والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على آخر المرسلين سيدنا محمد المصطفى
وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين
هل أغوَّت أمنّا حواء آدم؟
وَإِذْ قُلْنَا لِلْملئكة اسْجُدُواْ لآدم فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكافرين {34} وَقُلْنَا يآدم اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظالمينَ {35} فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمتاع إِلَى حِينٍ {36} فَتَلَقَّى ءادم مِن رَّبِّهِ كلمت فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37} قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاى فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {البقرة:38}
قصة بداية خلق آدم وحواء من القصص التي تشترك فيها جميع الأديان. ولم ترد كثير من تفاصيل القصة المتداولة عند الناس في القرآن الكريم أو في السنة النبوية الشريفة، فكان أن معظم علمنا عن هذه التفاصيل مشتق من الإسرائيليات المحرفة.
خلاصة المفهوم القرآني عن القصة يتكون مما يلي:
خلق الله تبارك وتعالى آدم وحواء من تراب الأرض ومائها وأسكنهما الجنة بعد خلق إبليس الذي كان من جنس الجن. لم يتقبل إبليس الأمر الإلهي بالسجود لآدم تكبرا، فكفر فأغوى آدم وحواء يأكلان من الشجرة المحرمة ليخرجهما من الجنة ومن رحمة الله تعالى. نجح إبليس في الأولى وأخرجهما من الجنة، ولكن رحمة الله تعالى ومغفرته وسعت آدم وحواء فغفر لهما.
هذا خلاصة القصة كما وردت في القرآن الكريم. لكن هناك تفاصيل كثيرة من الإسرائيليات دخلت على أحداث القصة فاختلطت الأمور.
من التفاصيل الدخيلة كيفية دخول إبليس الجنة بعد عصيانه الأمر بالسجود لآدم. ونوع الشجرة، ومن بدأ الغواية آدم أم حواء؟ وقصة الأفعى، وما إلى ذلك من تفاصيل دقيقة حول يوميات آدم وحواء عليهما السلام ….
تبقى عدة أسئلة لا يمكن الإجابة عنها من خلال المفهوم المتداول للقصة:
لو أخطأ آدم، فلماذا يتحمل خطأه الناس من بعده؟
كيف دخل إبليس الجنة وأغوى آدم وحواء بعد عصيان الله تعالى؟
كيف يأمر الله تعالى آدم وحواء بعدم الاقتراب من الشجرة المحرمة وهما في دار نعيم لا دار امتحان؟
لماذا لم تظهر سوآتهما لهما إلا بعد الخروج من الجنة؟
ما هي الشجرة المحرمة في الجنة؟ ولماذا امتحنهما الله تعالى بهذه الطريقة؟
نجيب على هذه الأسئلة لأحداث القصة من منظورنا المبني على آيات القرآن الكريم وما توثق من الحديث النبوي الشريف.
أولا: معنى (الجنة) من القرآن الكريم واللغة
لغة: الجنة هي حديقة شجر ونخل وعنب.
أما في القرآن الكريم فلقد ورد في العديد من المواضع ذكر الجنة، ليس حصرا على جنة الخلد، بل بما يحمل معنى الأرض الجميلة المزروعة الغنّاء. فمثلا:
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أموالهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ … {البقرة:265}
إِنَّا بلوناهم كَمَا بَلَوْنَا أصحاب الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ {القلم:17}
ونحن نستعمل كلمة "جُنَينة" كثيرا في لغتنا العامة لوصف الحديقة الجميلة.
فلماذا نحصر مفهوم (الجنة) في قصة آدم على جنة الخلد والنعيم؟
ثانياً: ورد في العديد من الآيات أن جنة الخلد تتطلب العمل والصبر لدخولها.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم
مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ {البقرة:214}
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ التى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {الزخرف:73}
فما الذي عمله آدم ليسكن جنة الخلد عند بداية خلقه؟
ثالثاً: ورد في العديد من الآيات أن الإنسان – طبعاً أولهم آدم – خلق من الأرض ومن ترابها ومائها.
