بسم الله الرحمن الرحيم
من المعلوم أنَّ مصدر التلقِّي عند أهل السُّنَّة والجماعة هما الأصلان الأصيلان والموردان الصَّافيان، كتاب الله عزَّ وجلّ وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللذَين أُمرنا بردِّ الأمور إليهما عند التنازع والاختلاف، قال تعال: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾[النساء: 59].
يضاف إلى هذين الأصلين أصلٌ ثالث، به تُفارق الفرقة الناجية فِرق الضَّلال وتتميَّز عنهم، وهو اتِّباع منهج السَّلف الصَّالح من الصَّحابة والتَّابعين وأئمَّة الدِّين، قال تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرً﴾ [النساء: 115].
وعلى هذه الأصول الثلاثة بنى العلماءُ المصلحون الجزائريّون دعوتهَم، حتى قبل إنشاء جمعيّتهم؛ بل اتِّفاقُهم عليها هو الذي مهَّد لإنشاء الجمعيّة.
يقول ابن باديس – رحمه الله -: «قد رأينا ونحن نخدم أمَّة مسلمة أن نسعى لتهذيبها من طريق الإسلام، ولم نشكّ قطُّ أنّ الإسلام ليس هو ما تمثِّله بسيرة مجموعها وأفرادها، وأنَّ الإسلام إنَّما هو في كتاب الله وسنَّة رسول الله صلى الله عليثه وسلم وما كان عليه سلفُها من أهل القرون الثَّلاثة المشهود لهم بالخيريَّة على لسان الصَّادق المصدوق، فصمدنا ندعو الأمَّة إلى الرجوع إلى هذه الأصول وطرحِ كلِّ ما يخالفها من قول وعمل واعتقاد»(1).
وكان من أهمِّ أعمال ابن باديس قبل تشكيل الجمعيّة، إنشاؤه لجريدة «المنتقد» التي عُطِّلت بعد فترة وجيزة، فأتبعها بجريدة «الشهاب» التي هي بحقّ «شهابٌ رصد على الدِّين الصَّحيح من أن تلمَسه أيدي دجاجلة السُّوء وأنصار البدعة بأذى، وشهابٌ ثاقب يُقذف به كلُّ شيطان رجيم وأفَّاك أثيم …»(2).
وقد جاء في هذه الجريدة التَّصريح الصَّريح بالدَّعوة إلى هذه الأصول العظيمة.
«إنّ من أهمِّ ما أُسِّست له هذه الصَّحيفة: الإصلاحَ الدِّيني وتطهيرَ العقائد من نزعات الشِّرك وباطل الخرافات ودحضَ أنواع البدع القوليَّة والفعليَّة(3)، والإشادةَ بلزوم الاهتداء بالكتاب والسنَّة وعمل السَّلف الصالحين، والأخذَ بكلِّ ما وافق هذه الأصول، والطّرحَ لكلِّ ما خالفها»(4).
ولمَّا أُنشئت جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين كانت الدَّعوة إلى هذه الأصول هي السِّمة البارزة في منهجها؛ فقد جاء في قانونها الدَّاخلي: «فالجمعيّة تريد أنْ ترجع بهذه الأمَّة – من طريق الإرشاد – إلى هداية الكتاب والسُّنَّة وسيرة السَّلف الصَّالح، لتكون ماشية في رقيِّها الرُّوحيّ على شعاع تلك الهداية»(5).
ولقد أوضح ابن باديس دعوة جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين وأصولَها في عدَّة نقاط؛ من بينها:
– الإسلام هو دين الله الذي وضعه لهداية عباده، وأرسل به جميع رسله، وكمَّله على يد نبيِّه محمد [صلى الله عليه وسلم] الذي لا نبيَّ بعده.
– القرآن هو كتاب الإسلام.
– السنّة – القوليّة والفعليّة – الصَّحيحة، تفسيرٌ وبيان للقرآن.
– سلوك السَّلف الصَّالح – الصَّحابة والتَّابعين وأتباع التَّابعين – تطبيقٌ صحيح لهدي الإسلام.
– فهوم أئمَّة السَّلف الصَّالح، أصدق الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسُّنَّة …»(6).
