الحمدُ لله الذي جعلَ لعبادِه مَواسمَ يَسْتكثرون فيها مِن القُرُبات والعملِ الصَّالح، وأَمَدَّ في آجالهم فهُم في أَبوابِ الخَيْرِ بين غادٍ ورائِح، ومِن هذه المَواسم المُبارَكات، التي على المسلمِ أنْ يَغْتنمها لِزَرْع الطَّاعات، والتَّزوُّد بالباقِيات الصَّالحات: شهر شَعبان.
وفي هذا المقال تَذْكير بفَضْل هذا الشَّهر، الذي يَغْفُل عنه كثير مِن النَّاس، كما أَخْبرنا بذلك نَبيُّنا صلى الله عليه وسلم، وهذا لِنَسْتعِدَّ له بالاجتهاد في الطَّاعة، اقْتداءً بنَبيِّنا وقُدْوتنا صلى الله عليه وسلم، وللإكثار فيه مِن الصِّيام؛ لأنَّ «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»(2).
وقَبْل الشُّروع في المَطْلوب، أُقدِّم ـ بين يدَي المَوضوع ـ ذِكْر ما قِيل في معنى هذا الشَّهر:
شَعْبان: اسمٌ للشَّهر المَعروف، الَّذي بين رَجَب ورَمَضان، وقِيل: سُمِّي (شعْبَان): لِتَشَعُّبهم فِيهِ، أَيْ: تَفَرُّقهم فِي طَلب المِيَاه(3).
وقِيل: سُمِّي كذلك: لِتَشَعُّب القبائل فيه(4)، أو لِتَشَعُّبهم في الغارات(5).
قال ثَعْلَب رحمه الله: «قال بعضهم: إنَّما سُمِّي شَعبانُ شعبانَ لأنَّه شَعَبَ، أيْ: ظهر بين شَهْرَيْ رَمضان ورَجَب»(6).
وقال ابن حجر رحمه الله: «وسُمِّي شَعبان: لِتَشَعُّبهم في طَلب المياه، أو في الغارات بعد أنْ يَخْرُج شَهْر رَجَب الحرام، وهذا أَوْلى مِن الذي قَبْله، وقِيل فيه غير ذلك»(7).
وقد يُقال ـ أيضًا ـ: إنَّه سُمِّي بذلك لِتَشَعُّب الخير فيه بالنِّسْبة للصَّائم، وهذا بِناءً على ما جاء في حديثٍ: أخرجه الرَّافعي في «تاريخه» عن أنس بن مالك رضي الله عنه مَرفوعًا: «إِنَّمَا سُمِّي شَعْبانَ؛ لأَنَّهُ يَتَشَعَّبُ فِيهِ خَيْرٌ كثِيرٌ لِلصَّائِمِ فِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّةَ»، ولكنَّ هذا الحديث لا يَثْبُت(8).
وقد اخْتَرْتُ ـ في هذا المَقال ـ بعض الأحاديث الصَّحيحة الواردة في السُّنَّة المُطهَّرة، في أبواب مُتنوِّعة، ممَّا له صِلةٌ وعَلاقة بِشَهر شَعبان، وجَعلتها تَحْت أَبْواب مُناسِبة، كما تَرْجم لها أهل الحديث أو قَريبا مِن ذلك، ثُمَّ أَتْبعتها بذِكر ما حَوَته مِن حِكَم وأَحْكام، ممَّا هو مَبْثوث في شُرُوحات أهل العِلم، وهذا على وَجْه الاختصار والإيجاز، وأَسألُ الله تعالى أنْ يَنْفع به كاتِبه وقارِئه ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون* إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيم﴾[الشعراء: 88-89].
1 ـ فَضْل لَيلة النِّصْف مِن شَعبان:
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلاَّ لاثْنَيْنِ: مُشَاحِنٍ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ»(9).
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَطْلُعُ الله إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»(10).
وعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ اطَّلَعَ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَيَغْفِرُ لِلمُؤْمِنِينَ وَيُمْلِي لِلكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ»(11).
قال الألباني رحمه الله: «وجُمْلة القَول أنَّ الحديث بمجموع هذه الطُّرق صحيح بلا ريب، والصِّحَّة تَثْبُت بأقلَّ منها عددًا، ما دامتْ سالمةً مِن الضَّعف الشَّديد، كما هو الشَّأن في هذا الحديث، فما نَقله الشَّيخ القاسمي رحمه الله في «إصلاح المساجد» (ص 107) عن أهل التَّعديل والتَّجريح: أنَّه ليس في فَضْل ليلة النِّصف مِن شعبان حديث صحيح، فليس ممَّا يَنْبغي الاعتماد عليه، ولئن كان أحدٌ منهم أَطلق مِثْل هذا القول فإنَّما أُوتي(12) مِنْ قِبَل التَّسرُّع وعَدم وسع الجُهد لِتَتبُّع الطُّرُق على هذا النَّحو الذي بين يَديك، والله تعالى هو المُوفِّق»(13).
