعاد ابن تيمية نشرَ فتاواه في " حكم جهاد الدفع ورد الصائل " ، ثم سافر إلى أمير العرب ، مهنّا بن عيسى الطائي ، الذي لبى دعوة ابن تيمية لملاقاة ، ومن ثم قتال ، العدو .
وبعد استكمال الاستعدادات ، اجتمعت جيوش المسلمين من الشام ومصر وبادية العرب في " ش*** " ( = مرج الصفر ) جنوبي دمشق ، وكان ذلك في شهر رمضان ، فدار ابن تيمية على الجنود يقوِّى عزائمهم ، ثم بدأت الموقعة بقيادة السلطان الناصر والخليفة المستكفي بالله الذي كان يقيم في القاهرة آنذاك ، فدامت يومين ، وانتهت بانتصار المسلمين .
تراجع التتار عن خططهم ، فلم يدخلوا الشام ولا العراق ولا مصر ولا الحجاز ، ما جعل معركة ش*** من المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي ضد المغول بعد موقعة "عين جالوت" .
لقد كانت مشاركة ابن تيمية في هذه المعركة أحدَ الأسباب البارزة في الانتصار على التتار ؛ فقد كان يعمل وسط الجنود ، ويشاركهم القتال ، وهو الذى ثبّت عزائم الحكام ، والأمراء ، على مواصلة القتال ، وهو الذى جمع الأموال من التجار وأصحاب المال في دمشق لتمويل جيش المسلمين .
كان ابن تيمية على رأس جيش دمشق الذي حارب ، وهزم المغول ، ثم طاردهم شرقاً حتى نهر الفرات ، كما كان أولَ من عاد إلى دمشق يبشّر الناس بالنصر … لكن الرجل ، وبفطنة المؤمن ، أحس بشكوك تُساوِرُ السلطان من جهته ، مخافة أن يستغل حب الناس له فيثوروا عليه ، هنا طمأن ابن تيمية السلطان بأنه : " رجل ملَّة ، لا رجل دولة " .
موضوع جيد اخي
رحم الله شيخ الاسلام ابن تيمية