فلقد خلق الله تعالى آدم وحواء من تراب الأرض. أي أنهما لم يخلقا في مكان آخر ثم أخذوا إلى جنة الخلد والنعيم. فقد ورد على سبيل المثال:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {المؤمنون:12}
وهذا الطين هو طين الأرض التي نحيا عليها:
كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهم مِّمَّا يَعْلَمُونَ {المعارج:39}
فالأرض هي دار آدم وحواء ودارنا:
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ {الأعراف:25}
مِنْهَا خَلَقْناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى {طه:55}
فلو خُلقَ آدم من تراب الأرض التي نعرفها، فأين في القرآن الكريم أو في الحديث النبوي الشريف خبر إخراجه منها إلى جنة الخلد؟
بالنقاط الثلاثة السابقة يتضح أن الجنة التي أخرج منها آدم وحواء ما هي إلا جنة الأرض.
نأتي الآن على أهم ما في قصة آدم، وهو الخروج من الجنة.
فلو قبلنا أن القصة وقعت على جنة في الأرض، فإلى أين خرج آدم إذاً؟
الجواب هو أن كلمة "خرج" لا تعني الخروج الجسدي فقط. فقد يخرج إنسان من رحمة الله تعالى. وقد يخرج الإنسان من همه أو شقائه أو دينه. وكثيرا ما نستعمل هذه الكلمة بهذه المعاني في حياتنا اليومية. فعلى سبيل المثال من القرآن الكريم:
اللّهُ ولىُّ الَّذِينَ ءامنوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلمات إِلَى النُّوُرِ
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظلمات
أُوْلَـئِكَ أصحاب النَّارِ هُمْ فِيهَا خالدونَ {البقرة:257}
وكذلك الحال مع الكثير من الأفعال في اللغة، كفعل "رفع" إذ قد تعني تغير الحالة النفسية أو الاجتماعية أو الروحانية الإيمانية. فمثلا:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامنوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ درجات
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {المجادلة:11}
فلا يفهم "الرفع" من الآية الكريمة بمعناه المكاني، بل بالإيماني.
وكذلك فالفعل "هبط" الذي استخدم لوصف خروج آدم وحواء من الجنة يحمل معني الهبوط الإيماني. فلا شك أن من يعصي يتأثر إيمانه ويهبط. فمثلا جاء في حق أصحاب موسى:
اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سألتم،
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءواْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ … {البقرة:61}
فمعنى { اهْبِطُواْ مِصْراً } أي إن لم ترضوا بما أكرمكم تعالى بإرسال نبي كريم لكم وبإخراجكم من مصر، فعودوا واهبطوا لو رغبتم إلى حالتكم السابقة من الذّل والهوان عند قوم فرعون.
فآدم وحواء كانا في جنة الأرض في حالة إيمانية روحانية رفيعة بسبب النفخة الإلهية المقدسة. فهم بهذه النفخة الإلهية الكريمة كانوا متعلقين بالله تعالى في عبادة وخشوع وترهب وقدسية وطهارة وملائكية.
لا يكترثون بالملذات الأرضية ولا ينظرونها ولا يعيرونها أي اهتمام. مثلهم كمثل الأنبياء والأولياء والصالحين الذين لا يشغلهم إلا التعبد والصفاء والتجرد والتعلق بالله تعالى.
ولكن بمجرد حدوث المعصية تلاشت الأنوار القدسية الإيمانية منهما مباشرة، وأصبحا إنسانين عاديين يشغلهما ما يشغل البشر من أمور الدنيا والإغواء. وهذه هي عملية الإخراج والهبوط إلى الأرض ومشاغلها.
هنا لا أقلل من إيمان آدم عليه السلام، فهو نبيٌ كريم كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. لكن ما أعنيه أن "النفخة الإلهية لآدم" كانت عالية بدرجة أن من تشرف بالحصول عليها يرقى بمشاعره وإيمانه إلى درجاتٍ غاية في السمو والرفعة.
