للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس، فلقد أظلكم شهر كريم وموسم عظيم، "أعطيت فيه هذه الأمة خمس خصال لم تعطهن أمة من الأمم قبلهم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وخلوف فم الصائم هي الرائحة الكريهة التي تخرج من المعدة عند خلوها من الطعام هذه الرائحة أطيب عند الله من ريح المسك وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ويزين الله كل يوم جنته فيقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ويغفر لهم في آخر ليلة منه"(1)، إنه شهر رمضان "من صامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"(2)، "ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"(3)، "فيه تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النيران"(4)،
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "قال الله عز وجل: (كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) والصوم جنة يعني وقاية من الإثم والنار فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك للصائم فرحتان يفرحهما فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه"(5)،
أما فرحه عند فطره فيفرح بنعمتين؛
أولاهما: نعمة الله عليه بالصيام وقد ضل عنه كثير من الناس،
والثانية: نعمة الله عليه بإباحة الأكل والشرب والنكاح وما كان ممنوعاً منه في الصيام،
وأما فرحه عند لقاء ربه:
فيفرح بما يجده من النعيم المقيم في دار السلام،
وفي صحيح البخاري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "إن في الجنة باب يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخله غيرهم فإذا دخلوا أغلق ولم يفتح لغيرهم"(6)، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الداخلين فيه، اللهم اجعلنا من الداخلين فيه، اللهم اجعلنا من الداخلين فيه، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين"(7).
عباد الله، اغتنموا شهر رمضان
بكثرة العبادة،
وكثرة الصلاة والقراءة،
والإحسان إلى الخلق بالمال
والبدن
والعفو عنهم، فإن الله يحب المحسنين ويعفو عن العافين،
واستكثروا فيه من
"أربع خصال اثنتان ترضون بهما ربكم واثنتان لا غنى لكم عنهما فأما اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله والاستغفار
وأما اللتان لا غنى لكما عنهما فتسألون الله الجنة وتستعيذون به من النار"(8).
عباد الله،
احفظوا صيامكم عن النواقص والنواقض، احفظوه عن اللغو والرفث وقول الزور كل قول محرم،
وعمل الزور كل عمل محرم،
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري – رحمه الله – من حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه -:
"فمن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(9)،
ومن لم يحفظ صيامه عما حرم الله
فيوشك أن لا يكون له من صيامه إلا الجوع والظمأ،
اجتنبوا الكذب والفحش والغش والخيانة،
اجتنبوا الغيبة والنميمة،
اجتنبوا الأغاني المحرمة واللهو المحرم فعلاً وسماعاً،
فإن كل هذه من منقصات الصيام،
قوموا بما أوجب الله عليكم من الصلاة في أوقاتها،
وأداءها مع الجماعة،
قوموا بالنصيحة للمؤمنين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
فإن الحكمة من الصيام التقوى،
يقول الله – عز وجل -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183]،
اجتهدوا أيها المسلمون في قراءة القرآن
فإنه كلام الله عز وجل، لكم الشرف في تلاوته والأجر،
ولكم بالعمل به الحياة الطيبة وطيب الذكر،
"ولكم بكل حرف منه عشر حسنات"(10)
، وإذا مررتم بآية سجدة فاسجدوا في أية ساعة من ليل أو نهار،
كبروا عند السجود
وقولوا في السجود: سبحان ربي الأعلى وادعوا بما شئتم، إن تيسر لكم معرفة ما ورد في ذلك فادعوا به،
وهو كما ثبت في صحيح مسلم – رحمه الله تعالى – من حديث علي بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه -أنه قال:
كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا سجد قال: "اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين"(11)،
وإلا فادعوا بأي دعاء مناسب، ثم قوموا من السجود بلا تكبير ولا سلام، إلا إذا سجدتم في الصلاة فلابد من التكبير عند السجود وعند النهوض.
أما بعد:
أيها المسلمون،
فاحرصوا على تلاوة كتاب الله،
واسمعوا إلى قول الله – عز وجل -: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ [إبراهيم:1-3]،
اللهم ارزقنا اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحة،
اللهم احفظنا عن الأعمال السيئة،
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه يا رب العالمين،
اللهم حقق لنا ما نرجوه من المصالح في الدنيا والآخرة،
﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8]،
والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
—————————
(1) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، في باقي مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم (7576) ت ط ع، قال شيخنا رحمه الله تعالى في كتابه مجالس شهر رمضان، رواه البزار والبيهقي في كتاب الثواب وإسناده ضعيف جداً ولكن لبعضه شواهد صحيحة هذا في المجلس الأول.
(2) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، في كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتساباً من الإيمان (37)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (1268) ت ط ع.
(3) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، في كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان (1869) ت ط ع.
(4) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (3035) ت ط ع، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، في كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان (1793) ت ط ع، أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، في باقي مسند الأنصار، من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (22393) ت ط ع، وأخرجه الإمام النسائي رحمه الله تعالى في سننه، من حديث أبي هريرة وعتبة بن فرقد رضي الله تعالى عنهما، في كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان (2202) ت ط ع.
(5) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، في كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم رقم (1771) ت ط ع، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، في كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم (1944) ت ط ع.
(6) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث سهل رضي الله تعالى عنه، في كتاب الصوم، باب الريان للصائمين (1763) ت ط ع، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، في كتاب الصيام، باب فضل الصيام (1947) ت ط ع.
(7) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (7700)، وأخرجه الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في سننه، في كتاب الدعوات، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، باب في العفو والعافية (3522)، وأخرجه ابن ماجه رحمه الله تعالى في سننه، في كتاب الصيام، في باب في الصائم لا ترد دعوته (1742) ت ط ع.
(8) أخرجه ابن خزيمة رحمه الله تعالى في صحيحه، الجزء الثالث ص191، من حديث سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه (1887) ت م ش، وأخرجه البيهقي رحمه الله تعالى، في كتاب شعب الإيمان، الجزء الثالث ص305، وأخرجه الحارث في مسنده – زوائد الهيثمي – الجزء الأول ص412 ت م ش.
(9) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، في كتاب الأدب، باب قوله تعالى ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (5597) ت ط ع.
(10) أخرجه الترمذي رحمه الله تعالى في سننه، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما، في كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ما له من الأجر (2835) وأخرجه الدارمي رحمه الله تعالى، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، في كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن (3181) ت ط ع.
(11) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (1290) ت ط ع، وفي رواية للترمذي رحمه الله تعالى، من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم، في كتاب الدعوات، باب ما يقول في سجود القرآن، "عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله رأيتني الليلة وأنا نائم كأني كنت أصلي خلف شجرة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي وسمعتها وهي تقول اللهم اكتب لي بها عندك أجراً وضع عني بها وزراً واجعلها لي عندك فخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود"، أخرجه الترمذي رحمه الله تعالى في سننه (3346) ت ط ع، وأخرجه في كتاب الجمعة، باب ما يقول في سجود القرآن (528) ت ط ع.
مشكور بزاف على هذا الموضوع القيم وجعله الله في ميزان
حسناتك