ويَكفي هذه اللَّيلة المُباركة فَضْلا: أنَّ الله تعالى يَغْفر فيها لجميع خَلْقه إلاَّ لأهل الحِقْد والبَغْضاء والشَّحْناء، وفي هذا دَعْوة إلى العَفْو عن المُسيء والتَّجاوُز عنِ المُخْطئ، والجَزاء مِن جِنْس العَمل.
والمُشاحِن: هو المُعادي، والشَّحْناء: هي العَداوة. وقال الأَوْزاعي: «أَراد بالمُشاحِن ها هُنا: صاحِب البِدْعة، المُفارِق لجَماعة الأُمَّة» (14).
ولا يَفوتُني ـ بهذه المُناسبة ـ التَّنْبيه على أنَّه لم يَصِحَّ شَيء في فَضْل قِيام هذه اللَّيلة، إذْ كُلُّ ما ورد في ذلك لا يَسْلَم مِن ضُعْف، و ممَّا رُوي في هذا الباب: ما أَخرجه ابن ماجه (1388) والبَيْهقي في «شُعَب الإيمان» (3555) عَنْ عَلِيِّ ابنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلاَ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلاَ مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ، أَلا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ، أَلاَ كَذَا، أَلاَ كَذَا، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ»(15).
قال عليٌّ القاري رحمه الله: «واعْلَم أنَّ المَذكور في «اللَّآلي»: إنَّ مائة رَكعة في نِصف شَعْبان بـ «الإخْلاص» عَشْر مرَّات في كلِّ رَكعة مع طُول فَضْله للدَّيْلمي وغيره: مَوضوع، وفي بعض الرَّسائل، قال عليُّ بن إبراهيم: وممَّا أُحْدِث في لَيلة النِّصف مِن شَعْبان: الصَّلاة الأَلْفيَّة، مائة رَكعة بـ «الإخْلاص» عَشْرًا عَشْرًا بالجماعة، واهْتَمُّوا بها أَكثر مِن الجُمَع والأَعْياد لم يَأْتِ بها خَبَر ولا أَثَر إلَّا ضَعيف أوْ مَوضوع، ولا تَغْترَّ بِذِكر صاحب «القُوت» و«الإِحياء» وغيرهما، وكان للعَوامِّ بهذه الصَّلاة افْتِتان عظيم، حتَّى الْتَزم بسببها كَثْرة الوَقيد، وتَرتَّب عليه مِن الفُسُوق وانْتِهاك المَحارم ما يُغني عن وَصْفه، حتَّى خَشِي الأَولياء مِن الخَسْف، وهَرَبوا فيها إلى البَرَارِي»(16).
كما أُنَبِّه ـ أَيضًا ـ على عَدَم مَشْروعِيَّة تَخْصيص صَوْم يَوم لَيلة النِّصف مِن شَعبان، لِعَدم وُرُود ما يَدلُّ عليه، لذا قال المُباركفوري: «والحاصِل أنَّه ليس في صَوْم يوم لَيلة النِّصف مِن شَعبان حَديث مَرفوع صحيح أو حَسَن أو ضَعيف خَفيف الضُّعف، ولا أَثَر قَوِيٌّ أو ضعيف»(17).
2 ـ قَضاء رَمضان في شَعْبان:
ذَكرتْ أُمُّ المُؤمنين عائشة رضي الله عنهما أنَّ الأَمْر الذي كان يَمْنعها وسائِر نِساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن تَعْجيل قضاء رَمضان حتَّى يَأتي شَعبان: هو الشُّغْل مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أحاديث أَذْكُر منها ما يلي:
1 ـ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنهما تَقُولُ: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»(18).
2 ـ وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنْ كَانَتْ إِحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقْضِيَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ»(19).
3 ـ وعَنْها ـ أيضًا ـ رضي الله عنهما قَالَتْ: «مَا كُنْتُ أَقْضِي مَا يَكُونُ عَلَيَّ مِنْ رَمَضَانَ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم»(20).
«والمُراد مِن الشُّغْل: أَنَّها كانتْ مُهَيِّئة نَفْسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَرَصِّدة لاسْتِمْتاعه في جميع أَوقاتها إنْ أراد ذلك، وأمَّا في شَعْبان فإنَّه صلى الله عليه وسلم كان يَصُومه، فتَتفرَّغ عائشة لِقضاء صَوْمها… وممَّا يُسْتفاد مِن هذا الحديث: أنَّ القضاء مُوسَّع، ويَصير في شَعْبان مُضيَّقًا، ويُؤْخَذ مِن حِرْصها على القضاء في شَعْبان أنَّه لا يجوز تَأْخير القضاء حتَّى يَدخُل رَمضان، فإنْ دَخل فالقضاء واجبٌ ـ أيضًا ـ فلا يَسْقُط»(21).
وتَجْدُر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنَّ بعض العُلماء يرى أنَّ الجُملة الواردة في هذه الرِّواية الأُولى، وهي: «الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» لَيستْ مِن قَول أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنهما بل مُدْرَجة في الحديث.
