سواءٌ فيه الحرُّ والعبد والمرأة والأعمى، والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : وينبغي أن يكون كالراوي في أنه لا يؤثر فيه قرابة وعداوة، وجرّ نفع ودفع ضر، لأن المفتي في حكم مخبرٌ عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فكان كالراوي لا كالشاهد، وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي.
قال: وذكر صاحب الحاوي أن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصاً معيناً صار خصماً حكماً معانداً، فتُردُّ فتواه على من عاداه كما ترد شهادته عليه.
واتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه، ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين، ويجب عليه إذا وقعت له واقعة أن يعمل باجتهاد نفسه.
وأما المستور وهو الذي ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطناً، ففيه وجهان: أصحهما: جواز فتواه ; لأنَّ العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة.
والثاني: لا يجوز كالشهادة، والخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين.
قال الصيمري : وتصح فتاوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا نكفره ببدعته ولا نفسقه، ونقل الخطيب هذا ثم قال: وأما الشرار والرافضة الذين يسبون السلف الصالح ففتاويهم مردودة وأقوالهم ساقطة.
والقاضي كغيره في جواز الفتيا بلا كراهة، هذا هو الصحيح المشهور من مذهبنا، قال الشيخ: ورأيت في بعض تعاليق الشيخ أبي حامد أنَّ له الفتوى في العبادات، وما لا يتعلق بالقضاء، وفي القضاء وجهان لأصحابنا: أحدهما: الجواز; لأنه أهل، والثاني: لا ; لأنه موضع تهمة.
وقال ابن المنذر : تكره الفتوى في مسائل الأحكام الشرعية وقال شريح : أنا أقضي ولا أفتي.
فصل
1- أن يكون قيماً بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما التحق بها على التفضيل، وقد فُصِّلَت في كتب الفقه فتيسرت ولله الحمد.
2- وأن يكون عالماً بما يشترط في الأدلة، ووجوه دلالتها، وبكيفية اقتباس الأحكام منها، وهذا يستفاد من أصول الفقه.
3- عارفاً من علوم القرآن، والحديث، والناسخ والمنسوخ، والنحو واللغة والتصريف، واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن معه من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها.
4- ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك.
5- عالماً بالفقه ضابطاً لأمهات مسائله وتفاريعه.
فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقل، الذي يتأدى به فرض الكفاية، وهو المجتهد المطلق المستقل ; لأنه يستقل بالأدلة بغير تقليد وتقيد بمذهب أحد.
قال أبو عمرو : وما شرطناه من حفظه لمسائل الفقه لم يشترط في كثير من الكتب المشهورة ; لكونه ليس شرطاً لمنصب الاجتهاد ; لأن الفقه ثمرته فيتأخر عنه، وشرط الشيء لا يتأخر عنه، وشَرَطَه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وصاحبه أبو منصور البغدادي وغيرهما، واشتراطه في المفتي الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح وإن لم يكن كذلك في المجتهد المستقل.
ثم لا يشترط أن يكون جميع الأحكام على ذهنه، بل يكفيه كونه حافظاً المعظم، متمكناً من إدراك الباقي على قرب.
وهل يشترط أن يعرف من الحساب ما يصحح به المسائل الحسابية الفقهية ؟
حكى أبو إسحاق وأبو منصور فيه خلافاً لأصحابنا، والأصح اشتراطه.
ثم إنما نشترط اجتماع العلوم المذكورة في مُفتٍ مطلق في جميع أبواب الشرع، فأما مُفتٍ في باب خاص كالمناسك والفرائض فيكفيه معرفة ذلك الباب، كذا قَطَعَ به الغزالي وصاحبه ابن بَرهان -بفتح الباء- وغيرهما، ومنهم من منعه مطلقاً، وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة، والأصحُّ جوازه مطلقاً.
القسم الثاني: المفتي الذي ليس بمستقل، ومن دهر طويل عُدِم المفتي المستقل.
وصَارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة، وللمفتي المنتسب أربعة أحوال:
أحدهما: أن لا يكون مقلداً لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله، لاتصافه بصفة المستقل؛ وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد.
وادعى الأستاذ أبو إسحاق هذه الصفة لأصحابنا، فحَكَى عن أصحاب مالك -رحمه الله- وأحمد وداود وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليداً لهم، ثم قال: والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا: وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليداً له، بل لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه، فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي وذكر أبو علي السنجي -بكسر السين المهملة- نحو هذا فقال: اتبعنا الشافعي دون غيره، ; لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها، لا أنا قلدناه.
قلتُ: هذا الذي ذكراه موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله: مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره.
قال أبو عَمرو : دعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقاً لا يستقيم، ولا يلائم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم، وحَكَى بعض أصحاب الأصول مِنَّا أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهدٌ مستقل.
ثم فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقل في العمل بها، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهدًا مقيَّداً في مذهب إمامه، مستقلاً بتقرير أصوله بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، وشرطه: كونه عالماً بالفقه وأصوله، وأدلة الأحكام تفصيلاً، بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض في التخريج والاستنباط، قيماً بإلحاق ما ليس منصوصاً عليه لإمامه بأصوله، ولا يعرى عن شوب تقليد له ; لإخلاله ببعض أدوات المستقل، بأن يُخلَّ بالحديث أو العربية، وكثيراً ما أخل بهما المقيَّد، ثم يتخذ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها كفعل المستقل بنصوص. الشرع، وربما اكتفى في الحكم بدليل إمامه، ولا يبحث عن معارض كفعل المستقل في النصوص، وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه، وعليها كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم.
والعامل بفتوى هذا مقلِّدٌ لإمامه لا له.
ثم ظاهر كلام الأصحاب أنَّ من هذا حاله لا يتأدَّى به فرض الكفاية.
قال أبو عمرو : ويظهر تأدي الفرض به في الفتوى، إن لم يتأد في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى ; لأنَّه قام مقام إمامه المستقل تفريعاً على الصحيح، وهو جواز تقليد الميت.
ثم قد يستقل المقيد في مسألة أو باب خاص كما تقدم، وله أن يفتي فيما لا نصَّ فيه لإمامه بما يخرجه على أصوله، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل، وإليه مفزع المفتين من مُدَدٍ طويلة، ثم إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لإمامه لا له.
هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي، وما أكثر فوائده (1) .!!
قال الشيخ أبو عمرو : وينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره، أن ما يخرجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي ؟ والأصح أنه لا ينسب إليه.
ثم تارة يخرِّج من نص معين لإمامه وتارة لا يجده، فيخرّج على أصوله بأن يجد دليلاً على شرط ما يحتج به إمامه فيفتي بموجبه، فإن نصَّ إمامه على شيء ونص في مسألة تشبهها على خلافه، فخرج من أحدهما إلى الآخر سمي قولاً مخرجاً، وشرط هذا التخريج أن لا يجد بين نصه فرقاً، فإن وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما، ويختلفون كثيراً في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق.
_________
(1) سماه: «غياث الأمم في التياث الظلم»، مطبوع مشهور، نفيس في بابه، لكنه صعب العبارة على من لم يرتض بكلام الأصوليين
قلتُ: وأكثر ذلك يمكن فيه الفرقُ، وقد ذكروه.
الحالة الثالثة: أن لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه، لكنه فقيه النفس، حافظ مذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، يصوّر، ويحرّر، ويقرّر، ويمهد، ويزيف، ويرجح، لكنَّه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب، أو الارتياض في الاستنباط، أو معرفة الأصول ونحوها من أدواتهم.
وهذه صفةُ كثيرٍ من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه، وصنَّفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم، ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج.
