من الطارق؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد,
يزعم الذين لا يعرفون الآداب الإسلامية، ولا علم لهم بما زين الله به المسلمين من الصفات الشريفةِ، وحلاهم به من المكارم والآداب، أن الاستئذان من أخلاق الغربيين ومدنيتهم الحاضرة، وهو والله معروف عند العرب قبل الإسلام، فقد كان أحدهم لا يدخل بيت غيره إلا بإذنه، ولا يغشى مكانه إلا بعد أن يستأنس ويسلم على أهله، بيد أنهم كانوا يتساهلون في الاستئذان على أقاربهم، ويدخلون بيوت آبائهم وأبنائهم وأصدقائهم فجأة وقبل أن يؤذن لهم، فنهاهم الله عن ذلك، وأخبرهم بوجوبه على كل حال، وبين لهم ما فيه من الفوائد والأسرار، إلا أنه قد وقع تقصير من الذين لا علم لهم بالقرآن، ولا معرفة لهم بأحكام الشريعة، وما وضعته من أحكام وآداب لاحترام المنازل والبيوت في أدب الاستئذان، فأهملوا وتساهلوا، وأخذ الأجانب عنا هذه المكرمة، ومنا تعلموها، فحافظوا عليها، وعملوا بها في كل مكان، ونسبوها إلى أنفسهم، وصدقهم الجهال والذين يبخسون الناس أشياءهم ([1]).
وفي هذا الكتاب بيان لأحكام الاستئذان وآدابه من خلال بعض ما ورد في الكتاب والسنة وما روي عن سلف الأمة في تطبيق هذه الآداب التي نسأل الله عز وجل أن يرزقنا التأدب بها.
قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا{([2])؛ لما خص الله سبحانه ابن آدم الذي كرَّمه وفضله بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها، أدبهم بما يرجع الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة([3]).
والحكمة في وجوب الاستئذان والغرض من تشريعه: أن المرء قد يكون على حالة لا يحب أن يراه أحد عليها من عمل خاص أو محادثة سرية، أو معاشرة زوجية، أو معالجة طبية؛ فيدخل عليه ولد، أو صديق أو خادم وهو عارٍ أو مستغرق في حديثه أو مستمر في تفكيره فيخجله ويزعجه ويصرف عنه وجهه ساخطًا مستحييًا ويتمنى له ذهاب سمعه وبصره الذي كشف به عورته واطلع بها على سوأته.
ولم يشرع الاستئذان لئلا يطلع الداخل على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل إليه فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنَّه تصرف في ملك غيرك، فلابد من أن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب والتغلب ([4]).
ومن مفاسد الدخول على البيوت بلا استئذان أن ذلك يوجب الريبة من الداخل ويتهم بالشر سرقة أو غيرها، لأن الدخول خفية يدل على الشر ([5]).
والاستئذان معناه الاستعلام والاستكشاف للحال؛ هل يؤذن لك أولا ([6])؟
والمعتمد وجوبه؛ فيثاب على فعله ويعاقب على تركه إلا أن يشاء الله كما هو شأن الواجبات ([7]).
والاستئذان عند الدخول ثلاث مرات بأن يقول المستأذن في كل واحدة منها:
السلام عليكم، أأدخل؟ فيجمع بين السلام والاستئذان كما صرح به في القرآن }حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا{.
والتثليث في الاستئذان سنة إلا أن يجاب قبلها, فإن لم يؤذن له عند الثالثة, فليرجع ولا يزيد على الثلاث، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لا مطعن فيه لحديث: «الاستئذان ثلاث مرات، فإن لم يؤذن له الثالثة رجع».
وينبغي للمستأذن أن ينتظر مدة صلاة ركعتين ويطرق ثانية، ثم ينتظر نفس المدة، ثم يطرق ثالثة وينتظر ثم ينصرف إن لم يفتح له([8]).
ومن العلماء من قدَّر الانتظار بين الدقتين بمقدار صلاة أربع ركعات، إذ قد يكون الإنسان في بدء الطرق للباب قد بدأ بصلاته([9]).
