هل الأصل في الشريعة التعبد أو التعليل؟
وتحت هذه المسألة النقاط الآتية:
1- تحرير محل النزاع.
2- الأقوال والأدلة.
3- الرأي الراجح ودليل الترجيح.
4- أثر الخلاف وثمرته.
1- تحرير محل النزاع
وذلك في أمور ثلاثة:
الأمر الأول: أن كلا من التعبد والتعليل له معنى عام ومعنى خاص.
أولا: المعنى العام لكل من التعبد والتعليل:
التعبد بمعناه العام هو: ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا»([1])، وعبادته -سبحانه- هي: امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق.
وبهذا يعلم أن علة التعبد العامة هي: الانقياد لأوامر الله -تعالى- وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه؛ كما قال -سبحانه-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
وبناء على ذلك فيمكن أن يقال: الشريعة كلها تعبدية.
وأما التعليل بمعناه العام هو: ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «حق العباد على الله إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئًا ألا يعذبهم»([2])، وهذا يفيد أن هذه الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد عاجلا وآجلا.
ومن هنا يعلم أن أحكام الله -سبحانه وتعالى- معللة بالحِكم ورعاية المصالح، وأن جميع الأوامر والنواهي مشتملة على حِكم جليلة ومصالح عظيمة.
وبناء على ذلك فيمكن أن يقال: الشريعة كلها معللة.
ثانيًا: المعنى الخاص لكل من التعبد والتعليل:
التعبد بمعناه الخاص هو: ما لا يُعقل معناه من الأحكام على الخصوص، ولا تدرك علته، وهو ما يسمى بالأمور التعبدية.
ومثالها: تحديد أعداد الركعات في الصلوات الخمس، وتحديد مقادير الأنصبة في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقادير ما يجب فيها، ومقادير الحدود والكفارات، وفروض أصحاب الفروض في الإرث([3]).
وهذا التعبد واقع في الشريعة؛ فإن بعض الأحكام قد تخفى علتها.
وأما التعليل بمعناه الخاص فهو: كون الحكم متضمنًا لمعنى مناسب ومصلحة يدركها العقل([4]) .
ونصوص القرآن والسنة طافحة بتعليل الأحكام ووجوه الحِكم، فمن الأمثلة على ذلك في القرآن الكريم([5]):
أنه تارة يذكر ذلك بلام التعليل الصريحة؛ كقوله -تعالى-: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: 143].
وتارة يذكر "كي" الصريحة في التعليل، كقوله -تعالى-: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7].
وتارة يذكر "من أجل" الصريحة في التعليل؛ كقوله -تعالى-: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [المائدة: 32].
وتارة يذكر "لعل" المتضمنة للتعليل المجردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق؛ كقوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
وتارة يذكر المفعول له؛ كقوله-تعالى-: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89].
وتارة ينبه على السبب بذكره صريحًا؛ كقوله -تعالى-: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 160، 161].
وتعليل أفعال الله -سبحانه- لا يلزم منه -على مذهب السلف- القول بأنه يجب على الله رعاية مصالح العباد؛ ذلك لأن السلف يثبتون لله كمال القدرة والحكمة، ولا يشبهونه بشيء من خلقه، ولأجل ذلك يقولون:
"إن الله خالق كل شيء ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير، ويفعل -سبحانه- ما يفعل بأسباب ولحكم وغايات محمودة فله المشيئة العامة والقدرة التامة، والحكمة البالغة"([6]).
ولا يجب عليه -سبحانه- شيء فيما يحكم ويقضي؛ إذ لا يجوز قياسه على خلقه ([7]) : ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]، لذا فإن القول: بأن العلة مجرد علامة محضة لا يصح، لكونه مبنيًا على إنكار التعليل في أفعال الله، بل العلة هي الوصف المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم([8]).
الأمر الثاني: أن إجراء القياس في الأحكام الشرعية لا يمكن إلا بعد معرفة العلة وتعقل المعنى:
وبناء على ذلك فالقياس إنما يسوغ إجراؤه في الأحكام المعللة، وأما في الأحكام التعبدية غير المعللة فلا يمكن فيها إجراء والقياس بحال.
قال الطوفي عند بيانه لشروط القياس: "الشرط الثالث: أن يكون الأصل معقول المعنى، إذ لا تعدية بدون المعقولية، أي: ما لا يعقل معناه لا يمكن القياس فيه؛ لأن القياس تعدية حكم المنصوص عليه إلى غيره، وما لا يعقل لا يمكن تعديه، كأوقات الصلوات وعدد الركعات"([9]).
وقال الشاطبي: "ذلك أن التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى، وبحيث لا يصح فيه إجراء القياس.
وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حدَّه لا يُتعدى"([10]).
الأمر الثالث: محل النزاع في هذه المسألة إنما هو في الأصل الغالب في أحكام الشريعة: هل هو التعبد أو التعليل؟
حيث الاتفاق واقع على أن أحكام الشريعة منها ما هو تعبدي، لا تعرف له علة، ومن هذه الأحكام أيضًا ما هو معلل بنص الكتاب والسنة.
قال الطوفي: "الأحكام إما غير معلل؛ كالتعبدات أو معلل؛ كالحجر على الصبي لضعف عقله حفظًا لماله"([11]).
فمحل الخلاف إذن فيما عدا ذلك من الأحكام: ما الأصل فيها؛ هل تحمل على التعبد أو على التعليل؟
([1])أخرجه البخاري (7/308) برقم (2856)، ومسلم برقم (30).
([2])هو تتمة للحديث السابق ولكن بلفظ: «حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا».
([3])علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص(62).
([4])انظر: شفاء العليل لابن القيم ص(190)، و***** دار السعادة (2/22)، ومذكرة الشنقيطي ص(275).
([5])انظر: ***** دار السعادة (2/22)، وشفاء العليل لابن القيم ص(188-196).
([6])انظر: مجموع الفتاوى (8/97، 99)، وشفاء العليل لابن القيم ص(206).
([7])انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (2/776).
([8])انظر: مجموع الفتاوى (8/485)، ومذكرة الشنقيطي ص(275).
([9])شرح مختصر الروضة (3/301).
([10])الموافقات (2/318).
([11])شرح مختصر الروضة (3/275).