قال الألباني رحمه الله: «واعْلَم أنَّ ابن القَيِّم والحافظ وغيرهما قدْ بَيَّنا أنَّ قوله ـ في الحديث ـ: «الشُّغل مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم» مُدْرَج في الحديث، ليس مِن كلام عائشة، بل مِن كلام أَحَد رُواته، وهو يحيى بن سَعيد، ومِن الدَّليل على ذلك قول يحيى في رواية لمسلم: «فَظَنَنْتُ أنَّ ذَلِكَ لِمَكَانِهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم». ولكنْ هذا لا يَخْدُج فيما ذَكرنا؛ لأنَّنا لم نَسْتدلَّ عليه بهذا المُدْرَج، بل بِقَوْلها: «فَمَا أَسْتَطِيعُ…»، والمُدْرَج إنَّما هو بيان لِسبب عَدم الاستطاعة، وهذا لا يَهُمُّنا في الموضوع، ولا أَدْري كيف خَفِي هذا على الحافظ حيث قال في ـ خاتمة شَرْح الحديث ـ: «وفي الحديث دَلالة على جَواز تَأْخير قضاء رَمضان مُطلقا سواء كان لعُذْر أو لِغَير عُذْر؛ لأنَّ الزِّيادة كما بَيَّناه مُدْرَجَة…»؟! فخَفِي عليه أنَّ عَدم اسْتِطاعتها هو العُذْر، فتَأَمَّل»(22).
3 ـ شَعْبان أَحبُّ الشُّهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يَصومه:
فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي قَيْسٍ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: «كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَصُومَهُ: شَعْبَانُ، ثُمَّ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ»(23).
فإنْ قِيل: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخُصُّ شَعْبان بكَثْرة الصِّيام فيه، في حين لم يُعرف عنه مِثل ذلك في شَهْر المُحرَّم، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم هو القائِل: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ»(24)؟
إنَّ جماعةً مِن أهل العِلم أَجابوا عن ذلك بقولهم: إنَّ أَفْضل الصِّيام ـ بعد شَهْر رَمضان ـ: شَعْبان؛ لِمُحافظته صلى الله عليه وسلم على صَوْمه أو صَوْم أكثره، ولأنَّه يَسْبِق رَمضان، فيكون صِيامه كالسُّنن الرَّواتب في الصَّلوات الَّتي تكون قَبْلها، وعليه يُحْمَل قَولُه صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ»: على التَّطَوُّع المُطْلق(25).
قال النَّووي رحمه الله: «قَولُه صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ»: تَصْريح بأنَّه أَفضل الشُّهور للصَّوْم، وقد سَبق الجواب عن إكثار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن صَوْم شَعْبان دُون المُحرَّم، وذكرنا فيه جوابين:
أحدهما: لَعلَّه إنَّما عَلِم فَضْله في آخر حَياته.
والثَّاني: لَعلَّه كان يُعْرَض فيه أَعذار مِن سَفَر أو مَرَض أو غيرهما»(26).
1 ـ فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا في شَعْبَانَ»(28).
2 ـ وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنهما حَدَّثَتْهُ قَالَتْ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ»(29).
3 ـ وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ ـ أيضا ـ رضي الله عنه قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنهما عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: «كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ صَامَ ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلًا»(30).
4 ـ وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنهما أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ كَانَ يَصُومُهُ إِلاَّ قَلِيلا بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ»(31).
وقد جَمَع بعض أهل العِلم بين هذه الأحاديث التي وَرد في بعضها: أنَّه صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ»، وبين الأُخرى التي جاء فيها: أنَّه صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلًا» بأنَّ المراد بـ «كُلِّهِ»: غالِبه؛ لأنَّ رِوايات الحديث يُفسِّر بعضها بعضًا خُصوصًا وأنَّ المَخْرَج مُتَّحِد، فأَطْلق الكُلَّ على الأكثر(32).
ورُوي عن ابن المُبارك أنَّه قال ـ في هذا الحديث ـ: «هو جائزٌ في كلام العَرب: إذا صام أكثر الشَّهر أنْ يُقال: صام الشَّهْر كُلَّه، ويُقال: قام فلانٌ لَيْله أَجْمع، ولعلَّه تَعشَّى واشْتَغل ببعض أَمْره».
وحاصِله: أنَّ رِواية: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلًا» مُفسِّرة لِرِواية: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» ومُخَصِّصة لها، وأنَّ المراد بـ «الكُلِّ»: الأَكْثر(33).
وجَمَع الطِّيبِي بينهما: بأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يَصوم شَعبان كُلَّه في وقت، ويَصوم مُعْظمه في آخر، لِئلاَّ يَتوهَّم النَّاسُ وجوبَ صِيامه كُلِّه، فيكون كرَمضان(34).
وقِيل: المراد بقولها رضي الله عنهما: «كُلَّه»: أنَّه كان يَصوم مِن أَوَّله تارةً، ومِن آخِره أخرى، ومِن أَثْنائه طَورًا، فلا يُخْلي شيئًا منه مِن صِيام، ولا يَخُصُّ بعضه بِصيام دُون بعض(35).
