الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيُطرح اليوم على مائدة النقاش في وسائل الإعلام موضوع حضور النساء في مدرجات الملاعب لتشجيع الفرق الرياضية. وكأنه تمهيد لواقع يُراد في مستقبل الأيام.
لقد صرنا نناقش أمورا لم يكن يخطر بالبال من قبل أن تناقش، وهكذا فتن الأيام الشداد!
وأعتقد أن طرح هذا الموضوع للنقاش في ذاته مشكلة، ومحاولة الإقناع بعدم قبوله شرعا وعرفا – مصيبة!
إنها حلقةٌ جديدة من سلسلة امتهان المرأة واستـنـزالها من عليائها تحت غطاء المطالبة "بحقها المشروع"! فمن حقوق المرأة المسلوبة -في زعمهم-: تهاديها بين جنبات المدرجات!
وعليه فلن تصل إلى الرقي المنشود -في زعمهم- إلا أن تُشاهد على الشاشات: تهتف وتصفق، وتقفز مع كل "هجمة"! .. فوا سوأتاه!
أهكذا يُنتظر أن يكون حال المسلمة في بلد الإسلام ومأرز الدين؟!
النقاش ينبغي أن يبدأ من هذا السؤال: هل ملاعب الكرة أمكنة مناسبة للفتاة شرعا؟ وهل أوضاع المدرجات لائقة بها عرفا؟!
الجميع يعلم أن الملاعب موضع خاص بالرجال حتى في الدول التي تسمح بارتياد النساء لها؛ فـ 99% من روادها في العالم من الذكور.
فليت شعري كيف سيكون حال تلك المسكينة: عند دخولها الملعب، وعند خروجها، وأثناء جلوسها؟
قالوا: سيؤمن لهن بوابات خاصة، ومدرجات خاصة!
لا أدري .. لم يفترض هؤلاء في الناس "السذاجة" أو الغباء؟
فكم ستصمد البوابات الخاصة؟ والمدرجات الخاصة؟!
ثم .. حين يخرج خمسون ألفا -أو يزيد- من الأمواج البشرية الهادرة في وقت واحد، أين سيكون محل تلك الفتاة بينهم؟ لا سيما وقد غلبتهم مشاعر ملتهبة غالبا؛ بين نشوة الانتصار، وضجر الهزيمة؟
كيف سيُحمى هؤلاء الفتيات المتوشحات بالأعلام من الشباب الذين طاشت عقولهم من أنصار الفريق الغالب أو المغلوب؟
من الذي سيضبطهم؟ ومن الذي سيضبطهن؟
وهل ستؤمن لهن المواقف والشوارع أيضا؟!
وإذا كان النساء يشتكين بمرارة ما يلاقين من أذى الشباب الساقط في الأسواق؛ وهي مكتظة بالكبار العقلاء، والبائعين والنساء، وأوضاعها هادئة غالبا؛ فكيف سيكون الحال في الملاعب وساحاتها ومواقفها وقد توافد لهذا الغرض أصحاب النفوس الدنيئة؟
أو أن أولئك يفترضون أننا نعيش في "المدينة الفاضلة"؟! فكل ما يُرى ويُسمع ويُنشر من تحرش وأذية ومغازلة واعتداء ما هو إلا نسج خيال؟!
ثم ماذا سيكون حال مواكب التشجيع بعد الانتصار! وقد اصطفت السيارات بالشباب وبالبنات أو بهما معا؟!
ثم ماذا ستفعل في المدرج؟
هل ستراها وتسمعها الآلاف المؤلفة في الملعب، والملايين عبر الشاشات وهي تهتف بأهازيج فريقها، وربما تضرب بالدف بحماس؟!
هل ستراها تقوم مع كل هجمة، وتصفق لكل مراوغة، وتقفز مع كل هدف، وتغني مع كل انتصار؟!
وهل ستسمع -هي- من المدرجات المجاورة لها تلك الألفاظ النابية، والشتائم المقذعة التي يُقذف بها اللاعبون والحكام؟ ولربما لا تسلم هي أيضا من سماع كلمات تطالها خادشة للحياء.
أهذا هو التصون والحشمة التي أمر بها الإسلام المرأة؟
هل سيقبل من في نفسه ذرة من رجولة وحمية هذا الوضع المزري لأخته؟
والمؤسف أنه مع ظهور هذه المفاسد التي لا تخفى على عاقل تطالعنا الصحف بفتوى أو اثنتان تجيز حضور المرأة للمدرجات للتشجيع، وفق الضوابط الشرعية!
وكأننا في حاجة إلى فتنة جديدة!
فهل من أفتى بهذه الفتوى استحضر أدلة الشرع وقواعده ومقاصده، وأحاط علما بالواقع الذي يفتي بشأنه؟
– وإلا فماذا سيقول في معارضة هذه الفتوى لقول الله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)، والتي قرر منها أهل العلم أن خروج المرأة مرتبط جوازه بالحاجة؛ فهل التشجيع حاجةٌ شرعية؟!
وإذا كانت أمهات المؤمنين -وهن هن!- يوجَّه إليهن هذا الأمر؛ فكيف بغيرهن؟ فكيف ببنات اليوم؟!