القول الأول: أن الغالب في أحكام الشريعة التعليل، وأن التعبد فيها قليل.
وهو مذهب الحنفية، ونسب ذلك إلى الإمام الشافعي، وقال به من الحنابلة القاضي أبو يعلي وأبو الخطاب([1]).
واستدلوا بما يأتي([2]) :
أولاً: أنَّ تعقُّل العلة وإدراك المناسبة أقرب إلى القبول من التعبد، وأدعى إلى العمل والامتثال.
ثانيًا: أن التعبد في الأحكام قليل نادر، وأن التعليل هو الأغلب، وهو المألوف في عرف الشارع، فيلحق الفرد بالأعم الأغلب، ألا وهو التعليل، وإنما يحكم بالتعبد فيما لا تظهر فيه مناسبة.
ثالثًا: العمومات الدالة على العمل بالقياس؛ فإنها تفيد أن هذه الشريعة مبناها على التعليل، وإدراك المناسبات حتى يمكن إلحاق النظير بنظيره.
القول الثاني: أن الغالب في أحكام الشريعة التعبد، وأن التعليل فيها قليل.
وهو المشهور عند الشافعية، وعلى هذا المذهب طائفة من السلف([3]).
واستدلوا بالآتي([4]):
أولاً: أن الموجب للامتثال إنما هو صيغة الأمر والنهي لا العلة.
ثانيًا: أن الالتفات إلى التعليل يضعف الانقياد، وذلك أن من لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادًا للأمر، وأقل درجاته أن يضعف انقياده له.
ولهذا كانت طريقة بعض السلف عدم التعرض لعلل التكاليف؛ خشية هذا المحذور.
وقد ورد في بعض الآثار: "يا بني إسرائيل لا تقولوا: لِم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا؟"([5]).
3- الرأي الراجح ودليل الترجيح
يظهر لي أن الراجح في هذه المسألة هو ما اختاره الإمام الشاطبي، وهو: "التفرقة بين العبادات والعادات، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني، والعكس في البابين قليل"([6]).
ومستند هذا الترجيح أمران:
أولهما: أن في هذا القول جمعًا بين أدلة الفريقين، كما أن فيه توفيقًا بين القولين.
وثانيهما: أن الشاطبي قد اعتمد في اختيار هذا الرأي على استقراء الشريعة وتتبُع نصوصها وأحكامها([7]) .
وبيان ذلك على النحو الآتي:
أما أمور العبادات فمما يدل على أن الأصل فيها الالتفات إلى التعبد دون التعليل:
أن الصلوات خُصَّت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات.
وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب، وفي هيئة أخرى غير مطلوب.
وأن طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره، وأن التيمم وليست فيه نظافة حسية، يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر.
وهكذا سائر العبادات كالصوم والحج وغيرهما.
فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه الوقوف عند ما حُدَّ دون التعدي إلى غيره؛ لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات فكان أصلا فيها.
فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبني عليه وركنًا يلجأ إليه.
وأما أمور العادات فمما يدل على أن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني والتعليل، دون التعبد:
أنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد، وأن الأحكام العادية وجدناها تدور مع المصلحة حيثما دارت؛ فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز.
فمن أمثلة ذلك: أن الدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض.
ومن ذلك: نهيه عن الخذف([8])، وتعليل ذلك بأنه: «يفقأ العين ويكسر السن»([9]) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»([10]) .
وفي القرآن: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [المائدة: 91] إلى غير ذلك مما لا يحصى.
وجميعه يشير بل يصرِّح باعتبار المصالح للعباد، وأن الإذن دائر معها أينما دارت؛ فدل ذل على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني.
4- أثر الخلاف وثمرته
انبني على هذه المسألة ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: محل القياس في الأحكام الشرعية؛ حيث يسوغ إجراء القياس في الأحكام المعللة على وجه الخصوص دون الأحكام التعبدية، وهذا أمر واضح.
وأما ما كان من الأحكام مترددًا بين كونه تعبديًا أو معللا فهذا محل نظر وهو يفتقر إلى اجتهاد وترجيح.
قال الطوفي: "الأحكام إما غير معلل كالتعبدات، أو معلل كالحجر على الصبي لضعف عقله حفظًا لماله، أو ما يتردد في كونه معللاً أو لا، كقولنا: استعمال التراب في غسل ولوغ الكلب هل هو تعبد أم معلل؟
وخرج على ذلك الخلاف في قيام الأشنان والصابون الغسلة الثامنة مقامه:
إن قلنا: هو تعبد، لم يقم غيره مقامه، وإن قلنا: معلل بإعانة الماء على إزالة أثر الولوغ؛ قام ذلك مقامه لوجود معنى الإزالة.
وكذلك إن قلنا: هو تعبد؛ كفى بالتراب مُسمَّاه، وإن لم يعم أجزاء محل الولوغ، وإن قلنا: هو معلل؛ اشترط تعميمه به؛ عملا بمقتضى التعليل.
وكذلك غسل اليد عند الوضوء، وعند القيام من النوم إن قيل: هو عبادة، وجبت له النية، وإن قيل: نظافة لم يجب، ونظائر هذا كثير.
وبالجملة لا نقيس إلا حيث فهمنا المعنى ووجدت شروط القياس: فأما كون هذه المسألة الخاصة معللة أو غير معللة؛ فتلك مسألة أخرى خارجة عما نحن فيه يثبت فيها من الحكم بالتعبد أو التعلل ما قام عليه الدليل([11]) .
القاعدة الثانية: أن الأصل في العبادات المنع والحظر، وذلك بناء على أن الأحكام الشرعية في باب العبادات مبناها على التعبد والوقوف على ما حدَّه الشارع.
القاعدة الثالثة: أن الأصل في العادات الحل والإباحة وهذا مبني على أن الأصل في الأحكام الشرعية في باب العادات التعليل والالتفات إلى المعاني.
وقد أشار الشاطبي إلى ابتناء هاتين القاعدتين على هذين الأصلين؛ حيث قرر أن الأصل في العبادات التعبد وفي العادات التعليل ثم قال: "وإذا ثبت هذا فمسلك النفي متمكن في العبادات ومسلك التوقف متمكن في العادات"([12]) .
معنى القاعدة
وفي هذا الفصل مطلبان:
المطلب الأول: المعنى الإفرادي للقاعدة.