وقال الزَّين بن المُنَيِّر: «إمَّا أنْ يُحْمل قَوْل عائشة على المُبالغة، والمراد: الأَكثر، وإمَّا أنْ يُجْمع بأنَّ قولها الثَّاني مُتأَخِّر عن قولها الأَوَّل، فأَخبرتْ عن أوَّل أَمْره: أنَّه كان يصوم أكثره، وأَخبرتْ ـ ثانيًا ـ عن آخِر أَمْره: أنَّه كان يصومه كلَّه».
وقال الحافظ ابن حَجر ـ مُعلِّقًا على كلام ابن المُنَيِّر السَّابق ـ: «ولا يَخْفى تَكَلُّفه، والأَوَّل هو الصَّواب»(36).
ثُمَّ ساق الحافظ حديث عائشة رضي الله عنهما ولَفْظه: «وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا كَامِلًا، مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ»(37)، ويُؤيِّده ـ أيضًا ـ حديثُها المَذكور آنفًا، وفيه قَوْلها: «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا في شَعْبَانَ».
كما جُمِع بينهما ـ أيضا ـ بِحَمْل قَوْلها رضي الله عنهما: «كَانَ يَصُومُ شَعبَانَ كُلَّهُ»: على حَذْف حَرف الاستثناء والمُسْتثنى ، أيْ: إلاَّ قليلًا منه، ويَدلُّ عليه قَوْلها رضي الله عنهما ـ في رواية ـ: «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَامَ مِنْ شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ إِلاَّ قَلِيلًا»(38)، وأشبه بهذا اللَّفظ رِواية مسلم: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلًا»(39). وإنْ كان هذا يَرْجِع ـ في المعنى ـ إلى الجَمع الأَوَّل(40).
5 ـ وَصْل شَعبان برَمضان:
لقد وَرد ـ فيما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: أنَّه كان يَصِل شَعبان برَمضان، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن تَقدُّم رَمضان بصَوْم يومٍ أو يومين، فسنَذْكر ـ أوَّلًا ـ ما يُثبِت هذا الأَمْر، ثُمَّ نثنِّي بذِكْر ما يَرفع التَّعارض ويُزيل الإشْكال ـ إن شاء الله تعالى ـ:
1ـ فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلاَّ شَعْبَانَ، يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ»(41).
2ـ وعَنْها ـ أَيضًا ـ رضي الله عنهما قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ»(42).
3ـ وعَنْ رَبِيعَةَ بنِ الغَازِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنهما عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَصِلَهُ بِرَمَضَانَ»(43).
أمَّا بالنِّسْبة للجَمْع بين هذه الأحاديث الَّتي تَبْدو مُتعارضة لأَوَّل وَهْلة، فقد حَمَل العُلماء النَّهي الوارد في بعضها على مَن لم يَكن صَام شيئًا مِن شَعبان، حتَّى إذا قَرُب رَمضان أَنْشأ صِيامًا، وأمَّا غيره ممَّن كان له عادة مِن صِيام أيَّام البِيض، أو الإثْنين والخميس، أو اسْتَدام الصِّيام مِن بداية شَعبان: فلا حَرَج عليه أنْ يَصِل شَعبان برَمضان؛ لأنَّه ما أراد بذلك الاحْتِياط:
قال أبو الوليد الباجي رحمه الله: «إنَّ مَن كان في شَعبان: لم يَجُز له أنْ يَتقدَّم صِيام رَمضان بصِيام يومٍ أو يَومين، ومَن اسْتَدام الصَّوْم مِن أَوَّل شَعبان: جاز له اسْتِدامة ذلك حتَّى يَصِله برَمضان»(44).
وقال الشَّوْكاني رحمه الله: «لأنَّ ذلك جائزٌ عند المانعين مِن صَوْم يوم الشَّكِّ، لما في الحديث الصَّحيح ـ المتَّفق عليه ـ»(45).
ثمَّ ذَكر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ»(46).
6 ـ الحِكمة مِن إكثاره صلى الله عليه وسلم مِن الصِّيام في شَعبان:
عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ العَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(47).
بيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَجْه صِيامِه شَعبانَ: وذلك لأنَّ الأعمال تُرفع فيه، وهو يُحِبُّ أنْ يُرْفع عَمله وهو صائم، واخْتار الصَّوْم لفَضْله، وطَلبًا لزِيادة رِفْعة الدَّرجة، لذا كان صلى الله عليه وسلم يصوم ـ أيضًا ـ الاثنين والخميس للعلَّة السَّابقة:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(48).
وفي رواية قال: «إِنَّ الأَعْمَالَ تُرْفَعُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»(49).
ولا يُنافي رفعُ الأعمال في هذين اليومين ـ أي: الاثنين والخميس ـ رفعَها في شَعبان، لجواز رَفْع أَعمال الأُسبوع مُفصَّلة، وأَعمال العام مُجْملة(50).
