قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59].
وقال هود – عليه السَّلام – لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 65]، وقال صالح – عليه السَّلام – لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 73]، وقال شعيب – عليه السَّلام – لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 85]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
فالتَّوحيد *****ُ دعوة الرُّسل، وهو أوَّل ما يُدْخَلُ به في الإسلام، وآخر ما يُخْرَجُ به من الدُّنيا، كما قال النَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ»، فهو أوَّل واجبٍ وآخرُ واجبٍ، فالتَّوحيد أوَّل الأمرِ وآخرُه(1).
قبل الشُّروع في صلب الموضوع؛ فإنَّه ينبغي أنْ يُعلم أنَّ الواجبات تُتلقَّى من كلام الله، ومن المبلِّغ عنه، وهم رسلُه – عليهم السَّلام -؛ فإنَّ الله تعالى يحكم ما يريد، فيأمر وينهى ويوجب ويحلِّل ويحرِّم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: «وأصل الدِّين أنَّه لا واجب إلاَّ ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلاَّ ما حرَّمه الله ورسوله، ولا مكروه إلاَّ ما كرهه الله ورسوله، ولا حلال إلاَّ ما أحلَّه الله ورسوله، ولا مستحبَّ إلاَّ ما أحبَّه الله ورسوله، فالحلال ما حلَّله الله ورسوله، والحرام ما حرَّمه الله ورسوله، والدِّين ما شرعه الله ورسوله …»(2).
وقال أبو المظفر السَّمعاني – رحمه الله -: «اعلم أنَّ مذهب أهل السُّنَّة أنَّ العقل لا يوجب شيئًا على أحدٍ، ولا يدفع شيئًا عنه، ولا حظَّ له في تحليل ولا تحريم، ولا تحسين ولا تقبيح، ولو لم يرد السَّمع ما وجب على أحد شيء، ولا دخلوا في ثواب ولا عقاب»(3).
فإذا تقرَّر هذا؛ فإنَّ أوَّل ما أوجبه الله على لسان رسوله، هو: الإقرار بالشَّهادتين، كما قال النَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – لرسوله معاذ بن جبل – رضي الله عنه – لَمَّا بعثه إلى اليمن: «إِنَّكَ تقْدمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى» رواه البخاري (6937)، واللَّفظ له، ومسلم (130)، ولفظه – وهو رواية للبخاري (1331) -: «اُدْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ … ».
وهذا الحديثُ ظاهرُ الدِّلالة على أنَّ أوَّل ما يجب على العبيد الإقرار بشهادة التَّوحيد.
قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: «وهذا ممَّا اتَّفق عليه أئمَّة الدِّين وعلماء المسلمين، فإنَّهم مُجْمِعُون على ما علم بالاضطرار من دين الرَّسول أنَّ كلَّ كافر، فإنَّه يُدْعَى إلى الشَّهادتين سواء كان معطِّلاً أو مشركًا أو كتابيًّا، وبذلك يصير الكافر مسلمًا، ولا يصير مسلمًا بدون ذلك»(4).
ومن ذلك ما رواه البخاري (2676) ومسلم (36) من حديث ابن عمر – رضي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ويُقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزَّكاة، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ».
ولمسلم (34) من حديث أبي هريرةَ – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَيُؤْمِنُوا بي وَبمَا جِئْتُ بهِ …».
قال أبو محمَّد بن حزم – رحمه الله -: «أوَّل ما يلزم كلّ أحدٍ ولا يصحُّ الإسلام إلاَّ به: أن يعلم المرءُ بقلبه عِلْمَ يقينٍ وإخلاص، لا يكون لشيء من الشَّكِّ فيه أثرٌ، وينطق بلسانه ولابدَّ، بأن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله.
برهان ذلك: ـ ثمَّ أسند حديث أبي هريرة»(5).