وكان ابن باديس يُذكِّر بالسّير على هذه الأصول والدَّعوة إليها في فاتحة كلِّ سَنَةٍ جديدة من عُمر جريدته «الشِّهاب»؛ ومن ذلك ما جاء في فاتحة السَّنة الثَّالثة عشرة: «وسنخطو هذه الخطوة – إن شاء الله تعالى – على ما عرفه النَّاس من مبدئنا في الإصلاح الدِّينيّ من ناحية العقائد والأخلاق والأفكار والأعمال، تصحيحاً وتهذيباً وتنويراً وتقويماً، كلُّ ذلك في دائرة الإسلام كما نزل به القرآن، وبيَّنته السُّنَّة، ومضى عليه – علماً وعملاً – السَّلف الصَّالح من هذه الأمَّة»([7]).
ويقول الشيخ مبارك الميلي رحمه الله: «فالدَّاعي إلى الكتاب والسُّنَّة وتفهُّمِهما إنَّما هو داعٍ لتحقيق كلمتَيْ الشَّهادة، ولهذا نجد فيهما وفي كلام سلف الأمَّة الحثَّ على تعلُّمهما واتِّباعهما وتحكيمهما عند النِّزاع، والتَّحذيرَ من مخالفتهما وارتكابِ ما أنكراه على من تقدَّمَنا من مشركين وكتابيِّين»(8).
بربّك ذكّرهم لكي يتذكّروا… وعِظهم بلين القول كي يتفكّروا
ومُرهم برفق وادعهم بسكينة … وعلِّمهم بالحلم كي يتدبّروا
بذا كان خيرُ الخلق يدعو لدينه … بأمرٍ من المولى وربُّك أكبر
وبالذِّكر(9) داو جهلَهم فيه الشِّف … وبالسنّة الغرّاء فهي المفسِّر
فذلك دين الله دين نبيّه … فخُذْ بهما واعمل بذلك تؤجَر
فما الدِّين إلا من كتاب وسنّة … وغيُرهما زور من القول ومنكر
فخُذْ بهما واستخرج العلم منهم … ودَعْ قول جُهّال عن الذِّكر نفّروا
خفافيش عن ضوء النهار حسيرةٌ … وفي الليلة الظلما تطير وتبصر
عليك بأخذ العلم عن كلّ عالم … أديب بآداب الهدى يتعطر
يريك معاني الذِّكر باللغة التي … بها نزل الذِّكر الحكيم المطهَّر
ومنه يريك الحكم مستندا إلى … حديثٍ يَقْوَى مأخذا ويقرّر
بذا العلماء العاملون تمسّكوا … ومَن سيفُه القرآن بالعصر أجدر
فقد حذّر المختار من كلّ بدعة … كذا الصحب والأتباع من ذاك حذّروا
وقال عليكم باتِّباعي وسنّتي … وسنّة أصحابي بذلك تظفَروا
وإيّاكم والابتداع فإنّه طريقٌ … إلى النار ونارٌ تُسعَّر
وقد جاء بالتوحيد والشركُ سائد … وقام به والكلّ يؤذي وينكِر
ولازال حلف الصبر والصبرُ دِرعه … ولازال يدعو وَالدِّيانة تظهر
إلى أن أضاء الكونَ بدرُ رشاده … وآمن بعد الشرك مَن كان يكفُر
فدوموا على منهاج أحمد وأبشروا … بشرب من الحوض الهنيّ وبشّرو
فإنّ له حوضا كشهدٍ(10) شرابُه … أبارقُه عدّ النجوم أو أكثر
بها يشرب السنيُّ من حزب أحمد … وعنها يذاد محدِثٌ ومنفِّر
وكم حدَثت بعد الرسول حوادث … يكاد لها نورُ الشريعة يُقبر
وكم بدعة شنعاء عُدَّت شريعة … وكم سنّة حَسْنَا بها قد تطيَّروا
لذا أصبح المعروف زورا ومنكر … لدى الناس والمنكور عُرفٌ مبرَّر
فما ذ(11) إلا من سكوتٍ وكم عَدَ … سكوتٌ على حقّ فمن ذاك حذِّروا"(12)
يقول الشَّيخ العربي التَبسيّ رحمه الله: «فإنَّ الدَّعوة الإصلاحية التي يقوم بها دعاة الإصلاح الإسلاميّ في العالم الإسلاميّ عامّة، وتقوم بها «جمعيّة العلماء» في القطر الجزائريّ خاصّة، تتلخَّص في دعوة المسلمين إلى العلم والعمل بكتاب ربِّهم وسنَّة نبيِّهم، والسَّير على منهاج سلفهم الصَّالح في أخلاقهم وعباداتهم القوليّة والاعتقاديّة والعمليّة، وتطبيق ما هم عليه اليوم من عقائدَ وأعمال وآداب على ما كان في عهد السَّلف الصَّالح، فما وافقه عدَدْناه من دِين الله فعمِلنا به، واعتبرنا القائم به قائماً بدِين الله، وما لم يكن معروفاً في عهد الصَّحابة عدَدْناه ليس من دين الله، ولا علينا فيمن أحدَثه أو عمل به؛ فالدِّين حُجَّة على كلِّ أحد وليس عمل أحد حُجَّةً على الدِّين … »(13).