فالهبوط والإخراج المقصود في أحداث القصة هو "تغير في الحالة الإيمانية من الأعلى إلى الأسفل" …
وندلل على هذه نقطة جنة الأرض بقوله تعالى من سورة الرحمن:
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ {الرحمن:46}
فالجنتان في الآية الكريمة يفهم منها أنهما جنة الأرض للمؤمن نتيجة روحانيته المرتفعة، وجنة الآخرة الدائمة …
نعرض الآن بعض الملاحظات التي تدعم قولنا:
أولاً:
مما يشير إلى أن الهبوط المقصود في قصة آدم هو "الهبوط الإيماني" هو ارتباط ذكر الهبوط من الجنة بذكر المشاعر الإنسانية الأرضية من إغواء وعداوة وبغضاء، كما يظهر تالياً:
فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ
وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمتاع إِلَى حِينٍ {البقرة:36}
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ {طه:123}
فالعداوة والمشاعر الأرضية جاءت بعد الهبوط الإيماني …
لاحظ أيضاً ورود الإغواء الأرضي مباشرة بعد المعصية:
وَعَصَى ءادم رَبَّهُ فَغَوَى {طه:121}
فآدم عصى وبهذا خرج مما كان فيه من حالة إيمانية ملائكية عالية إلى مرحلة التعرض "للإغواء" الأرضي البشري.
والارتباط بين الهبوط الإيماني والغضب الإلهي جاء أيضا في سورة البقرة في حق اليهود كما شرحناه في الأعلى:
اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سألتم،
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءواْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ … {البقرة:61}
ثانياً:
ما يشير إلى صحة منظورنا هو أن (سَوْءاتهُمَا) لم تظهر لآدم وحواء قبل المعصية. فقد كانت موجودة طيلة الوقت لأنهما بشر، إلا أنهما في الحالة الإيمانية الرفيعة الطاهرة الملائكية لم يكترثا بهذه الأعضاء ولم يشغلهما التفكير بها إذ إن حالتهما الإيمانية ومشاعرهما كانت مترفعة فوق ذلك.
ولكن وبمجرد حدوث المعصية، ظهرت هذه الأعضاء. فلاحظ حرف الفاء في كلمة (فَبَدَتْ) التي تدل على التتابع الزمني من دون تراخي في الآية:
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ {طه:121}
فكلمة "فبدت" لغة من بدا يَبْدو إذا ظهر. فهي تعني أن الشيء كان موجودا لكنه غير ظاهر.
ولاحظ أيضاً حرف الفاء في (فَلَمَّا) التي تدل على التتابع الزمني من دون تراخي في نفس الموضوع:
فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ {الأعراف:22}
فالتتابع الزمني بحرف الفاء للمعصية وظهور (سَوْءَاتُهُمَا) لهما ورد في أكثر من موضع للقصة.
فسَوْءاتهُمَا كانت موجودة أيام تأثير النفخة الربانية، إلا أنها لم تظهر لهما لانشغالهما بالتعبد والزهد والأنوار الإلهية، ولكنها بَدَت وظهرت مباشرة بعد زوال تأثير النفخة الإيمانية بعد المعصية.
في الواقع، كثيرا ما يمر الناس بهذه المرحلة الروحانية العالية الصافية الملائكية. فالإنسان الضال مثلا يشغل باله وينفق ماله في ملذات الأرض. ومهما سمع أو أبصر من آياته تعالى فلن يتأثر بها:
وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ {9}
وَسَوَاء عَلَيْهِمْ ءأنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ {يس:10}
وبالعكس أيضاً، فبمجرد أن يهديه الله تعالى، يتغير كل شيء وتتغير نظرته إلى ملذات الأرض تماماً. فيمر على الملذات والإغواء والشهوات الدنيا مرور الكرام ويغض البصر عنها ولا تشغله ولا تغويه كما كانت في عهد ضلاله القريب.
فقصة آدم وحواء عليهما السلام مع إغواء إبليس حدث يعيشه كل إنسان في جميع العصور، وليست مخصصة لهما فقط. فكل منا يمرُّ بما مرّ به آدم وحواء من حيثية الهدى والسمو والرفعة الإيمانية ومن حيثية المعصية والهبوط والضلال بتأثير من إبليس وأعوانه. وهذا من تمام العدل الإلهي والحكمة الربانية، فكلنا آدم وكلنا حواء.