المطلب الثاني: المعنى الإجمالي للقاعدة.
([1])انظر: شرح التلويح (2/64)، وشرح الكوكب المنير (4/151، 152).
([2])انظر: البحر المحيط (5/208)، وشرح الكوكب المنير (4/152).
([3])انظر: شرح التلويح (2/64)، ومدارج السالكين (2/519)، وشرح الكوكب المنير (4/151، 152).
([4])انظر: مدارج السالكين (2/519)، وشرح الكوكب المنير (4/152).
([5])مدارج السالكين (2/519).
([6])الموافقات (2/396).
([7])انظر: الموافقات (2/300-306).
([8])الخذف: هو رمي الحصاة ونحوها بطرفي الإبهام والسبابة. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/16)، والمصباح المنير ص(165).
([9])رواه البخاري (10/599) برقم (6220)، ومسلم برقم (1547).
([10])رواه ابن ماجة (2/784) برقم (2341) والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/443) برقم (250).
([11])شرح مختصر الروضة (3/275).
([12])الموافقات (2/396).
المعنى الإفرادي للقاعدة
وفي هذا المطلب ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: معنى الأصل:
الأصل في اللغة: يطلق على عدة معان متقاربة، فيطلق على([1]):
1- ما يبنى عليه غيره.
2- ما مِنه الشيء، وأصل الشيء؛ أي: مادّته؛ كالوالد للولد والشجرة للغصن.
3- ما يستند وجود الشيء إليه.
4- المحتاج إليه.
وفي الاصطلاح: يطلق الأصل على معان عدة فمنها([2]) :
1- الصورة المقيس عليها، على الخلاف المعروف في القياس في تفسير الأصل، وذلك ما يقابل الفرع.
2- الرجحان؛ كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، أي: الراجح عند السامع هو الحقيقة لا المجاز.
3- الدليل؛ كقولهم: أصل هذه المسألة من الكتاب والسنة، أي: دليلها، ومنه أصول الفقه، أي: أدلته.
4- القاعدة المستمرة؛ كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل، ومنه قولهم: الأصل في الأبضاع التحريم، أي القاعدة المستمرة والحكم المطرد في الأبضاع التحريم، ومثله قولهم: الأصل في العادات الحِل.
وهذا الإطلاق هو المراد في هذا المقام؛ فقولهم: "الأصل في العبادات المنع" معناه: أن القاعدة المستمرة في العبادات هي المنع.
المسألة الثانية: معنى العبادة:
وفي هذه المسألة ثلاث نقاط.
أولاً: معنى العبادة في اللغة([3]).
العبادة في اللغة: الانقياد والخضوع والذل والطاعة.
يقال: عَبَدَ الله عبادة وعبودية انقاد له وخضع وذلَّ.
وتعبَّد: انفرد بالعبادة، والعابد: الموحِّد، وجميع ما ذكر في القرآن من العبادة فالمراد به التوحيد.
والعبودية أقوى من العبادة؛ لأنها الرضا بما يفعل الرب، والعبادة: فعل ما يرضي الرب، والعبادة تسقط في العقبى، والعبودية لا تسقط.
ثانيًا معنى العبادة في الاصطلاح:
لأهل العلم في تعريف العبادة كلمات جامعة فمن ذلك:
1- تعظيم الله وامتثال أوامره([4]).
2- اسم لما يكون المرء بمباشرته مطيعًا لربه([5]).
3- ما أمر به الشارع من غير اطراد عُرفي، ولا اقتضاء عقلي([6]).
4- فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيمًا لربه([7]).
5- الأفعال الواقعة على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع المتجاوز لتذلل بعض العباد لبعض([8]).
6- اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ([9]) .
وهذا التعريف لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أحسن التعريفات وأوعاها.
ونستخلص من هذه الكلمات أن العبادة لا بد أن يجتمع فيها أمران([10]):
أولهما: الطاعة والخضوع، وهذا يتحقق بالالتزام بما شرعه الله وأمر به.
والثاني: أن يصدر هذا الامتثال مع المحبة للمعبود جل شأنه.
قال ابن القيم: "العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع.
والعرب تقول: طريق مُعبَّد، أي مذلل، والتعبد: التذلل والخضوع؛ فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدًا له حتى تكون محبًا خاضعًا"([11]).
ثالثًا: أقسام العبادة:
تنقسم العبادة إلى قسمين([12]):
القسم الأول: العبادات المحضة، وهي الطاعات من الواجبات والمندوبات، وهذا النوع من العبادات لا يمكن للعقول أن تهتدي إلى تفاصيلها، وإنما سبيل الوقوف عليها هو الشرع؛ كالصلاة والصيام، والحدود وأنصبة المواريث.
ثم إن العبادات المحضة منها ما يمكن للعقل إدراك علته، ومنها ما لا تدرك علته، وهو ما يسمى بالأمور التعبدية، "ومثالها: تحديد أعداد الركعات في الصلوات الخمس، وتحديد مقادير الأنصبة في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقادير ما يجب فيها، ومقادير الحدود والكفارات، وفروض أصحاب الفروض في الإرث"([13]).
القسم الثاني: العبادات غير المحضة: وضابطها: أنها فعل ذو وجهين؛ إذ يتصور فعلها دون قصد التعبد لله، بل على جهة الاعتياد ونحوه، كما يتصور فعلها على جهة التعبد، فهي إذن كل فعل يتقرب به إلى الله تعالى من غير الطاعات المأمور بها شرعًا.
وإنما يتصور ذلك شرعًا إذا اقترن مع الإتيان بهذه العادة نية صحيحة، أو كانت وسيلة إلى العمل الصالح وعونًا عليه.
مثال ذلك: ما ورد في قوله -تعالى-: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة: 120].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في فِيِّ امرأتك»([14]).
فمن هذا الوجه دون غيره، يصح شرعًا التقرب إلى الله بفعل العادات.
ويجمع ذلك قاعدتان:
أولاهما: قاعدة: (الأمور بمقاصدها)([15]) .
وثانيهما: قاعدة: (للوسائل أحكام المقاصد)([16]) .
وبهذا النظر يسوغ التقرب إلى الله بجميع الأفعال والتروك.
