تخطى إلى المحتوى

أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها 2024.

بسم الله الرحمن الرحيم

من خديجة إلى سودة – رضي الله عنهما -:

بعد الخروج من الشعب بسبب القطيعة التي فرضتها قريش على بني هاشم والمسلمين والتي استمرت طيلة أعوام ثلاثة لقي فيها المسلمون عنتًا شديدًا وإرهاقًا ما بعده إرهاق.


وكانت خديجة أم المؤمنين – رضي الله عنها – كما سبق تقاسي من المرض والضعف ثم ما لبثت أن لحقت بالرفيق الأعلى، فوجد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدًا شديدًا وحزن حزنًا بالغًا – عليه الصلاة والسلام – وكذلك بناتها الأربع زهرات بيت النبوة النضرات: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة وكل المسلمين، ثم إن أبا طالب قد لحقها الذي كان نعم العشير والنصير لابن أخيه محمد بن عبد الله – صلوات الله وسلامه عليه – فازداد – عليه الصلاة والسلام – حزنًا وهمًا وجاءه عمه أبو لهب يرد عليه ابنتيه رقية وأم كلثوم بسبب ما نزل فيه من الوحي: ]تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ[ [المسد].


فلقد تكأكأت الهموم على القلب الشريف الكبير من كل ناحية، مما زاده تعلقًا بالله واستمساكًا بحبله ورجاء به –سبحانه-، ولقد قصد صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد في أهلها بني ثقيف تفهمًا للدعوة وقبولاً لها وهم العشيرة التي طبقت أرجاء الجزيرة العربية علمًا ومعرفة.. فردوه أقبح رد وجفوه أشنع جفاء حتى إنهم أغروا صبيانهم وسفهاءهم برميه بالحجارة، فأدموا قدميه، تلك الأيام وتلك الحقبة كانت أقسى ما مر به صلى الله عليه وسلم مهن محن وشدائد.


بين القبول والرد:


وبينما هو صلى الله عليه وسلم ذات يوم في بيته يلفه الحزن والكآبة يفزع إلى الصلاة والدعاء ليجد عزاء قلبه وروحه جاءته إحدى السيدات المسلمات خولة بنت حكيم -رضي الله عنها- تحدثه حدثًا عجيبًا.
لقد كان المسلمون جميعهم يشعرون بما يقاسي – عليه الصلاة والسلام – من آلام المحنة فقد خلا البيت النبوي من أطهر الزوجات وأكرمهن، ومات العم المدافع عن ابن أخيه ورده أهل الطائف ردًا قبيحًا منكرًا، فكان المسلمون يحسون بذلك، ويحاولون أن يخففوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبحث عمن يقوم على شؤونه ويدبر له أموره وبعد تردد ونظرات بعيدة إلى الماضي تسترجع ذكرى خديجة – رضي الله عنها – قبل الرسول صلى الله عليه وسلم اقتراح خولة بالزواج، فقالت: إن شئت بكرًا فأمامك عائشة بنت أبي بكر، وأن شئت ثيبًا فهناك سودة بنت زمعة، آمنت بك واتبعتك وهاجرت إلى الحبشة فتوفي عنها زوجها وتركها وحيدة!


فردد صلى الله عليه وسلم في دهشة ممزوجة بالاستغراب والعجب الاسم أكثر من مرة، ولم يأت ذكر عائشة، وأخيرًا قبل الزواج من سودة لأنها مؤمنة مجاهدة قد ترملت فمن الوفاء أن تنال جزاء ما قدمت وأسلفت في سبيل الله.


نسبها ونشأتها:


هي سودة بنت زمعة بنت قيس من بني شمس، وأمها الشموس بنت قيس بن عمرو من بني النجار من أهل يثرب.


نشأت سودة في مكة وفيها ترعرعت حتى بلغت مبلغ الصبا والفتوة، فتقدم لخطبتها والزواج منها السكران بن عمرو فقبل به أبوها وزوجها منه.


ومات عنها وكان من المصدقين الأوائل السابقين إلى الإسلام الذين آمنوا بالله ورسوله وكانت سودة – رضي الله عنها – امرأة مسنة فارعة العود طويلة القامة ضامرة الجسم نحيلة، ليست على قسط من الجمال ولا مطمع فيها من الرجال.


إسلامها:


حين أشرقت شمس الدعوة الإسلامية والرسالة المحمدية على مكة استضاء بها قلب الزوجين (السكران وسودة) فأعلنا إسلامهما وإيمانهما وانضويا تحت اللواء الشريف وانتظما في موكب النور.


وعندما ضاق المؤمنون ذرعًا بأذى قريش وتعرضها الدائم لهم بالإكراه والتعذيب والفتنة؛ أذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد منهم في الهجرة إلى الحبشة قائلاً إن فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحد حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

هجرتها:


هاجرت سودة مع زوجها السكران بن عمرو إلى الحبشة في جملة من هاجروا، وهناك أقاموا مدة من الزمن بعيدًا عن الأهل والوطن في شوق دائم وحنين لا ينقطع، خصوصًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.