وإنما خص الاستئذان بثلاث؛ لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثًا سُمع وفهم ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثًا، وإذا كان الغالب هذا، فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث, ظهر أن رب المنزل لا يريد الإِذن أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه؛ فينبغي للمستأذن أن ينصرف لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإِلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولاً به([10]).
فصاحب المنزل عندما يأمر بالرجوع لم يمنع المستأذن حقًا واجبًا إنما هو متبرع فإن شاء أذن أو منع([11]).
فإذا تيقن المستأذن أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثالثة؛ لأنهم سمعوه ولم يأذنوا له دل ذلك على عدم الإِذن, وكذلك إذا لم يدر هل سمعوه أو لا, فإنه يلزمه الانصراف بعد الثالثة([12]).
قال قتادة رحمه الله في قوله تعالى: }حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا{ قال: هو الاستئذان، قال: وكان يقال: الاستئذان ثلاث فمن لم يؤذن له فيهنَّ، فليرجع.
أما الأولى: فليسمع الحي. وأما الثانية: فليأخذوا حذرهم.
وأما الثالثة: فإن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا ردوا.
ولا تقفنَّ على باب قوم ردوك عن بابهم فإن للناس حاجات ولهم أشغال والله أولى بالعذر([13])؛ ولهذا قال تعالى في نهاية الآية: }ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ{ أي: الاستئذان والتسليم }خَيْرٌ لَكُمْ{ من تحية الجاهلية والدمور وهو الدخول بغير إذن, فكان الرجل في الجاهلية إذا دخل بيت غيره يقول: حُييتم صباحًا وحييتم مساءً، ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد, وقوله تعالى: }لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{ أي: قيل لكم هذا لكي تذكروا وتتعظوا وتعملوا ما أمرتم به في باب الاستئذان([14]).
فإذا قال أهل المنزل للمستأذن: ارجع وجب عليه الرجوع لقوله تعالى: }وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ{[النور: 28] وكان بعض أهل العلم يتمنى إذا استأذن على بعض أصدقائه أن يقولوا له: ارجع ليرجع فيحصل له فضل الرجوع المذكور في قوله تعالى: }هُوَ أَزْكَى لَكُمْ{ لأن ما قاله الله إنه أزكى لنا, لا شك أن لنا فيه خيرًا وأجرًا والعلم عند الله تعالى([15]).
إن من الخير لك ولصاحبك -أيها الطارق- أن يعتذر عن استقبالك بدلاً من الإذن على كراهية ومضض، ولو أخذ الناس أنفسهم بهذا الأدب، وتعاملوا بهذا الوضوح؛ لاجتنبوا كثيرًا من سوء الظن في أنفسهم وإخوانهم.
فإذا استأذن الإنسان على شخص, فأذن له بالدخول أو علم يقينًا أن صاحب المنزل مستعد لدخوله بأن واعده بعد صلاة الظهر مثلاً ووجد الباب مفتوحًا, فهو إذن له بالدخول؛ فلا فرق في الإِذن بين أن يكون سابقًا أو لاحقًا والأولى أن يسلم المستأذن عند الدخول ليحصل على أجر السلام وثوابه والدعاء من أخيه عندما يرد عليه سلامه([16]).
وينبغي للمستأذن ألاَّ يدق الباب بعنف لنسبة فاعل ذلك عرفًا إلى قلة الأدب([17]).
وينبغي للمستأذن ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ولكنه يقف جاعلاً الباب عن يمينه أو يساره وهو يستأذن فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول: السلام عليكم.. السلام عليكم ([18])، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور.
والسبب في ذلك أن المستأذن لا يقف مستقبل الباب خوفًا أن يُفُتح له الباب, فيرى من أهل المنزل ما لا يحبون أن يراه بخلاف ما لو كان الباب عن يمينه أو يساره فإنه وقت فتح الباب لا يرى ما في داخل البيت والعلم عند الله ([19]).