فصارت الأقسام ثلاثة:
1- عبادات محضة، وهي معقولة المعنى.
2- عبادات محضة، وهي غير معقولة المعنى.
3- عبادات غير محضة.
التنبيه الأول: المراد بالعبادات في هذه القاعدة: التقرب إلى الله بفعل جميع العبادات، وذلك أن (ال) في لفظ العبادات للجنس؛ فيكون اللفظ للاستغراق؛ فيشمل العبادات المشروعة وغير المشروعة؛ فما ثبت في الشرع كونه عبادة فهذا النوع مستثنى من حكم المنع، باق بعد الاستثناء؛ إذ هو مأذون فيه، كما دل على ذلك قولهم: "الأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله".
وأما ما لم يثبت في الشرع كونه عبادة فهذا النوع يمنع المكلف من فعله، بل هو باطل مردود؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»([17]) .
وهذه القاعدة مع اختصارها وقلة ألفاظها دلت على النوعين معًا:
الأول: أن من تعبد الله بما شرعه -سبحانه- فعبادته مشروعة مأذون فيها.
والثاني: أن من تعبد الله بما لم يشرعه -سبحانه- فعبادته باطلة مردودة.
التنبيه الثاني: الفرق بين العبادة والطاعة([18]): الطاعة هي الانقياد، وهي الموافقة للأمر، وهي أعم من العبادة؛ لأن العبادة غلب استعمالها في تعظيم الله غاية التعظيم، بخلاف الطاعة فإنها تستعمل لموافقة أمر الله وأمر غيره، وتجوز الطاعة لغير الله في غير المعصية، ولا تجوز العبادة لغير الله تعالى.
والعبادة أخص من الطاعة؛ لأنه يعتبر فيها النية.
قال في "المصباح المنير": "منعته الأمر ومن الأمر منعًا فهو ممنوع منه محروم"([19]).
وهذا ما دلت عليه -كما سيأتي- ألفاظ القاعدة؛ إذ ورد: (الأصل في العبادات الحظر)، وورد أيضًا: (الأصل في العبادات البطلان).
وهذه الألفاظ كلها تدل على معنى واحد؛ إذ العبادة التي لم يأت بها الشرع محرمة ممنوعة، ثم إن وقعت فإنها تقع باطلة مردودة، فحكمها يدور بين المنع والحظر والبطلان والرد، وهذا ما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
([1])انظر: نهاية السول (1/18)، والبحر المحيط (1/10)، والمصباح المنير ص(16)، وشرح الكوكب المنير (1/39).
([2])انظر: نهاية السول (1/18، 19)، والبحر المحيط (1/10)، وشرح الكوكب المنير (1/39).
([3])انظر: الكليات ص(650)، والمعجم الوسيط ص(579).
([4])التوقيف على مهمات التعاريف (498).
([5])أصول السرخسي (1/83).
([6])التحبير شرح التحرير (2/1001).
([7])التعريفات ص(146).
([8])التوقيف على مهمات التعاريف ص(498).
([9])مجموع الفتاوى (10/149).
([10])انظر: العبادات في الإسلام ص(32-34).
([11])مدارج لسالكين (1/85).
([12])انظر الفروق (1/269-270)، والموافقات (2/300) فما بعدها ص(396)، والاعتصام (2/73-98).
([13])علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص(62).
([14])أخرجه البخاري (8/109) برقم (4409).
([15])انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص(8).
([16])انظر: شرح تنقيح الفصول ص(449)، والفروق (2/451)، وإعلام الموقعين (3/135)، والقواعد والأصول الجامعة ص(13-19).
([17])أخرجه البخاري (5/301) برقم (2697) ومسلم برقم (1718) واللفظ له.
([18])انظر: الكليات ص(583).
([19])المصباح المنير (2/580).
المعنى الإجمالي للقاعدة
يمكن بيان معنى قاعدة: (الأصل في العبادات المنع) إجمالا بأن يقال:
الحكم المستصحب والأصل المطرد في التقرب إلى الله هو: المنع والحظر، والرد والبطلان، إلا ما جاء به الشرع وأذن فيه من العبادات فإنه لا يأخذ حكم المنع، كما قال -سبحانه-: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أي: مردود باطل.
وتوضيح ذلك: أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بما شرع، وهذا مقتضى توحيد الله والإيمان به، وهو توحيد الاتباع، وهو أحد شرطي العمل الصالح؛ إذ لا بد لقبول العمل من شرطين: الإخلاص والمتابعة.
فهذه القاعدة تختص بالشرط الثاني، وهو شرط المتابعة.
فمن ادعى عبادة من العبادات طولب بإقامة الدليل على ثبوت هذه العبادة، وهذا الدليل لا بد أن يكون نصًا من الكتاب أو السنة.
قال ابن تيمية: "والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد ولها أصلان:
أحدهما: ألا يعبد إلا الله، والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع، لا بغير ذلك من البدع.
قال -تعالى-: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *﴾ [الكهف: 110]، وقال -تعالى-: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 112]، وقال -تعالى-: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: 125].
فالعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات، والحسنات هي: ما أحبه الله ورسوله وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب.
فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة فإن الله لا يحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح، كما أن من يعمل ما لا يجوز كالفواحش والظلم ليس من الحسنات ولا من العمل الصالح.
وأما قوله: ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *﴾، وقوله: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ فهو إخلاص الدين لله وحده، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا"([1]).
وقال الفضيل بن عياض في قوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك:2 ] قال: "أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: "إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة"([2]).
تنبيهات:
التنبيه الأول: قولهم: "الأصل في العبادات المنع" فيه اختصار، وهو يحتاج إلى إكمال؛ فيقال: "الأصل في العبادات المنع إلا ما شرعه الله"، وهذا ما دلت عليه ألفاظ أخرى للقاعدة كما سيأتي.
التنبيه الثاني: قوله "الأصل في العادات الحل" فيه اختصار أيضًا، فيحتاج إلى إكمال؛ فيقال: "الأصل في العادات الحل إلا ما حرمه الله".
التنبيه الثالث: من مجموع القاعدتين بعد إكمالهما يتضح المعنى بصورة جلية، فيقال: "الأصل في العبادات المنع إلا ما شرعه الله، كما أن الأصل في العادات الحل، إلا ما حرمه الله".