وقِيل ـ أيضا ـ: تُرْفع الأعمال في شَعبان إلى الملأ الأعلى، ولا يُنافي ذلك رفع أعمال اللَّيل بعد صلاة الصُّبح، ورَفْع أعمال النَّهار بعد صلاة العصر ـ يَوميًّا ـ وكذا رَفْع الأعمال كُلَّ يوم اثنين وخميس ـ أُسبوعيًّا ـ؛ لأنَّ الأوَّل: رَفْع عامٌّ لجَميع ما يَقع في السَّنَة، والثَّاني: رَفْع خاصٌّ لكلِّ يوم وليلة، والثَّالث: رَفع لجَميع ما يقع في الأُسبوع، وكان حِكْمة تَكرير هذا الرَّفع: مَزيدٌ مِن تَشريف الطَّائعين، وتَقبيح عَمل العاصين(51).
وقال السِّنْدِي رحمه الله: «وهو شَهْر تُرْفع الأعمال فيه إلى ربِّ العالمين. قيل: ما معنى هذا مع أنَّه ثبت في «الصَّحيحين»(52): أنَّ الله تعالى يُرْفع إليه عَمل اللَّيل قَبْل عَمل النَّهار، وعَمل النَّهار قَبْل عَمل اللَّيل؟ قُلتُ: يُحْتمل أمران:
أَحدهما: أنَّ أَعمال العِباد تُعرض على الله تعالى كلَّ يوم، ثُمَّ تُعرض عليه أَعمال الجمعة في كلِّ اثنين وخميس، ثُمَّ تُعرض عليه أَعمال السَّنة في شَعبان، فتُعرَض عَرضًا بعد عَرْض، ولكُلِّ عَرْض حِكْمة، يُطْلِع عليها مَن يشاء مِن خَلْقه، أو يَستأثر بها عنده، مع أنَّه ـ تعالى ـ لا يَخْفى عليه مِن أعمالهم خافِية.
ثانيهما: أنَّ المراد: أنَّها تُعرض في اليوم تَفصيلًا، ثُمَّ في الجمعة جُمْلةً، أو بالعكس»(53).
هذا مِن جهة، ومِن جهة أُخرى فإنَّ الحِكمة مِن إكثار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن الصِّيام في شَعبان: هو أنَّ أكثر النَّاس يَغْفُل عنه، وهذا لما اكْتَنفه شَهران عظيمان، وهما شَهْر حرام ـ وهو رَجَب ـ وشَهْر الصِّيام ـ وهو رَمضان ـ فاشْتَغل النَّاس بهما، وغَفَلوا عن شَعبان، وإنَّما يَغْفُل النَّاس عَنهُ تَقَوِّيًا بِالفِطْر لرَمضان، وكُلُّ وَقْت يَغْفُل النَّاس عَنهُ يكون فَاضلًا لِقلَّة القائمين فيه بِالخِدْمَة، كما هو الأَمْر بالنِّسبة لقيام اللَّيْل وَأَشْبَاه ذَلِك(54)، لذا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ»(55).
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ ـ أَوْ لآخَرَ ـ: «أَصُمْتَ مِنْ سرَرِ شَعْبَانَ؟» قَالَ: لا، قَالَ: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ»(56).
لقد سَأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ـ عِمران بن حُصين رضي الله عنهما هل صام شيئا مِن سَرَرِ شَعبان؟ فلمَّا أجابه بالنَّفي، حَثَّه على صِيام يومين مِن شَوال بعد أنْ يُفطِر مِن رَمضان، وسَرَر الشَّهْر: آخِره، وَسُمِّي بذلك: لاسْتِسرار القمر فيها(57).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ» أيْ: مِن رَمضان، كما في رواية مسلم ولفظها: «فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ» أيْ: إذا فَرغتَ مِن صِيام رَمضان، فصُم يومين بعد العِيد عِوَضًا عن سَرَر شَعبان، وفي هذا حَضٌّ على أنْ لا يَمْضي على المُكَلَّف مِثْل شَعبان ولم يَصُم منه شيئًا، إذْ لمَّا فات السَّائلَ صَومُه: أَمَره أنْ يُعَوِّضه بغيره، وهو دليل على مَشروعيَّة قَضاء التَّطوُّع(58).
وقال القُرطبي: ويَظهر لي أنَّه إنَّما أَمَره بصيام يومين في غيره: للمَزِيَّة الَّتي يَخْتَصُّ بها شَعبان، فلا يَبْعُد في أنْ يُقال: إنَّ صَوم يومٍ منه كصَوْم يومين في غيره، ويَشهد له أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يَصوم منه أكثر ممَّا كان يَصوم مِن غيره، اغْتنامًا لمزِيَّة فضيلته»(59).
وفي هذا الحديث إشْكال ـ أيضًا ـ مٍن حيث إنَّه مُعارِض لحديث: «لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ»(60).
وقد جَمَع بَعض العُلماء بين الأحاديث المُبيحة وبين هذا الحديث النَّاهي، بأنْ خَصُّوا حديثَ النَّهي بمَن يَحْتاط ـ بزَعْمه ـ لرَمضان؛ لأنَّ صَوْم رَمضان مُرْتبِط بالرُّؤية، فلا حاجة إلى التَّكلُّف، وقد اسْتحسن الحافظ ابن حجر هذا الجمع(61).