وقد جعل الله للبيوت أبوابًا يدخل منها قال تعالى: }وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى{[البقرة: 189]، وعليه, فلا يجوز دخول البيوت من الحديثة أو النافذة ([20]).
وإذا قال صاحب البيت للمستأذن: من أنت؟ فلا يجوز له أن يقول: «أنا»، بل يفصح باسمه وكنيته إن كان مشهورًا به، لأن لفظة «أنا» يعبر بها كل أحد عن نفسه؛ فلا يحصل بها معرفة المستأذن وقد ثبت معنى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لا مطعن فيه، قال جابر: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دَيْن على أبي، فدققت الباب فقال: «من ذا؟»، فقلت: «أنا»، فقال: «أنا، أنا» كأنه كرهها ([21]).
وإنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن قوله: «أنا» لا يحصل بها تعريف، وإنما في ذلك أن يذكر اسمه كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأن في ذكر الاسم إسقاط كُلْفَةِ السؤال والجواب فقد أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال: السلام عليك يا رسول الله, السلام عليكم أيدخل عمر؟([22]).
فتكرير النبي صلى الله عليه وسلم لفظة: «أنا» دليل على أنه لم يرضها من جابر؛ لأنها لا يعرف بها المستأذن, فهي جواب له صلى الله عليه وسلم بما لا يطابق سؤاله.
وظاهر الحديث: أن جواب المستأذن بـ «أنا» لا يجوز لكراهة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وعدم رضاه به خلافًا لمن قال: إنه مكروه كراهة تنزيه وهو قول الجمهور ([23]).
قال النووي وغيره: ولا بأس أن يقول: الشيخ فلان، أو القارئ فلان، أو القاضي فلان، إذا لم يحصل التمييز إلا بذلك، وإنما علة الكراهة لعدم حصول الفائدة بقولهأنا) فإنه ما زاد على أنَّ ثم على الباب إنسانًا وذلك حاصل بالاستئذان([24]).
وإذا كان اسم المستأذن لا يحصل به التعريف؛ لاشتراك شخص آخر معه في نفس الاسم، ولم يمكن تمييز الصوت، فإنه ستحب للمستأذن أن يزيل هذا الإِبهام؛ ليحصل التعريف فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في النساء في يوم العيد وانصرف إلى منزله، قال الراوي: فلما صار إلي منزله جاءت امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله هذه زينب، فقال: «أي الزيانب؟» فقيل: امرأة ابن مسعود، قال: «نعم ائذنوا لها…» الحديث([25]).
أما إذا لم يوجد في البيت أحد فقد قال تعالى: }فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ{[النور: 28] يعني: فإن لم تجدوا في البيوت أحدًا من الآذنين }فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ{ حتى تجدوا من يأذن لكم، أو }فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا{ من أهلها ولكم فيها حاجة }فَلَا تَدْخُلُوهَا{ إلا بإذن أهلها؛ لأن التصرف في ملك الغير لابد من أن يكون برضاه ([26]).
فسواء كان الباب مغلقًا أو مفتوحًا؛ لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإِذن من ربه، بل يجب عليه أن يأتي الباب ويحاول الإذن على صفة لا يطلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه([27]).
ومن نظر من كوة([28]) إلى داخل منزل قوم ففقؤوا عينه التي نظر إليهم بها، ليطلع على عوراتهم أنه لا حرج عليهم من ذلك من إثم ولا غرم دية العين ولا قصاص, وهذا لا ينبغي العدول عنه؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لا مطعن فيه قال صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّ امرءًا اطَّلع عليك بغير إذن فقذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح»، والجناح: الحرج أي: لا إثم ولا دية ولا قصاص, وقد همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ عين رجل اطلع في بعض حجره فقام إليه بمشقص([29]) أو مشاقص, وجعل يختله, ليطعنه وقد كان معه مدرى([30]) يحك به رأسه([31]).
وروي في الصحيح عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رجلاً اطَّلع في حجر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يرجل به رأسه فقال صلى الله عليه وسلم: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك إنما جعل الله الإذن من البصر»([32]).