ومعنى هذا: أن الأفعال التي يتقرب بها إلى الله محصورة، وهي مقصورة على مصدر واحد، فهي إنما تؤخذ من الشرع وحده، فلا يجوز لأحد أن يتعبد الله بما لم يشرعه سبحانه.
وما عدا ذلك من الأفعال العادية فهي باقية على أصلها وهو الحل والإباحة؛ فلا يجوز لأحد أن يحرم شيئًا منها.
التنبيه الرابع: أن العمل بهاتين القاعدتين مستند إلى العمل بدليل الاستصحاب، وهو المعبر عنه أحيانًا بقاعدة: (اليقين لا يزول بالشك)([3]) .
وهذا يقتضي في باب العبادات الحكم بانتفاء جميع العبادات ومنعها؛ استبقاء للأصل، وهو عدم مشروعيتها، ويقتضي أيضًا في باب العادات الحكم بحل جميع العادات والإذن فيها؛ استبقاء للأصل، وهو جواز الإقدام عليها.
هذا هو حكم الاستصحاب وهو البقاء على الأصل، ولما كان هذا الأصل متيقنًا كان التمسك بالأصل تمسكًا باليقين وعملا به.
ثم إن شرط الأخذ بالاستصحاب الذي هو التمسك بالأصل واستبقاؤه ألا يرد ناقل عن هذا الأصل ومزيل لحكمه.
التنبيه الخامس: في العمل بهذه القاعدة يظهر جليًا سعة هذه الشريعة وإحاطتها بأفعال المكلفين وتروكهم؛ إذ الشرع: ما شرعه الله، والحرام: ما حرمه الله.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله – عز وجل- فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء -رحمة لكم من غير نسيان- فلا تبحثوا عنها »([4]) .
([1])مجموع الفتاوى (10/172).
([2])مجموع الفتاوى (10/172، 174).
([3])انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص(50).
([4])أخرجه الدارقطني في سننه (4/183) برقم (42) من كتاب الرضاع، والحديث حسَّنه النووي في الأربعين النووية، الحديث الثلاثون.
توثيق القاعدة
وفي هذا الفصل أربعة مطالب:
المطلب الأول: صيغ القاعدة.
المطلب الثاني: القواعد الأصولية والفقهية ذات الصلة بالقاعدة.
المطلب الثالث: أدلة القاعدة.
المطلب الرابع: سياق كلام أهل العلم حول القاعدة.
صيغ القاعدة
قد يعبر عن هذه القاعدة بقولهم: (الأصل في العبادات المنع والحظر إلا ما جاء به الشارع) ([1]) أو (الأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)([2]).
وهذ الألفاظ يفسر بعضها بعضًا؛ فإن من ادعى عبادة طولب بإقامة الدليل على ثبوت هذه العبادة كما قال -سبحانه-: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
ومن هنا يقول الجنيد -رحمه الله تعالى-: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه"([3]).
وربما يعبر عن القاعدة بقولهم: (الأصل في العبادات التوقيف)([4]) بمعنى أن إثبات العبادة يحتاج ولا بد إلى نص.
والتوقيف قد يراد به- وهو الغالب- النص الخاص المعين، وقد يراد به مطلق الدليل الشرعي؛ خاصًا كان أو عامًا.
فما استند من العبادات إلى توقيف فهو عبادة مشروعة، وما سوى ذلك من العبادات فهو عبادة باطلة مردودة، كما دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
وهذا معنى قولهم: (العبادات توقيفية) ([5])، يعني أن العبادات في الشرع لا تؤخذ ولا تثبت بطريق الرأي والاجتهاد، وإنما تؤخذ من جهة الوحي المجرد.
([1])انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/269)، والقواعد والأصول الجامعة ص(29).
([2])إعلام الموقعين (1/344).
([3])مدارج السالكين (3/126).
([4])الفتاوى الكبرى (4/12، 13)، ومجموع الفتاوى (29/17).
([5])انظر: التحقيق والإيضاح ص(64).
القواعد الأصولية والفقهية
ذات الصلة بالقاعدة
أولاً: دليل الاستصحاب:
القول بأن الأصل في العبادات المنع مبني على دليل الاستصحاب.
ويسمى استصحاب البراءة الأصلية، أو استصحاب دليل العقل، أو استصحاب العدم الأصلي.
ومعناه عند الأصوليين: "أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل، وهو معنى قولهم: الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل، فمن ادعاه فعليه البيان"([1]).
وذلك أن الأصل في الأحكام الشرعية بقاؤه على النفي الأصلي المستفاد من استصحاب دليل العقل، وهذا هو معنى أن الأصل فيها هو المنع والحظر، حتى يأتي دليل مغير لهذا الأصل وناقل عنه.
وهذا الناقل بالنسبة لاستصحاب المنع في باب العبادات إنما هو الدليل المثبت للمشروعية.
مثال ذلك: أن الأصل في الاجتماع للصلاة عند الكسوف هو المنع والحظر، إلا أن فِعله صلى الله عليه وسلم ذلك نقل حكم صلاة الكسوف من المنع والحظر إلى الإذن والمشروعية.
ثانيًا: قاعدة: اليقين لا يزول بالشك([2]):
هذه القاعدة إحدى القواعد الفقهية الكبرى، ومعناه: أن الأمر المتيقن يتعين الحكم باستدامته وبقائه، ولا يجوز تركه بأمر مشكوك فيه، وإنما يترك اليقين بدليل قاطع أو ظن غالب معتبر.
وقد أفادت قاعدة: (الأصل في العبادات المنع) أن الأصل المتيقن هو انتفاء العبادة وعدم ورودها في الشرع ما لم يأت الدليل المزيل لهذا اليقين، وهذا الدليل إنما هو نصوص الكتاب والسنة.
ثالثًا: قاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان([3]) : هذه القاعدة متفرعة عن القاعدة الكبرى: (اليقين لا يزول بالشك)، وذلك أن الأصل المتيقن في الأحكام الشرعية بقاؤها على النفي الأصلي المستفاد من استصحاب دليل العقل، حتى يأتي دليل مغير لهذا الأصل وناقل عنه.