ما الشجرة المحرمة؟ ولماذا حرمها تعالى على آدم وحواء؟
وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظالمينَ {البقرة:35}
هذه الشجرة هي أحد أنواع النبات الضار أو السام أو المخدر، أو ما إلى ذلك. فالله عزّ وجلّ لا يأمر إلا بما هو خير للإنسان.
ويقال في بعض الأديان إن الشجرة المحرمة هي التفاح. وهذا كلام باطل. فالتفاح فاكهة مفيدة للغاية، فلماذا يحرمها تعالى وهو العليم الحكيم؟
فامتحان الشجرة هو أمر شرعي منه تعالى للإنسان آنذاك. فالحياة في ذلك العهد كانت بسيطة للغاية. فليس من تجارة واقتصاد مما يستلزم وضع شرائع دقيقة مفصلة. وليس من مجتمعات إنسانية كبيرة تتطلب وضع الضوابط كقضايا الزواج والحدود والمعاملات. ولم يكن من جيوش وفتوحات كي توضع لها القيود الشرعية الضابطة.
فكانت الحياة بسيطة. آدم وحواء في جنة من جنان الأرض. كل ما يحتاجانه من الشرائع بضع أوامر مثل لا تقربا هذه الشجرة الضارة، وما إلى ذلك من أمور شرعية قليلة كافية لتدبر أمر مجتمع صغير، أو عدة عوائل.
فالإنسان يتطور ويتعلم بتقادم الزمن وتراكم الخبرات. كما إن عدد الناس والمجتمعات يزداد ويتعقد ويتشعب. وكذلك الحال مع الشرائع السماوية. فالله تعالى الحكيم القدير ينزل من الشرائع والضوابط ما يناسب ظروف الإنسان، كل في حينه.
ونحن نلحظ التدرج في الشرائع السماوية. فقد بدأت بسيطة وتطورت وتشعبت إلى أن وصلنا إلى الإسلام، آخر الأديان السماوية وأكثرها دقة وشمولية وتفصيلا.
ويقال كذلك ما هو أكثر غرابة، وهو أن حواء هي التي أغوت آدم. فجعلوها بهذا صنواً للشيطان! وهذا ظلم مبين يفعله الرجل دوما في حق المرأة المستضعفة باسم ضعفها وجهلها وقلة عقلها وحيلتها وفضيلتها وباسم العادات الاجتماعية والقبلية، بل وحتى باسم الأديان. (عذرا شديداً على توصيف النساء الأمهات الأخوات البنات الكريمات بهذه الألفاظ التي لا أتفق معها كليا).
وظُلم الرجل للمرأة ليس أمراً طارئاً يحدث في مجتمعات محددة في أزمنة محددة. بل هو يحدث دوما وباستمرار. والسبب أن الإنسان خُلق ظلوما، والظالم دوما يتقوى على الضعيف. فقد وصف تعالى الإنسان بأنه ظلوم:
وَءاتاكُم مِّن كُلِّ مَا سلتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا
إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ {إبراهيم:34}
وَحَمَلَهَا الْإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً {الأحزاب:72}
والظالم بطبيعة الحال لا يظلم الأقوى منه، وإلا لكان مغوارا شجاعاً. ولكن الظلمَ يقع دوما على الأضعف والأصغر والأفقر، سواء كان فردا أو عائلة أو أقلية أو دولة ضعيفة.
ولأن المرأة أضعف جسديا من الرجل، ولأن جنس الإنسان ظلوم برجاله ونسائه، أصبح ظلم المرأة واقعاً لا محالة ابتداءً من زمن آدم، إلى قيام الساعة.
طبعاً الشرائع السماوية تنصف المرأة من هذا الظلم المبين. لكن الإشكال أن فهم الأديان واستنباط أحكامها وتطبيق هذه الأحكام يفعله القوي – أي الرجل – فيستنبط من الشرائع ويختار من الآراء ما يظلم به المرأة فيحق عليه القول : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} …
فليس التاريخ هو الذي يكتبه الأقوياء المنتصرون فقط، بل حتى الشرائع السماوية يستنبط الأقوياء المنتصرون منها ما يشاءون ويطبقوا منها ما يشتهون. والتاريخ بكامله يشهد على هذا.