وما أهدر الشارع عين من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم إلا احتفاظًا بحقوق الجار، ودفعًا لما يكره من التحسس والتجسس، وقيل: إن رجلاً رؤي بعد موته ورأسه يشتعل نارًا، وكان معروفًا بالخير والصلاح, فسئل عنه، وتبين أنه كان يخرج رأسه من نافذة, ليتطلع منها إلى جيرانه ([33]).
والكوة: في معنى الباب بجامع توصل النظر من كل منهما ([34]).
وقد ورد أن معاذًا رضي الله عنه رأى امرأته طلع من كوَّة, فأوجعها ضربًا([35]).
وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رجلاً اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح»([36]).
والأعمى كالبصير لا يحل له دخول البيوت إلا بإذن أهلها, فربما اكتشف بسمعه ما لا يدركه البصير بعينه.
([1])إصلاح المجتمع للبيحاني، ص(191) بتصرف يسير.
([2])النور: 27.
([3])تفسير القرطبي، (12/216).
([4])انتهى كلام الزمخشري من تفسير القاسمي، (5/297).
([5])تفسير السعدي، (5/406).
([6])أضواء البيان، لعلامة الشنقيطي، الجزء السادس تفسير سورة النور.
([7])غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني بتصرف، (1/237).
([8])دور البيت في تربية الطفل المسلم، خالد أحمد الشنتوت ص(40).
([9])من أدب الإسلام، عبد الفتاح أبو غدة ص(18).
([10])تفسير القرطبي، 12/219.
([11])تفسير السعدي، 5/406.
([12])أضواء البيان، 6 باختصار.
([13])تفسير ابن كثير.
([14])تفسير النسفي للآية من سورة النور.
([15])أضواء البيان 6.
([16])شرح الشيخ ابن عثيمين على رياض الصالحين، باب الاستئذان وآدابه.
([17])غذاء الألباب، 1/423.
([18])أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم الرجل.. رقم (5186)، والبخاري في الأدب المفرد انظر: فضل الله الصمد، (2/513)، (1078)، وهو صحيح، انظر: صحيح الجامع للألباني، رقم (4638).
([19])أضواء البيان، 6.
([20])دور البيت في تربية الطفل المسلم، خالد أحمد الشنتوت ص(40).
([21])أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، باب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا، رقم (6250)، ومسلم كتب الآداب باب كراهة قول المستأذن: أنا، إذا قيل: من هذا، رقم (2155).
([22])أخرجه أبو داود في الأدب وأحمد في المسند [1/303].
([23])أضواء البيان، 6.
([24])نقله عنه صاحب غذاء الألباب، (1/243).
([25])رواه البخاري، (1462).
([26])تفسير النسفي للآية من سورة النور.
([27])تفسير القرطبي، (12/223).
([28])هي: (الخرق والثقب في الحائط).
([29])والمشقص هو نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض.
([30])يقال: دَرَىْ رأسه بالمدرى: مشطه: فالمِدرى والمدراة: شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط وأطول منه يسرح به الشعر المتلبد، ويستعمله من لم يك له مشط، راجع: لسان العرب مادة (دري).
([31])أضواء البيان، 6.
([32])أخرجه البخاري في كتاب الدِّيات باب من اطَّلع في بيت قوم. ومسلم في الأدب باب تحريم النظر في بيت غيره.
([33])إصلاح المجتمع للبيحاني: ص199.
([34])غذاء الألباب، 1/243.
([35])أحكام النساء، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي ص (269).
([36])أخرجه البخاري بلفظ قريب في الديات باب رقم 15/23. والنسائي في القسامة باب رقم (48).
أما البيوت غير المسكونة: فيها فقد قال الله عنها: }لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ{ أي: حرج وإثم }أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ{([4]) المراد بها: الخانات وما بني للسابلة أو جميع البيوت التي ليس لها ساكن؛ لأن الاستئذان إنما ورد لئلا يطلع على العورات, فإذا أمن ذلك جاز الدخول بغير إذن([5]).