رابعًا: قاعدة الأصل في العادات الحل([4]) :
يقابل قاعدة: (الأصل في العبادات المنع): قاعدة أخرى في باب العادات والمعاملات، ألا وهي قاعدة: (الأصل في العادات الحل).
قال ابن تيمية: "الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا﴾ [يونس: 59].
وقال أيضًا: فالأصل في العبادات ألا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات لا يحظر منها إلا ما حظره الله"([5]).
وقال ابن القيم: "كما أن الأصل في العبادات البطلان إلا ما شرعه الله ورسوله، وعكس هذا: العقود والمطاعم؛ الأصل فيها الصحة والحل إلا ما أبطله الله ورسوله وحرمه"([6]).
وقال أيضًا: "فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم"([7]) .
ومن الأدلة على أن الأصل في العادات الحل ما يأتي:
1- قوله -تعالى-: ﴿الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾[البقرة: 29].
2- قوله -سبحانه-: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا﴾[يونس: 59]([8]) .
3- قال الله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ *﴾ [المائدة: 101، 102].
قال ابن القيم: "ولم ينقطع حكم هذه الآية، بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله"([9]) .
4- قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله – عز وجل- فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء -رحمة لكم من غير نسيان- فلا تبحثوا عنها»([10]) .
5- قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته»([11]) .
6- قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرًا فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلا قوله -تعالى-: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا﴾ [الأنعام: 145]" ([12]) .
([1])البحر المحيط (6/17).
([2])انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص(50).
([3])انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص(51).
([4])انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص(60).
([5])مجموع الفتاوى (29/17).
([6])اقتضاء الصراط المستقيم (1/269).
([7])أحكام أهل الذمة (2/715).
([8])إعلام الموقعين (1/344).
([9])إعلام الموقعين (1/71، 72)، وانظر منه: (1/58)، وتفسير ابن كثير (2/109)
([10])أخرجه الدارقطني في سننه، وقد تقدم في ص(39).
([11])رواه البخاري (13/264) برقم (7289) واللفظ له، ومسلم برقم (2358).
([12])رواه أبو داود (3/354) برقم (3800)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
انظر: المستدرك (4/115)، وقد رواه مرفوعًا ابن ماجة في سننه (1/1117) برقم (3367)، والترمذي (4/220) برقم (1726)، وقال: "حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه"، وقال: "وكأن الحديث الموقوف أصح".
أدلة القاعدة
لقد تكاثرت الأدلة الدالة على أن الأصل في العبادات المنع، وتنوعت جهات الاستدلال عليها، بل إنها بلغت مبلغ التواتر المعنوي.
حيث تضافرت على تقرير هذه القاعدة: نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأقوال الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين وأئمة الهدى والدين.
كما دلت عليها طائفة من القواعد الشرعية ومقاصد التشريع.
وبهذا النظر فإن ثبوت هذه القاعدة بات ضرورة شرعية لا محيد عنها، وأمرًا معلومًا من الدين بالضرورة.
وإليك فيما يأتي شذرات يسيرة من هذه الأدلة:
أولاً: الأدلة الدالة على أن الحكم والتشريع لله وحده؛ إذ لا يجوز إثبات حكم شرعي بغير الأدلة الشرعية التي جعلها الله طريقًا لمعرفة أحكامه وهذا أصل عظيم من أصول هذا الدين([1]).
قال ابن تيمية: "… فلهذا كان دين المؤمنين بالله ورسوله أن الأحكام الخمسة: الإيجاب، والاستحباب والتحليل، والكراهية، والتحريم، لا يؤخذ إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله"([2]).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه، كفر بواح لا نزاع فيه.
وقد دل القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده:
قوله -تعالى-: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف: 40]، وقوله -تعالى-: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ [يوسف: 67]، وقوله -تعالى-: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: 57]، وقوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، وقوله -تعالى-: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26]، وقوله -تعالى-: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *﴾ [القصص: 88]، وقوله -تعالى-: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70]، والآيات بمثل ذلك كثيرة"([3]).
ثانيًا: الأدلة الدالة على وجوب اتباع الوحي، والعمل بالنصوص، والاعتصام بالكتاب والسنة، بل إن هذا مقتضى توحيد الله والإيمان به:
قال ابن تيمية: "وجماع الدين أصلان: ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع.
كما قال -تعالى-: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *﴾ [الكهف: 110]، وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله؛ ففي الأولى: أن لا نعبد إلا إياه، وفي الثانية: أن محمدًا هو رسوله المبلغ عنه فعلينا أن نصدق خبره ونطيع أمره"([4]) .
وقال ابن القيم: "إذا عرف هذا فلا يكون العبد متحققًا بـ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: 4] إلا بأصلين عظيمين:
أحدهما: متابعة الرسول.
والثاني: الإخلاص للمعبود: فهذا تحقيق إياك نعبد"([5]).
وقال شارح الطحاوية: "… فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما، توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول فلا نحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غيره"([6]).
والأدلة على ذلك لا تكاد تحصر فمن ذلك:
1- قوله -تعالى-: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ [الأعراف: 3].
2- قوله: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 32].
3- قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ [النساء: 59].
4- قصة الرهط الثلاثة، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه قال-: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»"([7]).
5- أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- دخل على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم فقال: "ما لها لا تكلم؟" قالوا: حجَّت مصمته. قال لها: "تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية" فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: "امرؤ من المهاجرين" قالت: أي المهاجرين؟ قال: "من قريش" قالت: من أي قريش أنت؟ قال: "إنك لسؤول، أنا أبو بكر"([8]) .
وقد علق ابن تيمية على هذا الأثر فقال: "ومعنى قوله: "من عمل الجاهلية" أي مما انفرد به أهل الجاهلية، ولم يشرع في الإسلام.
فيدخل في هذا: كل ما اتُخذ عبادة مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به، ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام"([9]).
ثالثًا: الأدلة الدالة على تحريم القول على الله بغير علم:
فمن ذلك:
1- قوله -تعالى-: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116].
2- وقال -سبحانه-: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: 59].
3- وقال -تعالى-: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
4- وقال -سبحانه-: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]
5- قال الشافعي: "لا أعلم أحدًا من أهل العلم رخَّص لأحد من أهل العقول والآداب في أن يفتي ولا يحكم برأي نفسه إذا لم يكن عالمًا بالذي تدور عليه أمور القياس من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، لتفصيل المشتبه"([10]).