قال الشَّيخ عبد المحسن العبَّاد: «ويكون ذلك مَحْمولًا على مَن كان له عادة، وهذا حتَّى يَتَّفق مع الأحاديث التي فيها النَّهي عن التَّقدُّم، ثُمَّ ـ أيضًا ـ لو لم يكن هناك هذا؛ فإنَّ الاحتياط هو عَدم الصِّيام؛ لأنَّ الأَخْذ بالنَّهي أَوْلى مِن الأَخْذ بالرُّخصة والإِذْن، فالإنسانُ إذا لم يَصُم: أَكْثر ما في الأَمْر أنَّه تَرك سُنَّة ولم يَتْرك واجبًا، فلا يَلْحقُه إِثم، ولكنَّه إذا صام ـ وقد جاء النَّهي ـ: فإنَّه يكون مُتعرِّضًا للإثم، فعلى الإنسانِ ألاَّ يَتعرَّض للإثم في سبيل أنْ يَفعل شيئًا هو سُنَّة، وقد جاء عَنْ عَمَّارٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم»(62) يعني: في قوله: «لاَ تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِيَومٍ أَو يَومَينِ»(63).
8 ـ النَّهي عن صِيام النِّصف الباقي مِن شَعبان:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا»(64).
وفي رواية: «إِذَا بَقِيَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلاَ تَصُومُوا»(65).
وفي أُخرى: «إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلا صَوْمَ حَتَّى يَجِيءَ رَمَضَانُ»(66).
وقد اختلفتْ آراءُ أهل العِلم في حُكم الصِّيام في النِّصف الثَّاني مِن شَهْر شَعبان على أقوال:
الأَوَّل: الكَراهة؛ لظاهر هذا الحديث، قال الشَّافعي: يُكْره التَّطوُّع إذا انتصف شَعبان، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلاَ تَصُومُوا»(67).
وقِيل: الحِكْمة مِن النَّهي عن صِيام النِّصف الثَّاني: لِيتقوَّى بذلك على صِيام الفَرْض في شَهْر رَمضان، كما كُرِه للحاجِّ الصَّوم بعَرفة لِيتقوَّى بالإفطار على الدُّعاء(68).
واعْتُرِض على مَن قال: إنَّ النَّهي لِأَجْل التَّقوِّي على صِيام رَمضان والاسْتِجمام له، بأنَّه أَبْعَد، لأنَّ نِصف شَعبان إذا أَضْعف، كان كلُّ شَعبان أَحْرى أنْ يُضْعِف، وقد جَوَّز بعض العُلماء صِيام جَميع شَعبان(69).
الثَّاني: الجواز مُطْلقًا، لمن رأى ضُعف الحديث. قال ابن حجر: «وقال جُمْهور العُلماء: يجوز الصَّوْم تَطوُّعا بعد النِّصف مِن شَعبان، وضَعَّفوا الحديث الوارد فيه، وقال أحمد وابن مَعين: إنَّه مُنْكر»(70).
واعْتُرِض على هذا: بأنَّ الحديث إسناده صحيح على شرط مُسلم، وصحَّحه جَمْعٌ مِن أهل العِلم؛ منهم: التِّرمذي وابن حبَّان، واحتجَّ به ابن حزم، وقوَّاه ابن القيِّم، وصحَّحه الألباني(71).
ومِنهم مَن زَعم النَّسْخ، بحُجَّة أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كان يَصوم في النِّصف الثَّاني مِن شَعبان، فدلَّ ذلك على أنَّ ما رواه مَنسوخ(72).
ورَدَّ ذلك ابنُ حَزم، فقال: «ولا يَجُوز أنْ يُظنَّ بأبي هريرة مُخالفة ما روى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والظنُّ أَكْذب الحديث؛ فمَن ادَّعى ـ هاهنا ـ إجْماعًا فقد كَذَب… ومَن ادَّعى نَسْخًا في خبر العَلاء فقد كَذَب، وقَفَا ما لا عِلْم له به، وبالله تعالى نَتأيَّد»(73).
الثَّالث: جَواز صِيامه لمن كانت له عادة، أيْ: وافق ذلك صَوْمًا كان يَصومه المرْء قَبْل ذلك، و ليس النَّهي عن الصَّوْم ـ في هذا الحديث ـ نَهْيًا مُطلقًا(74).
ومِنهم مَن حَمل النَّهي الوارد في هذا الحديث على مَن يُضْعِفه الصَّوم(75) أو على مَن لم يَصِله بما قَبْله، أي: لم يَصُم قَبْل نِصف الشَّهْر(76).
قال التِّرمذي: «ومعنى هذا الحديث ـ عند بعض أهل العِلم ـ: أنْ يكون الرَّجُل مُفطِرًا، فإذا بقي مِن شَعبان شيء أَخَذ في الصَّوْم لحال شَهْر رَمضان. وقد رُوي عن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يُشبِه قولهم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَقَدَّمُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِصِيَامٍ إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُم»، وقد دلَّ في هذا الحديث: أنَّما الكَراهيَّة على مَن يَتعمَّد الصِّيام لحال رَمضان»(77).