قال القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: (معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى؛ هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء؛ كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة؟!).
– وماذا سيقول في الاختلاط الذي سيحصل عند الدخول وعند الخروج وبعده؟
والمتقرر أن الإسلام جاء بالبعد عن مخالطة المرأة للرجال ولو في دور العبادة؛ فكيف بغيرها؟ ففي سنن النسائي (1333) -وهو في البخاري بنحوه- من حديث أم سلمة رضي الله عنها بسند صحيح: (أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من الصلاة قُمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال). قال الزهري -التابعي الجليل- رحمه الله: (فأرى والله أعلم أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم). (البخاري 837).
وفي صحيح البخاري (1618) سؤال ابن جريج للتابعي الجليل عطاء رحمهما الله مستشكلا طواف الرجال والنساء بالكعبة: (كيف يخالطن الرجال؟) فقال عطاء: (لم يكنّ يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة [معتزلة] من الرجال لا تخالطهم).
بل أبان في الأثر نفسه أن الاختلاط لم يكن حاصلا في أشرف بقعة على وجه الأرض؛ فقد بين رحمه الله أنهن إذا أردن دخول الكعبة لم يدخلن حتى يخرج الرجال! (ولكنهن كنّ إذا دخلن البيت قُمن حتى يدخلن، وأُخرج الرجال).
فكيف ستطبق هذه التوجيهات أثناء دخول الملعب وأثناء الخروج منه؟
– وماذا سيقول في معارضة تشجيعهن لقوله تعالى: (وَقُلْنَ قَوْلًا مَـعْرُوفًا)؛ فهل هتافها وهَزَجها بالتشجيع من القول المعروف؟
وإذا كان الإمام مالك يحكي أنه سمع أهل العلم يقولون ليس على النساء رفع الصوت بالتلبية (الموطأ 1/334)؛ وعلل العلماء ذلك بأن رفع الصوت ليس من شأنهن، وهو مظنة الفتنة. هذا والتلبية عبادة وفضيلة؛ فكيف بتشجيع اللاعبين؟!
وهل تأتي الشريعة بإباحة اهتزازها وتمايلها وتلويحها، وهي التي نهت المرأة أن تضرب برجلها لئلا يُسمع خلخالها!
– وماذا سيقول في معارضة هذه الفتوى لتحريم نظر المرأة لأفخاذ اللاعبين، وهذا حكم لا إخاله يخفى على طالب علم صغير، والله تعالى يقول: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُـضْـنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ). ولا أعلم قولا في المذاهب الفقهية، ولا فتوى لإمام معتبر تنص على جواز نظر المرأة لأفخاذ الرجال الأجانب.
اللهم إلا إذا كان قصد من أفتى أن تغض المرأة بصرها -وهي في المدرج- عن اللاعبين!
ومن العجيب أن أحدهم جعل جواز مشاهدة المرأة للمباريات في التلفاز أصلا قاس عليه جواز اعتلائها المدرجات للغرض نفسه؛ لعدم الفارق بين الصورتين!
فمن سلّم له بجواز المشاهدة في التلفاز مع ما تتضمنه من رؤية أفخاذ الرجال، ومفاسد أخرى لا تخفى؟
ثم كيف يعمى عن البون الشاسع بين الصورتين؟
ثم إن استدلاله بالتلفاز مقلوبٌ عليه؛ فإنه إذا سُلم جدلا بجواز متابعتها لهذه المباريات بالتلفاز؛ فما الحاجة إلى بروزها إلى الملاعب فتفتن وتُفتن؟
إن شأن هذه الفتوى لعجب!
هل سيُضرب بعرض الحائط مراعاة المفاسد المؤكدة من أجل مشاهدة لعبة؟!
وأين في دين الله عدم اعتبار المنكرات المتوقعة من أجل تسلية؟!
لقد كان الأجدر أن تقال كلمة الحق في "مهزلة التشجيع" الواقعة من الذكور، وما اشتملت عليه من منكرات متراكبة: من غيبة وبهت وسباب وسخرية واعتداء، ومن تضييع للصلوات وإهدار للأوقات، ومن تحزيب للناس وإيقاع للعداوة بينهم، ناهيك عن التعلق بالكفار وتقليدهم وكسر حاجز البراءة منهم – لا أن يُجر بنات المسلمين إلى هذا البلاء، ومن على المدرجات! فيُجمع ضغث إلى إبالة.
أما مطالبة بعض هؤلاء المفتين أن تكون هناك جهة مسؤولة عن الحفاظ على هذه الضوابط الشرعية، تمنع المخالفات حين صدورها، ولا يكتفى بذكر شروط الحضور دون أن يكون هناك إلزام عملي بها، ومنع الالتفاف عليها، بمفاجأة المخالفة أثناء الحضور – فقولٌ يضحك الثكلى؛ فهل هذا واقع؟ أو هو ممكن؟
أهو يعني أن يُغرز رجل محتسب -أو امرأة- أمام كل مشجعة، أو مجموعة منهن لتنبيه تلك المغرمة بالكرة إذا ألهبها الحماس فسقط خمارها عن رأسها مع القفز عند "هجمة"؟
أو لإنكار على ثانية إذا اهتزت بحركات غير لائقة بعد هدف؟!