6- وقال ابن قدامة: "نعلم بإجماع الأمة قبلهم على أن العالم ليس له الحكم بمجرد هواه وشهوته من غير نظر في الأدلة"([11]).
7- وقد خصص ابن القيم فصلا لهذه المسألة في كتابه القيم "إعلام الموقعين" فقال: "ذكر تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وذكر الإجماع على ذلك"([12]).
رابعًا: الأدلة الدالة على ذم الابتداع في الدين، فمن ذلك ([13]) :
1- قول الله -تعالى-: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 153].
فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة، والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين على الصراط المستقيم وهم أهل البدع.
وعن مجاهد في قوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ قال: "البدع والشبهات".
2- قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [الأنعام: 159].
قال ابن عطية: "هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام".
3- حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية لمسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».
هذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام؛ لأنه جمع وجوه المخالفة لأمره صلى الله عليه وسلم ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية.
4- حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: "صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله؟ كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولي الأمر وإن كان عبدًا حبشيًا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»"([14]) .
5- قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"([15]) .
([1])انظر: إعلام الموقعين (1/50، 51)، وأضواء البيان (7/162، 173).
([2])مجموع الفتاوى (22/226).
([3])أضواء البيان (7/48).
([4])مجموع الفتاوى (10/234).
([5])مدارج السالكين (1/83).
([6])شرح العقيدة الطحاوية ص(217).
([7])أخرجه البخاري (9/104) برقم (5063).
([8])أخرجه البخاري (7/147) برقم (3834).
([9])اقتضاء الصراط المستقيم (1/327).
([10])إبطال الاستحسان (37).
([11])روضة الناظر (1/409، 410).
([12])إعلام الموقعين (2/184)، وانظر (1/83، 44) منه.
([13])انظر الاعتصام (1/53، 89).
([14])أخرجه أبو داود في سننه واللفظ له (4/201) برقم (4607)، وابن ماجة (1/15) برقم (42)، والترمذي (5/44) برقم (2676)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والحديث صححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم ص(17) برقم (27).
([15])أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها ص(17)، واللالكائي في أصول السنة (1/86)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/327)، والبغوي في شرح السنة (1/214).
سياق كلام أهل العلم حول القاعدة
قال ابن تيمية: "تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم.
فاستقراء أصول الشريعة أن العبادات التي أوجبها الله أو أباحها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه.
والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله ورسوله.
وذلك لأن الأمر والنهي مما شرع الله تعالى، والعبادة لا بد أن تكون مأمورًا بها، فما لم يثبت أنه مأمور كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟ وما لم يثبت من العادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟
ولهذا كان أصل أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله -تعالى- وإلا دخلنا في معنى قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
والعبادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا﴾ [يونس: 59].
ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *﴾ [الأنعام: 136-138] فذكر ما ابتدعوه من العبادات والتحريمات"([1]) .
وقال ابن القيم: "ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثَّم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دينًا إلا ما شرعه الله.
فالأصل في العبادات البطلان: حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم.
والفرق بينهما: أن الله -سبحانه- لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله؛ فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو، ورضي به وشرعه.
وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله -سبحانه- على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو -سبحانه- لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله؛ فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو"([2]) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: "القاعدة السادسة: الأصل في العبادات الحظر؛ فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله.
والأصل في العادات الإباحة؛ فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله.
وهذه القاعدة تضمنت أصلين عظيمين، ذكرهما الإمام أحمد وغيره من الأئمة، ودل عليهما الكتاب والسنة في مواضع؛ مثل قوله -تعالى- في الأصل الأول: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
وبيان ذلك أن العبادة هي ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فكل واجب أوجبه الله ورسوله أو مستحب فهو عبادة يعبد الله به وحده ويدان الله به.
فمن أوجب أو استحب عبادة لم يدل عليها الكتاب ولا السنة فقد ابتدع دينًا لم يأذن الله به، وهو مردود على صاحبه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» متفق عليه.
وتقدم أن من شروط العبادة: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن البدع من العبادات، إما أن يشرِّع عبادة لم يشرع الله ورسوله جنسها أصلا، أو شرعها الله ورسوله على صفة أو في زمان أو مكان مخصوص، ثم غيرها المغير إلى غير تلك الصفة.
كمن أوجب صلاة أو صومًا أو غيرهما من العبادات بغير إيجاب من الله ورسوله.
أو ابتدع مبتدع الوقوف بعرفة أو مزدلفة أو رمي الجمار في غير وقتها.
أو استحب مبتدع عبادة في وقت من الأوقات أو مكان من الأمكنة بغير هدى من الله وحجة شرعية.
والله تعالى هو الحاكم لعباده على لسان رسوله، فلا حكم إلا حكمه ولا دين إلا دينه"([3]) .
([1])الفتاوى الكبرى (4/12، 13).
([2])إعلام الموقعين (1/344، 345).
([3])القواعد والأصول الجامعة ص(29، 30).
أثر القاعدة وتطبيقاتها
وفي هذا الفصل أربعة مطالب:
المطلب الأول: أسماء الله وصفاته توقيفية.
المطلب الثاني: ألفاظ الأذكار توقيفية.
المطلب الثالث: المنع من الغلو في الدين.
المطلب الرابع: مسائل متفرقة.
أسماء الله وصفاته توقيفية([1])
قال شهاب الدين القرافي: "الأصل في أسماء الله -تعالى- المنع إلا ما ورد السمع به… فإن مخاطبة أدنى الملوك تفتقر إلى معرفة ما أذنوا فيه من تسميتهم ومعاملتهم حتى يعلم إذنهم في ذلك، فالله -تعالى- أولى بذلك، ولأنها قاعدة الأدب والأدب مع الله تعالى متعين؛ لا سيما في مخاطباته"([2]) .
وقال ابن قيم الجوزية: "ما يطلق عليه -سبحانه- في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيًا؛ كالقديم والشيء والموجود والقائم بنفسه.
فهذا فصل الخطاب في مسألة أسمائه هل هي توقيفية أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يرِد به السمع"([3]) .
وقال الشيخ محمد العثيمين: "أسماء الله -تعالى- توقيفية لا مجال للعقل فيها.
وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة؛ فلا يزاد فيها ولا ينقص؛ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه -تعالى- من الأسماء، فوجب الوقوف في ذلك على النص؛ لقوله -تعالى-: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]"([4]).
ألفاظ الأذكار توقيفية
قال الحافظ ابن حجر: "ألفاظ الأذكار توقيفية ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فيجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به.
وهذا اختيار المازري قال: فيقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ولعله أوحي إليه بهذه الكلمات فيتعين أداؤها بحروفها"([5]).
ومن الأدلة على ذلك ما يأتي:
الدليل الأول: عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به».
قال: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت: اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت: ورسولك، قال: «لا، ونبيك الذي أرسلت»([6]).
الدليل الثاني: عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟» قال نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله لا تطيقه- أو لا تستطيعه- أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» قال: فدعا الله له فشفاه([7]) .
الدليل الثالث: عن عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه- قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: «اعرضوا عليَّ رقاكم لا بأس بالرُقى ما لم يكن فيه شرك»([8]) .
المنع من الغلو في الدين
نهى الشارع عن الغلو في العبادة بالزيادة فيها على القدر المشروع والتشدد والتنطع في الإتيان بها، بل هو بدعة ضلالة([9]).
قال ابن رجب: "إن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير، كما قال -تعالى-: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقال -تعالى-: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6]، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يسروا ولا تعسروا»([10])، وقال صلى الله عليه وسلم: «فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»"([11]) .
ومن الأمثلة على ذلك:
1- التقرب إلى الله بقيام الليل كله وترك النوم، وبصوم الدهر كله، وباعتزال النساء وترك الزواج، وقد ورد هذا في قصة الرهط الثلاثة.
2- رمي الجمار بالحجارة الكبار بناء على أنه أبلغ من الحصى الصغار([12]).
3- الوسوسة في الوضوء والغسل وتنظيف الثياب بالزيادة والإسراف، وصب الماء على المحل غير المشروع، والتنطع في ذلك والتعمق والتشديد([13]).
([1])انظر: شرح مختصر الروضة (3/447)
([2])الفروق (3/788)
([3])بدائع الفوائد (2/272)
([4])القواعد المثلى (13) وانظر منه(28).
([5])فتح الباري (11/112).
([6])أخرجه البخاري (1/97) رقم (244)، ومسلم برقم (2710).
([7])أخرجه مسلم برقم (2688).
([8])أخرجه مسلم برقم (2200).
([9])انظر مجموع الفتاوى (10/392)، والاعتصام (2/135)، وأحكام الجنائز ص(242).
([10])رواه البخاري (1/163) برقم (69)، ومسلم برقم (1734).
([11])المحجة في سير الدلجة ص(46، 47)، والحديث رواه البخاري (1/323) برقم (220).
([12])انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/288، 289).
([13])انظر: الأمر بالاتباع ص(291).
مسائل متفرقة
المسألة الأولى: هل يُصلَّى على كل ميت صلاة غائب أم لا؟
قال الشيخ ابن عثيمين جوابًا على هذا السؤال:
"في هذا خلاف بين أهل العلم: فمنهم من يقول يُصلّى على كل ميت غائب حتى أن بعضهم قال: ينبغي للإنسان في كل مساء أن يصلي صلاة الميت وينوي بها الصلاة على كل من مات من المسلمين في ذلك اليوم في مشارق الأرض ومغاربها.
وآخرون قالوا: لا يُصلى على أحد إلا من علم أنه لم يُصلى عليه.
وفريق ثالث قالوا: يُصلى على كل من كانت له يد على المسلمين من علم نافع أو غيره.
والراجح أنه لا يُصلى على أحد إلا من لم يُصلى عليه.
ففي عهد الخلفاء الراشدين مات كثير ممن كانت لهم أياد على المسلمين، ولم يصلَّ صلاة الغائب على أحد منهم، والأصل في العبادات التوقيف حتى يقوم الدليل على مشروعيتها"([1]).
المسألة الثانية: حكم تقديم الزكاة قبل وقت وجوبها([2]):
من قال من أهل العلم: إنه لا يجوز تقديم الزكاةعلى الحول فهذا مبني على أن الأصل في العبادات التوقيف، حيث رأى أنها إحدى دعائم الإسلام فوفَّاها حقها في النظام وحسن الترتيب، ولذا فقد قاسها على الصلاة، فقال: لا يجوز تقديم الزكاة على وقتها لحظة.
ورأى سائر العلماء أن التقديم اليسير فيها جائز؛ لأنه معفو عنه في الشرع بخلاف الكثير.
المسألة الثالثة: رجل صحيح الجسم ويريد أن يُحَجِّج عن نفسه فهل الحجة صحيحة؟
وقد أجابت اللجنة الدائمة للإفتاء على هذا السؤال بما يأتي:
"لا تجوز استنابة القادر على الحج في حج واجب عليه بإجماع العلماء.
قال ابن قدامة في المغني -رحمه الله-: "لا يجوز أن يستنيب في الحج من يقدر على الحج بنفسه إجماعًا"([3]). كما لا تجوز استنابته في حج نافلة على القول الصحيح؛ لأن الحج عبادة، والأصل في العبادات التوقيف، ولم يرد في الشرع فيما نعلم ما يدل على ذلك.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي لفظ «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»([4])"([5]).
المسألة الرابعة: هل يجوز قراءة الفاتحة على الموتى؟
قال الشيخ ابن عثيمين جوابًا على هذا السؤال:
"قراءة الفاتحة على الموتى لا أعلم فيها نصًا من السنة، وعلى هذا فلا تقرأ، لأن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على ثبوتها وأنها من شرع الله عز وجل.
ودليل ذلك: أن الله أنكر على من شرعوا في دين الله ما لم يأذن به الله فقال -تعالى-: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» وإذا كان مردودًا كان باطلا وعبثًا يُنزّه الله – عز وجل- أن يتقرب به إليه"([6]).
([1])فتاوى إسلامية (2/44).
([2])انظر: الجامع لأحكام القرآن (16/302).
([3])المغني (3/230).
([4])أخرجه مسلم برقم (1718).
([5])فتاوى إسلامية (2/410).
([6])فتاوى إسلامية (2/94).