قال الإمام العلاَّمة عبد الحميد بن باديس – رحمه الله -: «أوَّل واجب على المكلَّف من مسلمٍ بالغٍ أو كافرٍ يريد الدُّخول في الإسلام: أن يعلم أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله لحديث معاذ المتقدِّم، ولحديث وفاة أبي طالب: لَمَّا حضرت أبا طالب الوفاة؛ جاءه رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أُمَيَّةَ، فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يَا عَمُّ! قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بهَا عِنْدَ اللهِ…» [البخاري (1294)]، ولقوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَيُؤْمِنُوا بي وَبمَا جِئْتُ بهِ …».
قال: لا يكفي النُّطق بكلمتي الشَّهادة إذا كان النَّاطق بهما لا يفهم أصل معناهما؛ لقوله في الحديث المتقدِّم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَيُؤْمِنُوا بي وَبمَا جِئْتُ بهِ»(6).
ويؤيِّد هذا الَّذي قرَّره الشَّيخ – رحمه الله – ما رواه مسلم (21) من حديث أبي مالك الأشجعيِّ عن أبيه – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: «مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ»، فإنَّ هذا لا يكون إلاَّ عن عِلْمٍ وفَهْمٍ.
ومن ذلك ما رواه البخاري (1290) عن أنس – رضي الله عنه – قال: كان غلامٌ يهوديٌّ يخدم النَّبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -، فمرض، فأتاه النَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: «أَسْلِمْ»، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أَطِعْ أبا القاسم – صلَّى الله عليه وسلَّم -؛ فأسلمَ. فخرج النَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهو يقول: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ». وفي لفظ «المسند» (13129): «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بي مِنَ النَّارِ».
قال: وفي قوله: «أَنْقَذَهُ بي مِنَ النَّارِ» دلالة على أنَّه صحَّ إسلامه(7).
ومن ذلك ما رواه التِّرمذي (2953) في قصَّة إسلام عديِّ بنِ حاتمٍ – رضي الله عنه -، حيث قال: أتيتُ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عديُّ بن حاتم، وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلمَّا دفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: «إنِّي لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللهُ يَدَهُ في يَدِي»، قال: فقام فلقيته امرأةٌ وصبيٌّ معها فقالا: إنَّ لنا إليك حاجة، فقام معهما حتَّى قضى حاجتهما، ثمَّ أخذ بيدي حتَّى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادة، فجلس عليها وجلست بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال: «مَا يُفِرُّك(8) أَنْ تَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى اللهِ …» الحديث، وحسَّنه الألباني.
وكذلك كتبه إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، كما في كتابه إلى هِرَقْل ملك الرُّوم وفيه: «بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحِمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ الأَرِيسِيِّينَ و﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾» رواه البخاري (2782)، ومسلم (1773).
قال النَّوويُّ – رحمه الله -: «قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أَدْعُوكَ بدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ» وهو بكسر الدَّال، أي بدعوته، وهي «كلمة التَّوحيد»، وقال في الرِّواية الأخرى الَّتي ذكرها مسلم بعد هذا: «أَدْعُوكَ بدَاعِيَةِ الإِسْلاَمِ»، وهو بمعنى الأولى، ومعناها الكلمة الدَّاعية إلى الإسلام(9)، وهي «شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله»(10).
إلى أمثال هذه الأحاديث، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة – رحمه الله -: «وقد تواتر عنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه أوَّل ما دعا الخلق إلى أن يقولوا لا إله إلاَّ الله»(11).
وهذه المسألة محلُّ إجماع بين السَّلف.
قال أبو بكر بن المنذر – رحمه الله -: «أجمع كلُّ مَنْ أحفظ عنه مِنْ أهل العلم على أنَّ الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، وأنَّ كلَّ ما جاء به محمَّدٌ حقٌّ، وأَبْرَأُ إلى الله من كلِّ دينٍ يُخالف دين الإسلام – وهو بالغ صحيح يعقل – أنَّه مسلم، فإن رجع بعد ذلك؛ فأظهر الكُفْرَ، كان مرتدًّا يجب عليه ما يجب على المرتدِّ …»(12).
