اختلف أهل العلم في السنة المستحبة في الشارب ، على قولين :
القول الأول :
أن السنة هي الحلق بالكلية ، وهو مذهب الحنفية والحنابلة . واستدلوا بظاهر الألفاظ النبوية الواردة في هذا الباب ، ومنها : ( أَحْفُوا الشَّوَارِبَ ) البخاري (5892) ومسلم (259) ، ( أَنْهِكُوا الشَّوَاربَ ) البخاري (5893) ، وفي لفظ لمسلم (260) (جُزُّوا الشَّوَارب) .
قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/230) :
" الإحفاء أفضل من القص ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله" انتهى .
القول الثاني : أن السنة قص الشارب ، وأما حلقه فمكروه : وهو مذهب المالكية والشافعية ، وشدَّد الإمام مالك رحمه الله في ذلك .
واستدلوا على ذلك بما يلي :
1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( الْفِطْرَةُ خَمْسٌ : الْخِتَانُ ، وَالِاسْتِحْدَادُ ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ ، وَنَتْفُ الْآبَاطِ ) رواه البخاري (5891) ومسلم (257) .
2- وعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ : ( كَانَ شَارِبِي وَفَى – أي زاد – فَقَصَّهُ لِي – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – عَلَى سِوَاكٍ ) رواه أبو داود (188) وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
وروى البيهقي في "السنن الكبرى" (1/151) بسنده عن : "عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال :
ذكر مالك بن أنس إحفاء بعض الناس شواربهم فقال : ينبغي أن يضرب من صنع ذلك ، فليس حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الإحفاء ، ولكن يبدي حرف الشفتين والفم .
وقال مالك بن أنس : حلق الشارب بدعة ظهرت في الناس " انتهى باختصار .
وقال أبو الوليد الباجي في "المنتقى شرح الموطأ" (7/266) :
" روى ابن عبد الحكم عن مالك : ليس إحفاء الشارب حلقه ، وأرى أن يؤدب من حلق شاربه . وروى أشهب عن مالك : حلقُهُ مِن البدع .
قال مالك رحمه الله : وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أحزَنَهُ أمرٌ فَتَل شاربه . ولو كان محلوقا ما كان فيه ما يفتل " انتهى . وانظر "التمهيد" (21/62-68) .
وقال النووي في "المجموع" (1/34-341) :
" ثم ضابط قص الشارب أن يقص حتى يبدو طرفُ الشفة ، ولا يحفّه من أصله , هذا مذهبنا " انتهى .
وفي "نهاية المحتاج" للرملي (8/148) من أئمة الشافعية : " ويكره الإحفاء " انتهى . يعني : إحفاء الشارب .
وقد ورد هذا المذهب عن جماعة من السلف أيضا :
فروى البيهقي في "السنن الكبرى" (1/151) بسنده : عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال : رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصون شواربهم ويعفون لحاهم ويصفرونها : أبو أمامة الباهلي ، وعبد الله بن بسر ، وعتبة بن عبد السلمي ، والحجاج بن عامر الثمالي ، والمقدام بن معد يكرب الكندي ، كانوا يقصون شواربهم مع طرف الشفة .
وأجابوا عن أدلة القول الأول بأحد جوابين :
1- أن المراد بالإحفاء والإنهاك هو قص طرف الشعر الذي على الشفة ، وليس حلق أصل الشعر ، بدليل الروايات التي فيها ذكر القص فقط ، فهي مُبَيِّنَةٌ لأحاديث الإحفاء .
قال أبو الوليد الباجي في "المنتقى شرح الموطأ" (7/266) :
" روى ابن القاسم عن مالك : أن تفسير حديث النبي صلى الله عليه وسلم في إحفاء الشوارب إنما هو أن يبدو الإطار : وهو ما احمَرَّ من طرف الشفة ، والإطار جوانب الفم المحدقة به " انتهى .
وقال النووي في "المجموع" (1/340) :
" وهذه الروايات – يعني روايات ( أحفوا..أنهكوا..الشوارب ) – محمولةٌ عندنا على الحف من طرف الشفة ، لا مِن أصل الشعر " انتهى .
2- أن الإحفاء والإنهاك في اللغة لا يعني الإزالة الكلية ، بل يعني إزالة بعضه .
قال أبو الوليد الباجي في "المنتقى شرح الموطأ" (7/266) :
" إنهاك الشيء لا يقتضي إزالة جميعه ، وإنما يقتضي إزالة بعضه . قال صاحب "الأفعال" : نهكته الحمى نهكا : أثرت فيه " انتهى .
والراجح – والله أعلم – هو القول الثاني ، بأن السنة هي القص وليس الحلق .
قال الشيخ ابن عثيمين في "مجموع الفتاوى" (11/باب السواك وسنن الفطرة/سؤال رقم 54) :
" الأفضل قص الشارب كما جاءت به السنة…وأما حلقه فليس من السنة ، وقياس بعضهم مشروعية حلقه على حلق الرأس في النسك قياس في مقابلة النص ، فلا عبرة به ، ولهذا قال مالك عن الحلق : إنه بدعه ظهرت في الناس ، فلا ينبغي العدول عما جاءت به السنة ، فإن في اتباعها الهدى والصلاح والسعادة والفلاح " انتهى باختصار .
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء : ورد في عدة أحاديث : (قصوا الشارب) فهل الحلق يختلف عن القص ؟ وبعض الناس يقص من أول شاربه مما يلي شفته العليا ، ويترك شعر شاربه ، تقريباً يقص نصف الشارب ، ويترك الباقي ، فهل هذا هو المعنى ؟ أو ينهك الشارب أي : يحلق جميعه؟ أرجو الإفادة عن الطريقة التي يقص الشارب بها .
فأجابت
"دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشروعية قص الشارب ، ومن ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم : (قصوا الشوارب وأعفوا اللحى ؛ خالفوا المشركين) متفق على صحته ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى ؛ خالفوا المجوس) ، وفي بعضها : (أحفوا الشوارب) والإحفاء هو المبالغة في القص ، فمن جز الشارب حتى تظهر الشفة العليا أو أحفاه فلا حرج عليه ؛ لأن الأحاديث جاءت بالأمرين ، ولا يجوز ترك طرفي الشارب ، بل يقص الشارب كله ، أو يحفيه كله ؛ عملاً بالسنة" انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز … الشيخ عبد الرزاق عفيفي … الشيخ عبد الله بن قعود . "فتاوى اللجنة الدائمة" (5/149) .
وقد اختار الطبري والقاضي عياض جواز الأمرين : الحف والقص ، ومال إليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/347) .
وانظر : "الموسوعة الفقهية" (25/320) .
والله أعلم .
منقول
بارك الله فيك
راهم مذكورن في 3 في موضوعك