فهذه الآية الكريمة أخص من التي قبلها، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد، إذا كان له فيها متاع، بغير إذن؛ كالبيت المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة كفى([6]).
وقوله تعالى }أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ{ هذا من احترازات القرآن لعجيبة, فإن قوله }لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ{ لفظ عام في كل بيت ليس ملكًا للإنسان, أخرج منه تعالى البيوت التي ليست ملكه، وفيها متاع، وليس فيها ساكن فأسقط الحرج في الدخول إليها([7]).
قال تعالى: }وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ{[المائدة: 99] وعيد لمن يدخل مدخلاً من هذه المداخل لفساد أو اطلاع عورات([8]).
فإذا ثبت أن الإِذن شرط في دخول المنزل، فإنه يجوز من الصغير والكبير وكان أنس بن مالك رضي الله عنه دون البلوغ يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضوان الله عليهم([9]).
ويلزم الرجل أن يستأذن على أمهوأخته وبنيه وبناته البالغين، لأنه إن دخل على من ذكر بغير استئذان, فقد تقع عينه على عورات من ذكر لا يحل له وقد كان ابن عمر رضي الله عنه إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن.
وجاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تحب أن تراها([10]).
وسأل رجل حذيفة استأذن على أمي؟ فقال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره([11]).
وقال عطاء: سألت ابن عباس رضي الله عنهما استأذن على أختي؟ قال نعم، فأعدت عليه فقلت: أختان في حجري، وأنا أُموِّنهما، وأنفق عليهما، أستأذن عليهما؟ قال: «نعم، أتحب أن تراهما عريانتين؟!»([12]).
ويستحب للمستأذن الإِتيان بشيء من تحريك نعل أو نحنحة أو صوت, وذلك لئلا يرى أمرًا يكرهه الداخل، أو أهل المنزل، ولأنه ربما أفضى إلى الشحناء بين الأهل؛ لأنه قد يرى من عوراتهم ما لا يحب، فإذا حرك نعله أو تنحنح أو أظهر حسه انتفى ذلك ولا يختص ذلك بدخوله على الأجانب([13]).
أما الزوج فإنه لا يجب عليه الاستئذان على زوجته، والأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها، وقد روت زوجة عبد الله بن مسعود أنه إذا جاء من حاجة, فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منَّا على أمر يكرهه([14]).
وإذا لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته, فإن الأظهر أنه لا يستأذن عليها وذلك يفهم من ظاهر قوله تعالى }لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ{ ولأنه لا حشمة بين الرجل وامرأته ويجوز بينهما من الأحوال والملابسات ما لا يجوز لأحد غيرهما, ولو كان أبًا أو أمًا أو ابنًا كما لا يخفى ويدل له الأثر عن موسى بن طلحة: أنه دخل مع أبيه طلحة على أمه فزجره طلحة عن أن يدخل على أمه بغير إذن مع أن طلحة زوجها بغير إذن, وهذا يفيد ما سبق الإشارة إليه؛ من أنه لا يستأذن الرجل على امرأته إذا لم يكن في البيت إلا هي, ويفيد أنه إذا وجد في البيت أولاد فإن الأولى في حق ألأب أن يستأذن على امرأته؛ لأن عدم الاستئذان قد يفضي إلى تساهل الزوجة فربما جرَّ ذلك إلى دخول أطفالها من بنين وبنات على حالة لا ترضى أن يراها عليها أولادها ظنًا منها أن الذي فتح الباب من غير طرق زوجها، وكذلك فإن في استئذان الزوج على زوجته تعليماً للأولاد أدب الاستئذان على الوالدين؛ فالأب هو القدوة والمعلم في البيت.
أما إذا كان الزوج مسافرًا سفرًا بعيدًا كره له أن يأتي ليلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى إذا أطال الرجل الغيبة أن يأتي أهله طروقًا.
وفي رواية: «نهى أن يطرق أهله ليلاً»([15]) يتخونهم أو يطلب عثراتهم، يقال لكل من أتاك ليلاً طارق، ومنه قوله تعالى: }وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ{[الطارق] يعني: النجم؛ لأنه يطرق بطلوعه ليلاً ([16]).