قال ابن أبي العزِّ الحنفي: «أَوَّل وَاجِبٍ يَجِبُ عَلَى المُكَلَّفِ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، لا النَّظَرُ وَلا القَصْدُ إِلَى النَّظَرِ، وَلا الشَّكُّ، كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ لأَرْبَابِ الكَلامِ المَذْمُومِ، بَلْ أَئِمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْمَرُ بهِ العَبْدُ الشَّهَادَتَانِ، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ البُلُوغِ لَمْ يُؤْمَرْ بتَجْدِيدِ ذَلِكَ عَقِيبَ بُلُوغِهِ، بَلْ يُؤْمَرُ بالطَّهَارَةِ وَالصَّلاةِ إِذَا بَلَغَ أَوْ مَيَّزَ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يُخَاطِبَهُ حِينَئِذٍ بتَجْدِيدِ الشَّهَادَتَيْنِ»(13).
هذا؛ وقد خالف أهلُ الكلام المذموم من المعتزلة والأشعريَّة ومن نَحَا نحوَهم هذه الأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة، وهذا الإجماع المعلوم، واختلفوا في أوَّل واجبٍ على العبد: هل هو النَّظر والاستدلال المؤدِّي إلى معرفة الله أو المعرفة؟! على قولين.
وقال بعض المعتزلة: أوَّل الواجبات الشَّكُّ(14)!!
ويكفي في ردِّ هذا وإبطاله مخالفتُه للنُّصوص المتقدِّمة وإجماع السَّلف، وكلُّ شرٍّ في ابتداع من خلف.
ويقال لمن زعم أنَّ أوَّلَ واجبٍ على المكلَّف هو النَّظر: بَيِّن – أوَّلا – أنَّه واجب على كلِّ أحد، ثمَّ بَيِّن – ثانيًا – أنَّه أوَّل الواجبات.
وليس في القرآن ما يدلُّ على أنَّ النَّظر أوَّل الواجبات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: «والقرآن العزيز ليس فيه أنَّ النَّظر أوَّل الواجبات [بَلْ أَوَّلُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى نَبيِّهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ [العلق: 1]، ولَمْ يَقُل اُنْظُرْ وَاسْتَدِلَّ حَتَّى تَعْرِفَ الخَالِقَ، وَكَذَلِكَ هُو – صلَّى الله عليه وسلَّم – أَوَّلُ مَا بَلَّغَ هَذِهِ السُّورَةَ، فَكَانَ المُبَلَّغُونَ مُخَاطَبينَ بهَذِهِ الآيَةِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَلَمْ يُؤْمَرُوا فِيهَا بالنَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ]، ولا فيه إيجاب النَّظر على كلِّ أحد، وإنَّما فيه الأمر بالنَّظر لبعض النَّاس، وهذا موافق لقول من يقول: إنَّه واجب على من لم يحصل له الإيمان إلاَّ به، بل هو واجب على كلِّ من لا يؤدِّي واجبًا إلاَّ به، وهذا أصحُّ الأقوال، فإن [الإِقْرَارَ والاعْتِرَافَ بالخَالِقِ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ في نُفُوسِ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَا يُفْسِدُ فِطْرَتَه حَتَّى يَحْتَاجَ إلى نَظَرٍ تَحْصُلُ لَهُ بهِ المَعْرِفَةُ].
فقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [الروم:8].
وهذا بعد قوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم:6-7].
ثمَّ قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ فالضمير عائد إلى الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف:184-185].
فهذا مذكور بعد قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف:182-183](15).
أمَّا السُّنَّة؛ فقد تقدَّم ما هو صريحٌ ظاهرُ الدّلالة مع كون ذلك متواترًا تواترًا معنويًّا، وقد قال النَّوويُّ – رحمه الله – لَمَّا شرح قَوْله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَه إِلاَّ اللَّهُ، وَيُؤْمِنُوا بي وَبمَا جِئْت بِهِ».