وأما فتاويهم فكانوا يتبسطون فيها تبسط أولئك أو قريباً منه، ويقيسون غير المنقول عليه، غير مقتصرين على القياس الجلي.
ومنهم من جُمِعَت فتاويه، ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغَ فتاوى أصحاب الوجوه.
الحالة الرابعة : أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات، ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه، من نصوص إمامه، وتفريع المجتهدين في مذهبه.
وما لا يجده منقولاً إن وجد في المنقول معناه، بحيث يدرك بغير كبير فكر أنَّه لا فرق بينهما، جاز إلحاقه به والفتوى به، وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط ممهد في المذهب، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه، ومثل هذا يقع نادراً في حق المذكور، إذ يبعد كما قال إمام الحرمين: أن تقع مسألة لم ينص عليها في المذهب، ولا هي في معنى المنصوص، ولا مندرجة تحت ضابط. (1) .
وشرطه كونه فقيه النفس ذا حظ وافر من الفقه.
قال أبو عمرو : وأن يكتفي في حفظ المذهب في هذه الحالة والتي قبلها بكون المعظم على ذهنه، ويتمكن لدربته من الوقوف على الباقي على قرب.
فصل: أصناف المفتين ومراتبهم
هذه أصناف المفتين وهي خمسةٌ، وكلُّ صنف منها يُشترط فيه حفظ المذهب وفقه النفس، فمن تصدى للفتيا وليس بهذه الصفة فقد باء بأمر عظيم.
ولقد قطع إمام الحرمين وغيره بأن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه لا يحلُّ له الفتوى بمجرد ذلك، ولو وقعت له واقعة لزمه أن يسأل عنها، ويلتحق به المتصرف النظَّار البحاث، من أئمة الخلاف وفحول المناظرين ; لأنه ليس أهلاً لإدراك حكم الواقعة استقلالاً، لقصور آلته، ولا من مذهب إمام، لعدم حفظه له على الوجه المعتبر.
فإن قيل: من حفظ كتاباً أو أكثر في المذهب وهو قاصر، لم يتصف بصفة أحد ممن سبق، ولم يجد العامي في بلده غيره، هل له الرجوع إلى قوله ؟
فالجواب: إن كان في غير بلده مُفتٍ يجد السبيل إليه وجب التوصل إليه بحسب إمكانه، فإن تعذر ذكر مسألته للقاصر، فإن وجدها بعينها في كتاب موثوق بصحته وهو ممن يُقبل خبره نقل له حكمه بنصه، وكان العامي فيها مقلِّداً صاحب المذهب.
قال أبو عمرو : وهذا وجدتُّه في ضمن كلام بعضهم، والدليل يعضده، وإن لم يجدها مسطورة بعينها لم يقسها على مسطور عنده، وإن اعتقده من قياس لا فارق، فإنه قد يتوهم ذلك في غير موضعه.
فإن قيل: هل لمقلِّدٍ أن يفتي بما هو مقلد فيه ؟
قلنا: قطع أبو عبد الله الحَلِيمي وأبو محمد الجويني وأبو المحاسن الرّوياني وغيرهم بتحريمه، وقال القفال المروزي : يجوز.
قال أبو عمرو : قولُ من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله من عند نفسه، بل يضيفه إلى إمامه الذي قلَّده، فعلى هذا من عددناه من المفتين المقلدين ليسوا مفتين حقيقة، لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم، وسبيلهم أن يقولوا مثلاً: مذهب الشافعي كذا أو نحو هذا، ومن ترك منهم الإضافة فهو اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح به، ولا بأس بذلك.
وذكر صاحب الحاوي في العامي إذا عرف حكم حادثة بناء على دليلها ثلاثة أوجه: أحدها : يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده ; لأنه وصل إلى علمه. كوصول العالم.
والثاني: يجوز إن كان دليلها كتاباً أو سنة، ولا يجوز إن كان غيرهما.
والثالث: لا يجوز مطلقاً، وهو الأصح والله أعلم.