وهاك وصيّة ابن باديس – رحمه الله – الجامعة، ونصيحته النافعة التي يقول فيها: «اعلموا – جعلكم الله من وعاة العلم، ورزقكم حلاوة الإدراك والفهم، وجمَّلكم بعزَّة الاتِّباع، وجنَّبكم ذِلّة الابتداع – أنَّ الواجب على كلِّ مسلم في كلِّ زمان ومكان، أن يعتقد – عقدا يتشرَّبه قلبه، وتسكن له نفسه، وينشرح له صدره، ويلهج به لسانه، وتنبني عليه أعماله – أنَّ دين الله تعالى – من عقائد الإيمان وقواعد الإسلام وطرائق الإحسان – إنّما هو في القرآن والسنّة الثابتة الصحيحة وعمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وأنّ كلَّ ما خرج عن هذه الأصول، ولم يحظَ لديها بالقبول – قولا كان أو عملا أو عقدا أو حالا – فإنّه باطل من أصله، مردود على صاحبه، كائنا من كان، في كلِّ زمان ومكان.
هذه نصيحتي لكم ووصيَّتي أفضيت بها إليكم، فاحفظوها واعملوا بها، تهتدوا وترشدوا – إن شاء الله تعالى -؛ فقد تضافرت عليها الأدلة من الكتاب والسنّة وأقوال أساطين الملة من علماء الأمصار،وأئمة الأقطار، وشيوخ الزهد الأخيار، وهي – لعمر الحقّ – لا يَقبلها إلا أهل الدِّين والإيمان، ولا يردُّها إلا أهل الزيغ والبهتان»(14).
—
(1) جريدة الشهاب: (2/3).
(2) المصدر السابق: (1/3)
(3) في الأصل: «العبادات القولية والنقلية»، ولعلّ الصواب ما أثبته.
(4) جريدة الشهاب: (2/474)
(5) من المادة (66) من القانون الداخلي للجمعية، آثار الإبراهيمي: (1/84)
(6) آثار ابن باديس: (5/154)
(7) جريدة الشهاب: (13/3)
(8) الشرك ومظاهره، للميلي: ص (63-64)، وانظر كذلك ص (65) وما بعدها.
(9) أي القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾.
(10) أي: كالعسل
(11) «ما»: نافية، و«ذا»: اسم إشارة، أي: فليس هذا إلا بسبب سكوت كثير ممن ينتسب إلى العلم.
(12) قصيدة بعنوان: الدعاء إلى الكتاب والسنة، بإمضاء: عبد الحق بن إبراهيم الحنفي، نشرت في الشهاب: (1/521).
(13) تقديم لرسالة «الشرك ومظاهره»: ص (27).
(14) جواب سؤال عن سوء مقال، لابن باديس: ص (97-98).
……………..
أصل الموضوع نقلا عن موقع راية الاصلاح.
منهج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الإصلاح الديني -الحلقة الأخيرة-
ﻧﻔﻌﻚ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﻤﻮﻟﻰ
ﻭﺟﻌﻞ ﻣﺎ ﻧﻘﻠﺖ ﻓﻲ ﻣﻮﺍﺯﻳﻦ ﺣﺴﻨﺎﺗﻚ
ﻭﺗﻘﺒﻞ ﻣﻨﺎ ﻭﻣﻦ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ ﺻﺎﻟﺢ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