أو لإرشاد ثالثة بانَ ساعدها وهي تُلوح بعلم؟!
أما "الضوابط الشرعية" فقد فقدت هذه الجملة مكانتها عند الناس من كثرة جعلها "شماعة" لتمرير كل ما يُشتهى!
وكأنها "جُنة" يُخلي بها بعضهم مسئوليته عما أفتى به، ويتقي بها سهام النقد! فيرمي بها ويمشي!
جملة ضبابية غامضة عند أكثر الناس، كأنها عنقاء مغرب! يُعرف اسمها دون حقيقتها.
هلا أفصح المُبين عن حكم رب العالمين في هذه القضية أن من الضوابط: أن لا تنظر إلى فخذ لاعب، ولا تخالط الرجال في الجلوس والدخول والخروج ومواقف السيارات، وأن تلتزم حجابها ولا تكشف وجهها، وأن تدع أفعال الطيش القبيحة منها، من التصفيق والتصفير والغناء والقفز والتمايل، وأن لا تخضع بقول ولا ترفع صوتا، وأن لا تُصوَّر المشجعات لا صورا تلفازية ولا فوتوغرافية، وأن لا يثمر هذا التشجيع تعلقا باللاعبين، ولا احتفاظا بصورهم! .. وأخيرا أن لا يكون خروجها من بيتها إلا لحاجة، وعليه أن يبين حينها أن التشجيع في المدرجات حاجة معتبرة شرعا!
فيا من يضع في ذمته شيئا ينوء عن حمله، وهو في غنى عنه: إن اعتبار المآلات أصلٌ شرعي، ومنع المبادي أولى من قطع التمادي، والسلامة -عند العقلاء- لا يعدلها شيء.
أخشى أن يأتي اليوم -وأعوذ بالله أن ندركه- الذي يصعب فيه التمييز بين ابنة بلاد الحرمين وغيرها.
فهي كغيرها .. صورها قد نُشرت من على منصة التشجيع، قد أسفرت عن وجهها، ونشرت شعرها، وصبغت وجهها بألوان الفريق الذي تشجعه!
وحينها سيعض من شارك في الوصول إلى هذه الصورة -بفتوى أو رأي- أصابع الندم على الباب الذي بادر بفتحه، وإن ختمه بخاتم: "الضوابط الشرعية"!
وبعد .. فإني أقول: إن بلاد الحرمين قد تميزت بعادات حميدة وسجايا كريمة؛ فرجالها قد مضوا على الرجولة والحمية والإباء، فلا يُصطلى بنارهم، ولا يُمس أنف أَنَفَتهم، وفيهم غيرة على المحارم؛ بحيث أنهم يبذلون في سبيل ذلك كل غالٍ ومسترخص. والحياء والحشمة والتصون شعار النساء ودثارهن.
ولا يشك أحد أن فتح أبواب الملاعب للمشجعات يتعارض مع عادات البلاد وأعرافها الأصيلة.
فلماذا الحرص البليغ على العادات والتراث إذا تعلق بمشغولات أو رقصات شعبية، مع الإهمال والإقصاء إذا تعلق بالأخلاق الفاضلة والتراث الحقيقي الأصيل؟!
وإذا كان العرف الذي لا يعارض الشرع ينبغي اعتباره؛ فكيف وهو هنا أخلاق إسلامية، وخلال إيمانية؟!
مؤسف والله أن تفقد البلاد تميزها الديني، وتميزها العرفي.
وأقول أيضا: إذا كنا سنُسام في أخلاقنا ومروءتنا في كرة ولم نصمد! فكيف بما هو أكبر وأعظم؟
وأقول أيضا: المطلوب من بلاد الحرمين وحاضنة البقاع الشريفة أن تتمسك بمعالي الأخلاق والمكارم؛ لأن قَدَرها أن تكون القدوة للعالم الإسلامي كله، وهذا هو الشرف، وهذا هو السؤدد.
وأقول أخيرا: ليحذر المتصدرون من طلبة العلم -فيما يفتون ويقررون- من مسايرة الواقع والوقوع تحت ضغطه، فكأني ببعضهم ولسان حاله يقول: المجتمع يسير نحو التساهل، ولا يسوغ أن يكون سقف المطالب الشرعية عليهم مرتفعا! فلا بد أن تناسب الفتوى مستوى الناس!
وبكلمة أوضح: لا بد أن نخيط أحكام الشرع بحسب مقاس أمزجة الناس وأهوائهم! فكلما فترت همتهم وضعفت عزيمتهم شذّبنا حكما هنا، وقصصنا آخر هناك!
فأضحى الذي يُراعى ليس حدود الشرع وأدلته، وإنما أهواء الناس ورغباتهم، والله المستعان.
وأختم بالتذكير بقول الله تعالى: (ثُمَّ جَعَـلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَـةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَـنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ).
أسأل الله أن يلهم المسلمين رشدهم، وأن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح البلاد والعباد.
وكتبه: د. صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي
5/5/1433هـ