تخطى إلى المحتوى

سـاعة الفراق 2024.

سـاعة الفراق

فيقول الله جل وعلا مبيناً حقيقة وأمراً لابد لكل إنسان منه، لا يرُدُّه مالُ ولا مُلكٌ ولا ناصر؛ إنها ساعة الاحتضار والانتقال من دار الدنيا إلى دار القرار، وفراق الأهل والمال, يقول الله جل وعلا: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) [ق:19 ].
(جاءت سكرة الموت) وما أدراك ما هذا المجيء، إنه مجيء لا مناص عنه ولا مهرب منه، إنه بداية نهايتك في هذه الدنيا، والإقبال على الآخرة، إنها ساعة مهولة ذات كُرَبٍ شديدة؛ إنهـا ساعة الفراق.
لو تفكرت في حلولها وأنت في نعيم وهناء، لهانت الدنيا عليك، وصَغُر عظيمها في عينيك، كيف لا؟ وأنت تفارق المال والولد، والأحباب والأصحاب إلى دار الحساب، أهوال تهول عندها أهوال، حتى تنتهيَ إلى أحد الفريقين (فريق في الجنة وفريق في السعير) [الشورى:7].
ولشدة سكرات الموت التي أصابت خير الأنبياء وأكرم الخلق على رب العالمين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُدخل يديه في ركوة ماء ويمسح بها وجهه:«لا إله إلا الله إن للموت لسكرات ».
ولما رأت فاطمةُ رضي الله عنها ما برسول الله r من الكرب الشديد الذي يتغشاه قالت:" واكرب أبتاه " فقال لها:« ليس على أبيك كرب بعد اليوم ».
يُروى في الحديث:« أنه ما من أحد يموت إلا ندم إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون نزع واستغفر وتاب ».
قال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا؛ لم يترك لذي لُبٍّ فرحاً.
نعم ..كيف يغفل العبد عن طاعة الله وأداء الصلوات، وهو يعلم أن وراء الموت القبر وظلمته، والصراط ودقته، والحساب وشدته، أمور عظام مهولة، والنهاية جنة أو نار.
بكى الحسن البصري عند موته وقال: نفس ضعيفة وأمر مهول عظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون.
عن بن عباس رضي الله عنهماأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثـَّر في جنبه، فقال يا نبي الله: لو اتخذت فراشا أوْفَر من هذا فقال صلى الله عليه وسلم :« مالي وللدنيا.. ما مَثلي والدنيا إلا ****ب سار في يوم صائفٍ فاستظل تحت شجرة ثم راح وتركها».
ولمعرفة صفة الموت الذي لا يحس ألمَه إلا من يعانيه، فقد قال عمر رضي الله عنه لكعب: أخبرني عن الموت؟ فقال:"يا أمير المؤمنين : هو مِثلُ شجرة كثيرة الشوك في جوف بن آدم، وهو كرجل شديد الذراعين فهو يعالجها ينتزعها".
لما احتُضر عامر بن عبد الله بكى وقال:" لمثل هذا المصرع فليعمل العاملون، اللهم إني أستغفرك من تقصيري وتفريطي وأتوب إليك من جميع ذنوبي، لا إله إلا أنت، ثم لم يزل يرددها حتى مات رحمه الله ".
وانظر إلى تأسفهم على الدنيا وما فيها، لعلمهم أنها دار عمل؛ فقد بكى أحد العُبـَّاد عند موته فقيل له: مايبكيك؟ فقال:" أن يصوم الصائمون ولست فيهم، و يَذْكر الذاكرون ربهم ولست فيهم، و يصليَ المصلون ولست فيهم".
إن الموت الذي تقدم وصفه كلٌّ منا ملاقيه، كل منا سيمر بتلك اللحظات العصيبة؛ الأنفاسُ مضطربة، والعين حائرة كسيرة، والقلب في وجل وخوف، إنها ساعة الاحتضار التي قال فيها عمرو بن العاص رضي الله عنه لما سئل عنها وهو يموت:" والله لكأني أتنفس من سَمّ إبرة، وكأن غصن شوك يجر به من قدميَّ إلى هامتي".
