إذا نبتت للمرأة لحيةٌ أو شاربٌ أو عَنْفَقَةٌ على وجهها أو شعرٌ على ساقيها فهل يجوز حَلْقُه؟ وهل يُعَدُّ تحليقُه مِن تغيير خَلْق الله المنهيِّ عنه؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أنَّ مِن مستثنيات تغيير خَلْق الله تعالى ما ورد في جوازه نصٌّ شرعيٌّ كأحاديث سنن الفطرة، وما يحصل به الضررُ والأذيَّة كمن له سنٌّ زائدةٌ أو طويلةٌ تعيقها في الأكل، أو إصبعٌ زائدةٌ تؤذيها وتؤلمها(١)؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»(٢)، أي: أنَّ الضرر يزال، ويستوي في ذلك الرجلُ والمرأة.
أمَّا إذا انتفى الضررُ والأذى فإنَّ المسألةَ محلُّ خلافٍ بين أهل العلم: فعمدةُ ابن جريرٍ الطبريِّ(٣) -رحمه الله- أنَّ الأصل في الإنسان أنه خَلَقه في أحسن تقويمٍ وعلى أكمل خِلْقةٍ، فلا يجوز تغييرُ شيءٍ منها لا بزيادةٍ أو نقصٍ الْتِماسَ الحسن للزوج ولا لغيره، إذ لا يخرج حكمُ حَلْقِ المرأةِ شعرَها النابتَ على وجهها وبدنِها عمَّا نهى الشرعُ عنه مِن الوشم والنمص والفَلْج، فإنَّ علَّةً ظاهرةً تجمعها وهي أنها تغييرٌ للخِلقة وتغريرٌ للخُطَّاب، وقد روى مسلمٌ مِن حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: «لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ» الحديث(٤).
أمَّا المالكية فقد صرَّحوا بوجوب حَلْقِ المرأة ما نَبَت لها من لحيةٍ أو شاربٍ وشَعْر جسدها(٥)، وعن الشافعية استحبابُ ذلك(٦)، وظاهر مذهب أحمدَ جوازُه بالحلق لا بالنتف(٧)، وقيَّده ابن حجرٍ بإذن الزوج وعِلْمه(٨).
وقد علَّل المجيزون لحلق المرأة شَعْرَ وجهها وبدنِها بأنَّ تَرْكَه مُثْلةٌ في حقِّها، ولأنَّ فيه تشبُّهَ النساء بالرجال، والمُثلةُ والتشبُّه كلاهما حرامٌ، فإزالة المُثلة ومظهرِ التشبُّه أمرٌ مطلوبٌ شرعًا، ولا يكون مِن قبيل التغيير لخلق الله المنهيِّ عنه، بل هو مرخَّصٌ فيه قَصْدَ إرجاع المرأة لأصل خِلقتها وهي الأنوثةُ خاليةً من لحيةٍ وشاربٍ وعَنْفَقةٍ وغيرها، ولا يقاس ذلك على ما ورد في الحديث النهيُ عنه، لأنَّ الوشم والنمص والتفليج تجاوزٌ لِما خَلَق الله عليه جنسَ النساء وتغييرٌ للخِلقة السويَّة، بخلاف حَلْق اللحية والشارب ونحوهما، فليس فيه تكلُّفٌ أو تغييرٌ للخِلقة، وإنما هو بمثابةِ ضررٍ تزيله أو مرضٍ تعالجه، وأيَّدوا ذلك بما أخرجه الطبريُّ من طريق أبي إسحاق عَنِ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ وَكَانَتْ شَابَّةً يُعْجِبُهَا الجَمَالُ فَقَالَتْ: «الْمَرْأَةُ تَحُفُّ جَبِينَهَا لِزَوْجِهَا؟» فَقَالَتْ: «أَمِيطِي عَنْكِ الأَذَى مَا اسْتَطَعْتِ»(٩).
هذا، وعندي أنه يجوز حَلْقُ ما نَبَت للمرأة مِن شعرِ لحيةٍ أو شاربٍ أو عَنْفَقَةٍ ونحوها إذا لَحِقَها ضررٌ معنويٌّ -أيضًا- من جرَّاء استبقائها لشعر وجهها وبدنِها، فالضرر المعنويُّ من حيث درجته كالضرر الحسِّيِّ أو أقوى منه، وكلاهما مشمولٌ بحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما مرفوعًا: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»(١٠).