العودة من الحبشة:


وبإسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب – رضي الله عنهما – تشجع بعض المهاجرين إلى الحبشة على العودة إلى مكة وآثر الآخرون البقاء.


وكانت سودة – رضي الله عنها – مع زوجها ممن أسرعوا بالعودة.


وتعود أسباب سرعتها في العودة إلى ما كان قد أصاب زوجها من أمراض وعلل لبعده عن الأهل والوطن والأحباب والأصحاب وتغير المناخ.


الأيِّم:


ومع وصول الزوجين إلى مكة فوجئا بأن قريش ما تزال على موقفها من العداء الشديد للإسلام والمسلمين، بل زادت حدة الصراع ولم ترعِو عن غيها وكفرها وعنادها، ولازم الزوج السكران بن عمرو الفراش بسبب العلة والضعف المتناهي، وقامت سودة على تمريضه ومداواته ومساعدته ولكن لم تمض أيام على وصوله حتى اشتد به المرض ومنعه من الكلام والحركة ولم يلبث أن فارق الحياة.


وتأيمت سودة – رضي الله عنها – وأمضت أيامها بمكة حزينة آسفة صابرة على قضاء الله وقدره، معتصمة بإيمانها متمسكة بإسلامها، تستمد من البارئ – عز وجل – العون والرحمة.


أم المؤمنين:


ثم كانت البشرى السعيدة التي أثلجت قلبها وعزَّتْها في حزنها على مصابها، وأزاحت عن صدرها كابوس المحنة، بشرى خطبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حلت عدتها، أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مري رجلاً من قومك يزوجك»، فأمرت حاطب بن عمر فزوجها، فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة – رضي الله عنها – وكان ذلك في شهر رمضان سنة عشر من البعثة النبوية الشريفة، وبهذا الزواج المبارك عليها أصبحت سودة بنت زمعة أمًا للمؤمنين بعد خديجة وكانت – رضي الله عنها – تقوم خير قيام على رعاية بيت النبوة من خدمة وحدب على الفتيات الطاهرات اللواتي فجعن بالسيدة العظيمة خديجة بنت خويلد وهن في سن مبكرة أم كلثوم وفاطمة، فقد كانت زينب – رضي الله عنها – متزوجة من ابن خالتها أبي العاص بن الربيع، ورقية – رضي الله عنها – من عثمان بن عفان رضي الله عنه .

وكذلك قدرت سودة وجودها الجديد، واختيار النبي صلى الله عليه وسلم لها، فأكبرت ذلك واعتبرته تكريمًا عظيمًا فاحترمت الإرادة النبوية السامية وأجلتها وأنزلتها من نفسها وقلبها أسمى مقام وأرفعه.


يومي لعائشة إذًا:


قامت سودة -رضي الله عنها- على شؤون بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامًا حسنًا طيبًا وأدت ما عليها من واجب تجاه النبي العظيم وهي تحاول جهدها أن تحظى برضاه وعطفه وحبه.



ثم جرت الأقدار بما دبرت من العلي الكبير إذ جاء جبريل t ذات ليلة يحمل قطعة من حرير عليها صورة فتاة صغيرة السن، ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صاحبتها هي زوجته المنتظرة ورفيقته في الآخرة، وتكررت الزيارة في ليال ثلاث متواليات وكانت الصورة لعائشة بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما -.


وتمت الخطبة في مكة:


ولم يبن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها كانت صغيرة السن، وبعد الهجرة إلى المدينة تم الزواج ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة أما سودة بنت زمعة – رضي الله عنها – فكانت من المهاجرات إلى المدينة، المرافقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الدائمة، المواظبة على رضاه وحبه، ولقد أدركت – رضي الله عنها – شغف النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وإيثاره لها، فكانت تشعر بشيء، لكنها كانت في نفس الوقت حريصة على استمرارية بقائها زوجة للنبي الكريم وأمًّا للمؤمنين، وتحدثنا السيدة عائشة – رضي الله عنها – عن ذلك فتقول: كانت سودة بنت زمعة قد أسنت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستكثر منها، وقد علمت مكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يستكثر مني، فخافت أن يفارقها، ورضيت بمكانها عنده، فقال: يا رسول الله يومي الذي يصيبني لعائشة وأنت في حل فقبله النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك نزل قول الله تعالى: ]وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا[ [النسا: 128].


ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى سودة بطلاقها فلما أتاها الخبر حزنت وبكت وتألمت ثم جلست في طريقه إلى بيت عائشة فلما رأته – عليه الصلاة والسلام – قادمًا قالت: يا رسول الله أنشدك بالذي أنزل عليك كتابه واصطفاك على خلقه لم طلقتني؟ ألموجدة وجدتها علي؟ فقال – عليه الصلاة والسلام -: «لا»، فقالت: فإني أنشدك بمثل الأولى أما راجعتني وقد كبرت ولا حاجة لي في الرجال، ولكني أحب أن أبعث في نسائك يوم القيامة، فراجعها النبي صلى الله عليه وسلم ومن أجدر وأحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعطف والمحبة للمسلمين وللمؤمنين يقول فيه ربه سبحانه وتعالى: ]لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ[ [التوبة: 128، 129].