هذا هو الموت وشدته فتذكر عبد الله تلك الساعة، لا تدري من أيّ الأبواب ستدخل وأيّ الدارين تسكن.
قال ميمون بن مِهْران: من أراد أن يعلم منزلته عند الله فلينظر في عمله فإنه قادم على عمله كائنا من كان، قال الله جل وعلا: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وقال ربنا جل جلالهالقعدة يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا).
قال بعضهم: دخلنا على عطاء السلمي نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: كيف ترى حالك؟ فقال :" الموت في عنقي، والقبر بين يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، و لا أدري ما يفعل بي، ثم بكى بكاء شديداً وقال: اللهم ارحمني وارحم وحشتي في قبري ومصرعي، وارحم مقامي بين يديك يا أرحم الراحمين".
قال الخليفة عبد الملك بن مروان في مرض موته: ارفعوني، فرفعوه حتى شم الهواء وقال:" يا دنيا ما أطيبك: إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإن كنا بِك لفي غرور" وقيل له في مرض موته: كيف تجدك؟ فقال:" أجدني كما قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ([الأنعام:94].
قال ابن السِمَاك:" إن استطعت أن تكون كرجل ذاق الموت وعاش ما بعده، ثم سأل الرجعة فَأُسْعِفَ في طلبه وأعطيَ حاجته، فهو متأهب مبادر فافعل، فإنّ المغبون من لم يقَدّم من ماله شيئا، ومن نفسه لنفسه ".
إننا ونحن نسمع قصص السلف ومواقفهم هذه؛ لحري بنا أن نكون مثلهم في الاجتهاد والعبادة، والاستعداد للموت قبل حلوله، وليكن المؤمن على خوف ووجل من ربه جل وعلا ، وإياك أيها العبد الموفق أن تحتقر ذنبا، فلا تبالي به ولا تندم على فعله، فإن هذا خطرٌ عظيم.
يروى أن ابن المنكدر لما حضرته الوفاة جعل يبكي فقيل له: ما يبكيك؟ فقال:" والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئا حسبته هينا وهو عند الله عظيم ".
إن ذكر الموت وسكرتِه وفظاعته تفزع منه النفوس، وتقشعر القلوب، ويصلح به العمل، ويعظُم الاستعداد ليوم الرحيل، فهذا عمر بن عبد العزيزيقول:" لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد ".
سئل أحد السلف ما بالنا نحب الحديث في الدنيا ونكره الحديث في الموت؟ فقال :" لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فأنتم تكرهون الانتقال من العمران إلى الخراب".
قال المزنيُ دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها، فقلت: كيف أصبحت ؟ فقال:" أصبحت من الدنيا راحلا، ولإخواني مفارقا، ولكأس المنية شاربا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلى الله واردًا، فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزّيها " ثم بكى رحمه الله وغفر له.
لقد كان فقه السلف في هذا الباب عظيماً، فهذا سفيان الثوريبكى ليلة إلى الصباح فلما أصبح قيل له: أكلُّ هذا خوفا من الذنوب؟ فأخذ تِبْنة من الأرض وقال :" الذنوب أهون من هذه، وإنما أبكي من سوء الخاتمة "، وهذا من أعظم الفقه ، أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت، فتحولَ بينه وبين الخاتمة الحسنى.
قال بعض الحكماء:" اعلم أن الخاتمة السيئة – أعاذنا الله منها – لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سُمع بهذا و لا عُلم به ولله الحمد، إنما تكون لمن له فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبيرة وإقدام على العظائم، ولربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية، فيظفر به الشيطان ويختطفه في تلك اللحظة والعياذ بالله ".
