مما لا شك فيه ان مغارة جعيتا في محافظة جبل لبنان هي من أشهر مغاور العالم جمالاً واتساعاً. ففي تجاويف وأنفاق حفرتها الطبيعية تحول الماء الى نحات صامت، عمل يحمل ملايين السنين في تكوين عوالم من القبب والمنحوتات بروعة لم تمتد اليها يد بشرية ولم تسهم في جمالها اية مخيلة.
تقع مغارة جعيتا في وادي نهر الكلب على بعد 20 كلم الى الشمال من بيروت، وتمتاز بوجود طبقتين فيها: طبقة عليا جافة وطبقة سفلى يسيل فيها نهر جوفي يشكل الجزء المغمور من نهر الكلب.
وقد تم افتتاح المغارة السفلى للمرة الاولى امام الجمهور في أكتوبر عام 1958، فيما افتتحت المغارة العليا في يناير (كانون الثاني) عام 1969 بعد ان تأهلت على يد المهندس والنحات غسان كلنك، وذلك في احتفال اقيم في داخلها، تخلله عزف مقطوعات من الموسيقى الإلكترونية التي وضعها لهذه المناسبة الموسيقار الفرنسي فرنسوا بايل. وقد نظم في المغارة العليا بعد ذلك مهرجان مماثل في اكتوبر من العام ذاته، عزفت فيه مقطوعات للموسيقار الالماني الشهير كارل هانيز شتوكاوزن.
وبقيت المغارتان منذ اكتشافهما وتأهيلهما قبلة انظار اللبنانيين والسياح الاجانب الى ان عصفت الحرب بلبنان، مما ادى الى اقفالهما وتدمير المنشآت والأبنية والتجهيزات عام 1975 ثم اعيد افتتاحهما بعد ان عهد بالتأهيل الى شركة ماباس الخاصة وذلك في 6 يوليو (تموز) 1995 حيث اضحت مرفقاً سياحياً يخطف الألباب.
يعود اكتشاف مغارة جعيتا السفلى في العصر الحديث الى ثلاثينات القرن الماضي عندما قام المبشر الاميركي وليام طمسون بالوصول اليها بعد ان اطلق النار من بندقية الصيد التي كان يحملها. ومن خلال الصدى الذي احدثه دوي الطلق الناري، ادرك ان للمغارة امتداداً جوفياً مهماً، وبعد مضي بضع سنوات على تلك الحادثة قام اثنان من مهندسي شركة اشغال بيروت، ماكسويل وهاكسلي، باكتشاف نهر الكلب. وكما معظم المستكشفين في العالم دون اعضاء الفريق أسماءهم وتاريخ رحلتهم على صحيفة من الورق ووضعوها في قارورة على رأس صاعد غطته المياه الكلسية مع مرور الزمن لتحكم ختمها الى الابد، وجعلتها جزءاً لا يتجزأ من قاعدتها هذا اليوم.
اما المغارة العليا فقد ظلت مجهولة الى عام 1958 حتى قام فريق من مستكشفي المغاور اللبنانيين بولوجها من داخل المغارة السفلى ثم توغلوا فيها مسافة تناهز اليوم 2130 متراً. وتمثل هذه المغارة الحالة الاولى لمغارة جعيتا. فقد سبق تكوينها تكوين المغارة السفلى ببضعة ملايين من السنين، اي قبل حصول التعديل الجيولوجي لمجرى النهر، الى ان استقر في المستوى الجوفي الذي يجري فيه اليوم.
من أين ارتفعت تلك الشموع؟ ومن اين تدلت تلك المحفورات التي يخيل للمرء انه شاهدها ولم يشاهدها؟ وتلك الألوان الغريبة كيف استطاعت ان تجتمع وتتداخل تداخل الضوء والظل؟ يكاد الزائر لا يصدق ما يرى. كأن كل مدارس النحت والرسم اجتمعت هنا لتتصالح وتتعانق لا لتتنافر فتقدم أعظم منحوتة في تاريخ البشرية.