شهادة النبي صلى الله عليه وسلم في حق سودة:


كانت سودة – رضي الله عنها – كما قدمنا، تحمل بعض الشيء في قلبه، ومبعث ذلك غيرة النساء لو كن كبيرات في السن، كان فيها دعابة وتحب الضحك، وروي أنها قالت ذات يوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صليت خلفك البارحة فركعت بي حتى أمسكت بأنفي مخافة أن تقطر الدم … فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثيرًا ما كانت تداعبه بالقول والفعل فقد كانت – رضي الله عنها – خفيفة الروح والظل، صاحبة فكاهة ومزاح صادق.


المتصدقة الكريمة السخية:


روت عائشة – رضي الله عنها – قالت: اجتمع أزواج النبي ذات يوم فقلن: يا رسول الله أينا أسرع لحاقًا بك؟ فقال – عليه الصلاة والسلام -: «أطولكن ذراعًا».


قالت عائشة: وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت سودة بنت زمعة أسرعنا به لحاقًا، فعرفنا بعد ذلك إنما كان طول يدها بالصدقة وكانت امرأة تحب الصدقة.


الوفية بالعهد:


حدث أبو هريرة رضي الله عنه فقال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسائه عام حجة الوداع وكان كل نسائه يحججن بعده إلا سودة بنت زمعة وزينب بنت جحش قالتا: لا تحركنا دابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عن سودة قولها حججت واعتمرت، فأنا أقر في بيتي كما أمرني الله – عز وجل -.


المأذون لها من رسول الله صلى الله عليه وسلم:


وروت عائشة – رضي الله عنها – قالت: استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس أي: أن تمضي قبل الزحام وكانت امرأة ثقيلة بطيئة فأذن لها، فخرجت قبل دفعة الناس وحبسنا حتى أصبحنا، فدفعنا بدفعه صلى الله عليه وسلم ولئن أكون أستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فأكون أدفع قبل الناس أحب إلي من مفروح به.


وهذا الإذن ترخيص من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسودة لأنه كان من عادة الجاهليين قبل الإسلام أن يتقدم الأشراف على العامة.


فألغى الإسلام هذه العادة المفرقة وسوى بين الناس جميعًا لا فرق بين أمير وحقير أو سيد ومسود أو مولى وعبد.


وما جاء الإسلام إلا ليرسي دعائم العدل، وليرفع عن المجتمع العربي (القبلي الجاهلي) وغيره من المجتمعات كابوس الظلامة في التفرقة بين خلقه وعباده.


فالناس جميعًا كما قال – عليه الصلاة والسلام – سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض عن أسود إلا بالتقوى.


المقسوم لها يوم خيبر:


ولقد قسم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر من الفيء كما قسم لكل أزواجه فنالت من التمر ثمانين وسقًا ومن القمح عشرين، ولكنها – رضي الله عنها – لم تدخر ذلك.. ولم تخزنه ولم تجعله في بيتها بل فرقته على من يحتاجه قبل وصولها إلى حجرتها، وأيضًا روى محمد بن عمر أن عمر بن الخطاب، أرسل إلى سودة زمن خلافته، كما كان يفعل مع باقي أمهات المؤمنين: غرارة من دراهم فقالت: ما هذه قالوا: دراهم من أمير المؤمنين.. قالت: في الغرارة مثل التمر.. ثم نادت على جارية لها وطلبت أن توزع ما في الغرارة على المحتاجين والمساكين ودعت ربها – سبحانه وتعالى – أن يثبتها على القناعة والاكتفاء.
وهكذا كان دأب أم المؤمنين سودة بنت زمعة – رضي الله عنها – فهي لا تريد لعنصر المال أن يدخل في حوزتها أبدًا، فأشرف لها وأكرم وأعظم أن يتبلغ به فقير جائع أو مسكين محتاج أو صاحب فاقة من أن تنفقه على دنياها فالآخرة خير وأبقى والحسنة بعشر أمثالها.


وصدق الله العظيم: ]وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ [المزمل: 20].


الوفاة:
هناك اختلاف في تاريخ وفاتها – رضي الله عنها -، فمن المؤرخين من يقول إنها كانت أي: سودة أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحاقًا به، حسب رواية عائشة – رضي الله عنها – كما قدمنا ومنهم من يقول إن أول من لحقت به من نسائه هي زينب بنت جحش ابنة عمته صلى الله عليه وسلم، وأن سودة توفاها الله بعدها وقد كان ذلك في العام الرابع والخمسين من الهجرة زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان والله أعلم.


رضي الله عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة المسلمة المهاجرة والمؤمنة الصادقة المتصدقة الوفية المحبة، وأنزلها من لدنه -تعالى- منازل الأبرار الصالحين في جنات النعيم، وألحقنا بها في الطائعين التائبين من عباده إنه أكرم مأمول وخير مسؤول، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.