وقال ابن القيِّم رحمه الله: «قالوا: وأمَّا ظَنُّ مُعارَضته بالأحاديث الدَّالة على صِيام شَعبان، فلا مُعارضة بينهما، وإنَّ تلك الأحاديث تَدُلُّ على صَوْم نِصفه مع ما قَبْله، وعلى الصَّوم المُعتاد في النِّصف الثَّاني، وحديث العَلاَء يدُلُّ على المَنْع مِن تَعمُّد الصَّوم بعد النِّصف، لا لِعادة، ولا مُضافًا إلى ما قَبْله، ويَشهد له حديث التَّقدُّم»(78).
وقال ابن باز رحمه الله: «أمَّا الحديث الذي فيه النَّهي عن الصَّوم بعد انتصاف شعبان: فهو صحيح، كما قال الأخ العلاَّمة الشَّيخ ناصر الدِّين الألباني، والمراد به: النَّهي عن ابتداء الصَّوم بعد النِّصف، أمَّا مَن صام أَكْثر الشَّهْر، أو الشَّهر كلَّه: فقد أصاب السُّنَّة، والله وليُّ التَّوفيق»(79).
هذا ما أمكن جَمْعُه بهذه المُناسبة، فإنْ أَصبتُ فمِن الله وحده، وله الحمد والمنَّة، وإنْ كانتِ الأُخرى فمِن نَفْسي ومِن الشَّيطان، وأَسأل الله التَّجاوز والمغفرة، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
(1) نُشر في مَوْقع «راية الإصلاح».
(2) أخرجه البخاري (2840)، ومسلم (1153) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه غير أنَّ رواية مسلم فيها: «بَاعَدَ» عِوَض: «بَعَّدَ».
(3) انظر: «جَمْهرة اللُّغة» لابن دُرَيْد الأَزْدي (1/344).
(4) انظر: «الزَّاهِر في معاني كلمات النَّاس» لأبي بكر الأَنْباري (2 /356).
(5) انظر: «لسان العرب» لابن مَنْظور (1/502).
(6) «تاج العَروس مِن جواهر القاموس» لمُرْتَضى الزَّبِيدي (3/142).
(7) «فتح الباري» (4/213).
(8) بل قال عنه الألباني رحمه الله: «مَوضوع». انظر: «ضعيف الجامع» (2061).
(9) أخرجه أحمد (6642)، قال مُحقِّقو «مُسند أحمد» (11/217): «حديث صحيح بشواهده».
(10) أخرجه ابن حِبّان (5665)، قال الألباني في «السِّلسلة الصَّحيحة» (3/135): «حديث صحيح، رُوي عن جماعة مِن الصَّحابة مِن طُرق مُخْتلفة، يَشُدُّ بعضها بعضا، وهم: مُعاذ ابن جَبل، وأَبو ثَعْلبة الخُشَني، وعبد الله بن عَمْرو، وأبو مُوسى الأَشْعري، وأبو هُرَيْرَة، وأبو بكر الصِّدِّيق، وعَوْف بن مالِك، وعائِشة» رضي الله تعالى عنهم جميعًا.
(11) أخرجه البيهقي في «السُّنن الكُبرى» (1426)، والطّبراني في «المُعجم الكبير»، و الحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع» (771).
(12) هكذا في الأَصْل، ولَعلّ الصَّواب: «أُتِي» بِدُون «واو».
(13) «السِّلسلة الصَّحيحة» (3/138 ـ 139).
(14) انظر: «النِّهاية في غريب الحديث و الأثر» لابن الأثير (2/449).
(15) قال الألباني في «السِّلسلة الضَّعيفة» (5/154): «موضوع السَّند».
(16) «مِرْقاة المفاتيح شَرْح مِشْكاة المصابيح» (3/976).
(17) «مِرْعاة المفاتيح شَرْح مِشْكاة المصابيح» (4/344).
(18) أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (1146).
(19) أخرجه مسلم (1146).
(20) أخرجه التّرمذي (783)، انظر: «إرواء الغليل» للألباني (944).
(21) قاله العَيْنيّ في «عُمْدة القاري شَرْح صحيح البخاري» (11/55 ـ 56).
(22) «تمام المِنَّة في التَّعليق على فِقه السُّنَّة» (ص 442).
(23) أخرجه أبو داود (2431)، انظر: «صحيح الجامع» (4628).
(24) أخرجه مسلم (1163) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(25) انظر: «عَوْن المَعْبود شَرْح سُنن أبي داود» للعظيم آبادي (7/60).
(26) «شَرْح مسلم» (8/55).
(27) انظر: «شَرْح مسلم» للنَّووي (8/37)، و«سُبُل السَّلام» للصَّنْعاني (1/583).
(28) أخرجه البخاري (1969)، ومسلم (1156).
(29) أخرجه البخاري (1970).
(30) أخرجه مسلم (1156).
(31) أخرجه التّرمذي (737)، انظر: «صحيح التَّرغيب والتَّرهيب» للألباني (1024).
(32) انظر: «شَرْح الزَّرْقاني على المُوطَّأ» (2/290).
(33) انظر: «جامع التِّرمذي» (3/105).
(34) انظر: «نَيْل الأوطار» للشَّوكاني ( 4/291).
(35) انظر: «فَتْح الباري» لابن حجر ( 4/214).