قال: «فِيهِ دَلالَة ظَاهِرَة لِمَذْهَبِ المُحَقِّقِينَ وَالجَمَاهِير مِنْ السَّلَف وَالخَلَف أَنَّ الإنْسَان إِذَا اعْتَقَدَ دِين الإسْلام اعْتِقَادًا جَازِمًا لا تَرَدُّد فِيهِ كَفَاهُ ذَلِكَ وَهُوَ مُؤْمِن مِن المُوَحِّدِينَ وَلا يَجِب عَلَيْهِ تَعَلُّم أَدِلَّة المُتَكَلِّمِينَ وَمَعْرِفَة اللَّه تَعَالَى بهَا، خِلافًا لِمَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ شَرْطًا في كَوْنه مِنْ أَهْل القِبْلَة، وَزَعَمَ أَنَّهُ لا يَكُون لَهُ حُكْم المُسْلِمِينَ إِلاَّ بهِ، وَهَذَا المَذْهَب هُوَ قَوْل كَثِيرٍ مِنْ المُعْتَزِلَة وَبَعْض أَصْحَابنَا المُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ خَطَأ ظَاهِر؛ فَإِنَّ المُرَاد التَّصْدِيق الجَازِم، وَقَدْ حَصَلَ، وَلأنَّ النَّبيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – اكْتَفَى بالتَّصْدِيقِ بمَا جَاءَ بِهِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وَلَمْ يَشْتَرِط المَعْرِفَة بالدَّلِيلِ؛ فَقَدْ تَظَاهَرَتْ بهَذَا أَحَادِيث في «الصَّحِيحَيْنِ» يَحْصُل بمَجْمُوعِهَا التَّوَاتُر بأَصْلِهَا وَالعِلْم القَطْعِيُّ»(16).
هذا؛ وقد قال القرطبي – رحمه الله -: «ولو لم يكن في الكلام إلاَّ مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقًا بالذَّمِّ:
إحداهما: قول بعضهم: إنَّ أوَّل واجب الشُّكُّ، إذ هو اللاَّزم عن وجوب النَّظر أو القصد إلى النَّظر …
ثانيتهما: قول جماعة منهم أنَّ من لم يعرف الله بالطُّرق الَّتي رتَّبوها والأبحاث الَّتي حرَّروها لم يصحَّ إيمانه، حتَّى لقد أُورد على بعضهم أنَّ هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك، فقال: لا تشنِّع عليَّ بكثرة أهل النَّار»(17).
سبحان الله! جنَّة عرضها السَّماوات والأرض لا يدخلها إلاَّ شِرْذِمَةٌ منَ المتكلِّمين، وهكذا يفعل أهل البدع يبتدعون بدعًا تُخالف الكتاب والسُّنة ويكفِّرون من خالفهم.
ويلزم من هذا القول – كما لا يخفى – تكفيرُ أكابر الصَّحابة المشهود لهم بالجَّنَّة؛ فإنَّ «من نَظَرَ إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ وطلحة وسعد وعبد الرَّحمن وسائر المهاجرين والأنصار وجميع الوفود الَّذين دخلوا في دين الله أفواجًا؛ عَلِمَ أنَّ الله – عزَّ وجلَّ – لم يعرفه واحد منهم إلاَّ بتصديق النَّبيِّين بأعلام النُّبوَّة ودلائل الرِّسالة، ولو كان النَّظر عليهم واجبًا ما أضاعوه، ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم، ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم، ولو كان ذلك من عملهم مشهورًا أو من أخلاقهم معروفًا؛ لاستفاض عنهم ولشهَّروا به كما شهَّروا بالقرآن والرِّوايات»(18).
وروى أبو عبد الرَّحمن السُّلمي بسنده أنَّ رجلاً جاء إلى المُزَنِي يسأله عن شيء من الكلام (أي عِلْمِ الكلام)، فقال: إنِّي أكره هذا، بل أنهى عنه، كما نهى عنه الشَّافعيُّ؛ فإنِّي سمعت الشَّافعيَّ يقول: سُئِلَ مالك عن الكلام والتَّوحيد؟ فقالَ مالك: محالٌ أن يُظنَّ بالنَّبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه علم أمَّته الاستنجاء ولم يعلِّمهم التَّوحيد، فالتَّوحيد ما قاله النَّبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ»، فما عَصَمَ الدَّم والمالَ، فهو حقيقة التَّوحيد». انتهى(19).