والضرر المعنويُّ الحاصل مِن شعر الوجه خاصَّةً مستمرٌّ في الغالب الأعمِّ لظهوره بخلاف شعر بدنها، فإذا ما انتفى عنها فيه الضرر الحسِّيُّ والمعنويُّ فالأصلُ عدمُ جوازِ نتفِه لدخوله في عموم النهي عن النمص كما تقدَّم في الحديث، ذلك لأنَّ النمص في اللغة نتفُ الشعر(١١)، فهو لا يختصُّ بالحاجب والوجه، بل هو شاملٌ -بإطلاق الحديث- لأيِّ موضعٍ في الجسد، ومذكورُ خصوصِ الحاجب عند بعض الشُّرَّاح ليس قيدًا، وإنما هو محمولٌ على الغالب مِثْلَ الوشم فلا يختصُّ بالوجه فهو عامٌّ لسائر البدن، وأمَّا حديث الطبريِّ عن امرأة أبي إسحاق عن عائشة رضي الله عنها فقَدْ ضعَّفه الألبانيُّ -رحمه الله-، فلو صحَّ فإنه يُحْمَل على الأذى الذي يحصل به الضرر الحسِّيُّ أو المعنويُّ، وإزالتُه إنما تكون بالحفِّ بالموسى لا بالنتف، والحلقُ غيرُ النتف، والنتفُ تغييرٌ كما جاء عن الإمام أحمد(١٢)، وإلَّا فالأثرُ معارَضٌ بالمرفوع وهو مقدَّمٌ عليه، أمَّا التعليلات المتقدِّمة والحكمُ بصحَّتها فإنما يصدق على المُثلة والتشبُّهِ بإرادة العبد واختياره، وفي مسألتنا هذه تنتفي صورةُ الاختيار.
هذا، وإن تقرَّر جوازُ حَلْقِ المرأةِ ما نَبَت لها من شعرٍ على وجهها وبدنِها لدفعِ الضرر والأذى عنها كما تقدَّم؛ إلَّا أنَّ إخبار الخاطب بأمر الحلق واجبٌ إذا كان لا يعلم منعًا للتدليس والتغرير، أمَّا إذا كانت تحت عصمةِ زوجٍ فلا يجوز لها إزالةُ شعرها إلَّا بإذنه وعِلْمه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الموافـق ﻟ: ٢١ مــاي ٢٠٠٦م
(١) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ٣٧٧).
(٢) أخرجه ابن ماجه في «الأحكام» باب من بنى في حقِّه ما يضرُّ بجاره (٢٣٤١) من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٢٥٠).
(٣) انظر: «المجموع» للنووي (١/ ٢٩٠)، «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ٣٧٧).
(٤) أخرجه البخاري في «اللباس» (٥٩٣١)، ومسلم في «اللباس والزينة» (٢١٢٥)، من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه.
(٥) انظر: «مواهب الجليل» للحطاب (١/ ٣١٤)، حاشية العدوي (٢/ ٤٠٩)، «الفواكه الدواني» للنفراوي (٢/ ٤٠١).
(٦) انظر: «المجموع» (١/ ٢٩٠) و«شرح مسلم» (١٤/ ١٠٦) كلاهما للنووي، «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ٣٧٨).
(٧) انظر: «المغني» لابن قدامة (١/ ٩١، ٩٤)، «الإنصاف» للمرداوي (١/ ١٢٦).
(٨) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ٣٧٨).
(٩) أخرجه ابن الجعد في «مسنده» (٤٥١)، وعزاه ابن حجرٍ للطبري في «فتح الباري» (١٠/ ٣٧٨)، وضعَّفه الألباني في «غاية المرام» رقم: (٩٦).
(١٠) سبق تخريجه.
(١١) انظر: «الفائق» للزمخشري (٤/ ٢٦)، «القاموس المحيط» للفيروزآبادي (٨١٧).
(١٢) انظر: «أحكام النساء» للإمام أحمد (١٥)، «المغني» لابن قدامة (١/ ٩٤).
المصدر ..موقع الشيخ فركوس حفظه الله