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلاً، وكان يأتيهم غدوةً أو عشيةً([17]).
وجاء ذكر السبب في هذا النهي من حديث جابر في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى تمتشطَ الشعثة، وتستحدَّ المعينة» وقوله في الحديث «تستحد» أي: تصلح من شأن نفسها والاستحداد مشتق من الحديد وهو إزالة الشهر بالموس([18]).
وقوله في الحديث: «المعينة» يعني ذات العانة، يقال استعان الرجل يعني حلق عانته واستعمل الاستحداد على طريق الكناية والتورية، والمراد كي تمتشط وتهيئ حالها وتزيل الشعر الذي تعافه النفوس وهو شعر العانة([19]).
فالإنسان إذا غاب عن أهله وطالت غيبته فلا يطرقهم ليلاً؛ أي: لا يأتيهم في الليل إلا لحاجة أو إعلان؛ الحاجة: مثل أن يحصل عليه في السفر مشقة لو انتظر إلى الصباح مثلاً.. وكذلك إذا كان قد أعلمهم أنه سيقدم عليهم الليلة الفلانية؛ فلا بأس أن يقدم عليهم ليلاً.. أما إذا لم يطل السفر، كسفر يوم أو يومين أو ما أشبه ذلك، فلا حرج عليه أن يقدم إلى أهله متى شاء، والحاصل أنه إذا أطال الغيبة فلا يقدم على أهله ليلاً إلا لحاجة أو إعلام فلا بأس ([20]).
وقوله تعالى:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ{([21]) يعني العبيد والإماء }وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ{ من الأحرار؛ ليس المراد منهم الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء، بل الذين عرفوا النساء ولكن لم يبلغوا([22]).
}ثَلَاثَ مَرَّاتٍ{ثلاث أوقات في اليوم والليلة، وعبر بالمرات عن الأوقات لأن أصل وجوب الاستئذان هو سبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات ([23]).
وقوله تعالى: }مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ{ فهذه الأوقات الثلاثة التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ووقت الخروج من الثياب ولبس ثياب النهار، ووقت القائلة وقت التجرد أيضًا وهي الظهيرة؛ لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره، وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم؛ فالتكشف غالب في هذه الأوقات([24]).
وقوله تعالى: }عَوْرَاتٍ لَكُمْ{ سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته([25]).
وقوله تعالى: }لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ{: أي ليس على المماليك ولا على الصبيان جناح: أي إثم في الدخول بغير استئذان؛ لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر والاطلاع على العورات.. ومعنى }بَعْدَهُنَّ{: بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منها.. وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها([26]).
وقوله تعالى: }طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ{: معنى هم طوافون }طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ{ أي يطوفون عليكم وتطوفون عليهم.. فمنع في الثلاث عورات من دخولهم علينا: لأن حقيقة العورة كل شيء لا مانع دونه، ومنه قوله: }إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ{[الأحزاب: 13]([27]).
وقوله تعالى: }وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ{ أي حد البلوغ بالاحتلام، أو بالسن الذي هو مظنة الاحتلام([28]).
فبين سبحانه ها هنا حكم الأطفال الأحرار إذا بلغوا الحلم بعدما بين فيما مر حكم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم في أنه لا جناح عليهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة فقال: }فَلْيَسْتَأْذِنُوا{ يعني: الذين بلغوا الحلم إذا دخلوا عليكم }كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ{ والكاف نعت مصدر محذوف: أي استئذانًا كما استأذن الذين من قبلهم، والموصول عبارة عن الذين قيل لهم :لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأذنوا الآية والمعنى: إن هؤلاء الذين بلغوا الحلم يستأذنوك في جميع الأوقات كما استئذن من قبلكم من الكبار الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء ([29]).
ولم يقل الله عن الأطفال في الآية السابقة: (فليستأذنوكم) وإنما قال: }فَلْيَسْتَأْذِنُوا{ وقال في الآية الني قبلها: }لِيَسْتَأْذِنْكُمُ{ لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين([30]).