لما نزل الموت بسليمان التيمي وكان من العُبَّاد، قيل له: أبْشِر لقد كنت مجتهدا في طاعة الله ، فقال:" لا تقولوا هكذا فإني لا أدري ما يبدوا لي من الله عز وجل فإنه سبحانه يقول:)وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون([الزمر:47] عملوا أعمالا كانوا يظنون أنها حسنات فوجودها سيئات".
إن دار الدنيا دار العمل والتزود من طاعة الله قبل الرحيل، فاليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل، والخروج من دار العمل إلى دار الحساب شديد، كما قال الفضيل بن عياض ::" الدخول في الدنيا هيّنٌ ، ولكن الخروج منها شديد ".
فاستعدوا رحمكم الله بالعمل قبل أن يحال بينكم وبينه، فها هو القعقاع بن حكيم يقول:" قد استعددت للموت منذ ثلاثين سنة !، فلو أتاني ما أحببت تأخير شيء عن شيء ".
واحْتُضِر بعض الصالحين فبكت امرأته، فقال: ما يبكيكِ ؟ قالت: عليك أبكي، قال :" إن كنت باكية فابك على نفسك، فأما أنا فقد بكيت على هذا اليوم منذ أربعين سنة".
إنه الاستعداد للموت قبل الفوت، أين نحن من هؤلاء في الخوف من الله، والحرص على الطاعات واجتناب المحرمات؟، تأمل بارك الله فيك في ساعة احتضارك وحلول الموت ببابك.
إن مشهد الاحتضار مؤثر مقلق .. حين تبلغ الروح الحلقوم ويقف صاحبها على باب عالَمٍ آخر، ومن حوله مكتوفوا الأيدي عاجزون لا يملكون له شيئا: )وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد([ق:19]قد شُلت قدمك ، ويبُست يدك، وشخص بصرك ، وخَرِسَ لسانك وهُدّت أركانك.
فيا أيها العبد الحقير الذليل: اعلم أن من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله قصر عمله، وكل ماهو آت قريب ..
واعلم أن كل شيء يشغلك عن خالقك فهو مذموم، و أن أهل الدنيا جميعا من أهل القبور، صغيرُهم، وكبيرُهم، غنيهم، وفقيرهم، عما قليل إليها منتقلون وعما قدمت أيديهم مسؤولون: )وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون([ الشعراء:227].
قال الأعمش: كنا نشهد الجنازة ولا ندري من المُعَزى فيها لكثرة الباكين وإنما كان بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت.
زوروا القبور وتذكروا الجنة ونعيمها والنظر إلى وجه الرب جل جلاله، وتذكروا النار وما فيها من الأغلال والسلاسل والحديد والمقامع، وكيف يشرب أهلها شرابا من حميم يصهر به ما في بطونهم والجلود، عجبا!! عجبا!! لذاكر الموت كيف يلهو، ولخائف الفوت كيف يسهو، عجبا!! لمن يقدم على عل معصية الله ويضيع الصلوات ويجاهر الجبار بالمعاصي.
فتوبوا إلى الله ولا تيئسوا من روحه وعظيم مغفرته ولطفه، فإنه غفَّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؛ قال تعالى: ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الفغور الرحيم، وأنبيوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون).
فهل من تائب مستغفر ؟! في الحديث الصحيح أن الله عز وجل ينزل في الثلث الأخير من الليل فيقول:" هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من سائل فأعطيه ؟". فألحوا على ربكم بالدعاء ، واسألوه المغفرة، فإنه غفَّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً.
عن صهيبt أن رسول اللهr قال:« إذا دخل أهل الجنة الجنة ، و أهل النار النار، نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند ربكم موعدا يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : و ما هو ؟ ألم يثقل موازيننا ، و يبيّض وجوهنا ، و يدخلنا الجنة و ينجنا من النار ؟ قال : فيُكشف الحجاب ، فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه و لا أقرَّ لأعينهم ».
فاللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وتوفنا وأنت راض عنا غير غضبان .

مرررررررررررررررسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.