كم من التماثيل العاجية والمحفورات النادرة الشكل رفعت وأهدلت وفق اسلوب طبيعي لا يضاهيه اسلوب معروف وكم كان صادقاً الشاعر جورج شحادة حين كتب قصيدة عن المغارة تحت عنوان «صخور جعيتا تغني» قائلاً فيها: «هذه المغارة هي أعجوبة للحرية، فأولئك الذين يملكون العقول المفكرة يجدون في هذا المكان المفعم بذكريات الطفولة: سندباد، أليس في بلاد العجائب وجول فيرن». والمغارة تحمل في بطنها صخوراً تغني فعلاً عبر نزولها وصعودها وعبر ثناياها الكثيرة وضفائرها المنسكبة انسكاباً موسيقياً.
التوغل في ارجاء المغارة السفلى يقتضي استخدام قارب من القوارب الصغيرة التي خصصتها الادارة لهذا الغرض. ويبدأ عرض الجمال الأخاذ حين تبدأ الرحلة المائية. رحلة تدوم دقائق معدودات ولكنها تكشف آيات من الجمال الباهر; فيها سقوف محفورة حفراً طبيعياً، رواسب كلسية ترتفع حيناً وتتدلى احياناً، تتزين بالأبيض العاجي والأحمر المرجاني. ضوء من تحت الماء وصخور من فوقه تنفلش تارة وتنقبض اخرى، فيخيل للإنسان انه في رحلة بين أرجاء الغابة المسحورة، الشجر فيها والعشب فيها حتى الروح فيها، يسير القارب وتعمل المخيلة وتسمع الأذن ويتساءل العقل. بعدها يدرك المرء ان هذه المعزوفة الموسيقية الشفافة من صنع الهواء، حين يداعب المتدليات المتناسقة التي يصل طولها الى 8 امتار مؤلفة آلة ارغن طبيعية، ويعرف ان مغارة جعيتا شهدت ابداعه قبل ان يشهد الانسان صنع اي آلة موسيقية.
ومن المغارة السفلى الى المغارة العليا. تستقبلك في الممر الحديث مؤثرات صوتية هي اشبه بالخرير والزقزقة. وحين تأخذ الممشى المتعرج الذي يخترق بطن المغارة بمسافة 800 متر عمقاً يخيل اليك انك ترى ما سبق ان رأيته في المغارة السفلى. لكنك سرعان ما تدرك خطأك. فهذه المغارة الصبية اكبر من اختها بملايين السنين والمنحوتات المتدلية والمرتفعة اوضح واكبر ويخيل اليك انها اكثر نضوجاً من الاولى. وقد اطلق بعض الذين سبروا المغارة وعملوا على تأهيلها منذ الخمسينات اسم «الغاليري» على ذلك البهو الفسيح الذي لن يلبث ان يضيق حتى تنفرج فسحات اخرى. وهو فعلاً اشبه بالغاليري الطبيعية التي تضم المنحوتات والنقوش والمزخرفات ذات الاشكال المتعددة والتي تبهر من ينظر اليها من شدة سحرها وصفائها وجمالها الطبيعي. تمشي الممر الذي يصل اول المغارة بآخرها وتتخيل ما تشاء وتتوهم ما تشاء ويرجع بك المكان الوفاً الوفاً من السنين الى الوراء. وتتصور كيف راحت تشكل تلك الترسبات نقطة بل دمعة دمعة.
وتخرج من المغارة العليا وتقف مشدوهاً ومفتوناً بما شاهدت وبتلك الرحلة التي تشبه الرحلات الخيالية. واذا اعتقدت ان زيارة واحدة تكفي للارتواء من تلك الكنوز الطبيعية والجمالات والروائع فأنت مخطئ حتماً. فما ان تخرج حتى تحسب انك تحتاج الى زيارة المغارتين مرة ومرتين وثلاثاً.