(36) «فتح الباري» ( 4/214).
(37) أخرجه مسلم (1156).
(38) أخرجه عبد الرّزاق في «المُصنَّف» (7859)، انظر: «صحيح أبي داود الأم» للألباني (7/194).
(39) أخرجه مسلم (1156).
(40) انظر: «شَرْح الزَّرْقاني على المُوطَّأ» (2/291).
(41) أخرجه أبو داود (2336)، انظر: «صحيح سُنن أبي داود» للألباني (2024).
(42) أخرجه التِّرمذي (736)، والنَّسائي (2175)، انظر: «صحيح التَّرغيب» للألباني (1025).
(43) أخرجه ابن ماجه (1649)، انظر: «صحيح ابن ماجه» للألباني (1648).
(44) «المُنْتقى شَرْح المُوطَّأ» ( 2/206).
(45) «نَيْل الأوطار» (4/229).
(46) أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082).
(47) أخرجه النَّسائي (2357)، انظر: «صحيح التَّرغيب والتَّرهيب» للألباني (1022).
(48) أخرجه التَّرمذي (747)، انظر: «صحيح الجامع الصَّغير» (2959).
(49) انظر: «صحيح الجامع الصَّغير» (1583).
(50) انظر: «مِرْقاة المفاتيح شَرْح مِشْكاة المصابيح» لعلي القاري (4/1422).
(51) انظر: «مِرْعاة المفاتيح شَرْح مِشْكاة المصابيح» للمُباركفوري (4/338).
(52) أخرجه مسلم (179) عن أبي موسى الأشعري ت.
(53) «حاشية السِّنْدي على سُنن النَّسائي» (4/203).
(54) انظر: «شَرْح الزَّرقاني على المُوطأ» (2 /289) و«كَشف المشكل مِن حديث الصَّحيحين» لابن الجوزي (4/353).
(55) جزء مِن حديث: أخرجه التِّرمذي (2485)، وابن ماجه (1334) عن عبد الله بن سَلام رضي الله عنه انظر: «السِّلسلة الصَّحيحة» للألباني (569).
(56) أخرجه البخاري (1983)، ومسلم (1161).
(57) انظر: «شَرْح مسلم» للنَّووي (8/53) و«كَشْف المشكل من حديث الصَّحيحين» لابن الجوزي (1/475).
(58) انظر: «مِرْعاة المفاتيح شَرْح مِشْكاة المصابيح» للمُباركفوري (7/42).
(59) انظر: «شرح مسلم» للسُّيوطي (3/250).
(60) رواه البخاري (1914)، ومسلم (1082) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
(61) انظر: «فتح الباري» (4/129).
(62) أخرجه أبو داود (2334)، والتِّرمذي (686)، والنَّسائي (2188)، وابن ماجه (1645)، انظر: «صحيح سُنن أبي داود الأُم» (2022).
(63) «شَرْح سُنن أبي داود» (14/267).
(64) أخرجه أبو داود (2337)، انظر: «صحيح سُنن أبي داود الأُم» (2025).
(65) أخرجه التِّرمذي (738)، انظر: «صحيح الجامع» (397).
(66) أخرجه ابن ماجه (1651)، انظر: «مِشكاة المصابيح» للألباني (1974).
(67) انظر: «عُمْدة القاري» للعَيْني (10/273).
(68) انظر: «معالم السُّنن» للخَطَّابي (2/100).
(69) انظر: «عَون المعبود» للعظيم آبادي (6/331).
(70) «فتح الباري» (4/129).
(71) انظر: «المحلَّى بالآثار» لابن حزم (4/448) حيث قال: «وكُلُّهم يَحْتجُّ بحَديثه، فلا يَضرُّه غَمْز ابن مَعين له»، وانظر: «سُنن التِّرمذي» (3/106) و«حاشية سُنن أبي داود» لابن القيِّم (6/331) و«صحيح أبي داود الأم» (2025) و«صحيح الجامع الصَّغير» (397) كِلاهما للألباني.
(72) انظر: «عُمدة القاري» للعَيْني (11/85).
(73) «المحلَّى بالآثار» (4/448 ـ 449).
(74) انظر: «صحيح ابن خزيمة» (3/282) و«فتح الباري» لابن حجر (4/215) و«نيل الأوطار» للشُّوكاني (4/292) و«مِرْعاة المفاتيح شَرْح مِشكاة المصابيح» (4/344) للمُباركفوري.
(75) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (4/129).
(76) انظر: «مِرْعاة المفاتيح» للمُباركفوري (6/344).
(77) «جامع التِّرمذي» (3/106).
(78) «حاشية السُّنن» (6/331).
(79) «مجموع فتاوى ابن باز» (15/385).
نقلا موقع راية الإصلاح .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته,وبعد:
[مطوية] شهر شعبان……..حكم و أحكام
للشيخ نجيب جلواح – حفظه الله –
بارك الله لك
و اياك بارك الله فيك.
فكرة طيبة وضع تعليقات تحمل في طياتها أحاديث النبي عليه الصلاة و السلام و في هذا تذكير ببعض ما جاء في الموضوع.