وفي قوله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ{ فوائد منها: أن السيد وولي الصغير مخاطبان بتعليم عبيدهم ومن تحت ولايتهم من الأولاد العلم والآداب الشرعية؛ لأن الله وجَّه الخطاب إليهم بقوله: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ…{ الآية, فلا يمكن ذلك إلا بالتعليم والتأديب، ولقوله: }لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ{[النور: 58]([31]).
فالأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث, فإذا اعتاد الأطفال ذلك خرجوا عن حد الطفولة بأن يحتلموا أو يبلغوا السن التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ, فيجب عندئذ أن يفطموا عن تلك العادة، وأن يحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات؛ كما يستأذن الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليهم إلا بإذن([32]).
([1])النور: 28.
([2])البغوي (6/60).
([3])تفسير النسفي للآية من سورة النور.
([4])النور: 29.
([5])غذاء الألباب (1/237).
([6])تفسير ابن كثير.
([7])تفسير السعدي، (5/408).
([8])الكلام لأبي السعود من تفسير القاسمي (5/298).
([9])تفسير القرطبي، (12/224).
([10])رواه البخاري في الأدب المفرد (1059) وقال الألباني: صحيح الإسناد.
([11])رواه البخاري في الأدب المفرد (1060) وقال الألباني: حسن الإسناد.
([12])رواه البخاري في الأدب المفرد (1063) وقال الألباني: صحيح الإسناد.
([13]) غذاء الألباب، (1/243).
([14]) صحح إسناده ابن كثير.
([15])البخاري، (9/296 و 297)، ومسلم (3/1528) رقم حديث الباب (184)، وأخرجه أبو داود، (2776 و 2777 و 2778)، والترمذي (2713).
([16])غذاء الألباب، (1/240).
([17])رواه البخاري، (3/493)، ومسلم (1928).
الغدوة: أول النهار. والعشية: آخره.
([18])غذاء الألباب، (1/240).
([19])غذاء الألباب (1/243).
([20])شرح رياض الصالحين، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، باب استحباب القدوم على أهله نهارًا، باختصار وتصرف يسير.
([21])النور: (58).
([22])تفسير البغوي، (6/60).
([23])فتح القدير للشوكاني (4/50).
([24])تفسير القرطبي، (12/303).
([25])تفسير البغوي، (6/61).
([26])فتح القدير، 1/51، 52.
([27])تفسير القرطبي، (12/304 و 305).
([28])تفسير القاسمي، (5/326).
([29])فتح القدير للشوكاني (4/52).
([30])تفسير القرطبي، (12/443).
([31])تفسير السعدي (5/326).
([32])تفسير القاسمي، (5/326) بتصرف يسير.
وأخيرًا فإنه يلحق بالاستئذان في البيوت الاستئذان في دخول بيت الخلاء (الحمام), وذلك بعد طرق الباب والتأكد من أنه لا يوحد فيه أحد وكذلك يلحق الاستئذان في كل شيء لغيرك لا يحب أن تراه أو تطلع عليه؛ كمستودعات الذخائر والأموال وعروض التجارة والكتب المؤلفة، والتي تراه يكتبها أو يطلع فيها من رسالة يبعث بها أو ثانية تسلمها فهو يقرؤها. وقد يقف الجاهل أو المتجاهل وراء من يكتب شيئًا أو يقرؤه ليطلع عليه، وحق هذا أن تفقأ عين, حتى يكف أمثاله عن التجسس والفضول وإذا كان الله قد أمر الناس بالاستئذان على آبائهم وأمهاتهم بل وفي بيوتهم وعلى زوجاتهم, فما بال كثيرين منهم يلجون البيوت والمكاتب ودواوين الأعمال فجأة، ويدخلونها بدون سابق إخبار ويعرضون أنفسهم لمخالفة الآداب ولشديد العقاب من الذين لا يلقون للداخل عليهم أي حساب ([1]).
أسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والدعوة إليه وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
([1])إصلاح المجتمع للبيحاني، ص193 و 194 باختصار وتصرف.