فظهر أنَّ قول من قال: أوَّل الواجبات النَّظرُ، مخالف للكتاب والسُّنَّة وإجماع السَّلف والفطرة.
وبهذا يتبيَّن أنَّ هؤلاء المتكلِّمين لَمَّا أعرضوا عمَّا جاءت به الرُّسل من البيِّنات والهدى، وخاضوا في علم الكلام الَّذي أفسد فطرهم؛ احتاجوا إلى النَّظر لتصحيح إيمانهم الَّذي زعزعته تلك الشُّبهات الكلاميَّة.
ومن ضيَّع الأصول حُرِمَ الوصول، والأصول ما جاء به الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم -.
ويتبيَّن – أيضًا – الفرق بين منهج الأنبياء والمرسلين وبين طريقة المتكلِّمين؛ فإنَّ الرُّسل يأمرون بالغايات المطلوبة الَّتي هي أجلُّ الغايات ويذكرون أقوى وأنفع الطُّرق الموصلة إليها، وأهل الكلام الباطل يأمرون بالبدايات والأوائل، وطرقهم الكلاميَّة لا تَروي غليلاً ولا تَشفي عليلاً، بل هي كما قيل:
حُجَج تهافَت كالزُّجاج تخالُها حقًّا وكلُّ كاسِر مكسورُ
ومن هداه الله لفَهم قول أهل السُّنَّة علم أنَّهم جمعوا محاسن الأقوال وأنَّ قولهم هو القول السَّديد الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج:24].
والحمد لله رب العالمين.
نقلا عن موقع راية الاصلاح مقال للأخ فريد نمار.
(1) «مدارج السَّالكين» (3/443) – طبعة دار الكتاب العربي، تحقيق الفقي (بتصرف)، والحديث رواه أبو داود (3116)، وصحَّحه الألباني – رحمه الله -.
(2) «مجموع الفتاوى» (29/345).
(3) «الحجَّة في بيان المحجَّة» لإسماعيل التيمي (1/314 – 315).
(4) «دَرْءُ تَعَارُضِ العَقْلِ وَالنَّقْلِ» (4/107).
(5) «المحلَّى» (1/2).
(6) «العقائد الإسلاميَّة» (ص26).
(7) «فتح الباري» (3/221).
(8) أَيْ مَا يَحْمِلُك عَلَى الفِرَارِ. «تحفة الأحوذي» (8/ 231).
(9) «شرح مسلم» (12/110).
(10) قاله ابن حجر: «فتح الباري» (1/38).
(11) «مجموع الفتاوى» (17/354).
(12) «دَرْءُ تَعَارُضِ العَقْلِ وَالنَّقْلِ» (4/107).
(13) «شرح العقيدة الطَّحاويَّة» (1/23) – طبعة مؤسَّسة الرِّسالة.
(14) «المواقف» للإيجي (1/165 – 167) – طبعة دار الجيل، «دَرْءُ تَعَارُضِ العَقْلِ وَالنَّقْلِ» لابن تيمية (4/52)، «مدارج السَّالكين» لابن القيِّم (3/443) – طبعة دار الكتاب العربي، تحقيق الفقي (1393 – 1973)، «شرح العقيدة الطَّحاويَّة» لابن أبي العزِّ (1/23)، «فتح الباري» لابن حجر (1/70) – طبعة دار المعرفة.
(15) «دَرْءُ تَعَارُضِ العَقْلِ وَالنَّقْلِ» (4/107)، وما بين الحاصرتين من «مجموع الفتاوى» (16/328)- بتصرُّف يسير.
(16) «شرح مسلم» للنَّووي (1/93).
(17) «فتح الباري» لابن حجر (13/350) – دار المعرفة.
(18) «التَّمهيد» لابن عبد البر (7/152) – طبعة وزارة الأوقاف المغربيَّة بتصرُّف.
(19) «فتح الباري» لابن رجب (6/41).