قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين
العبد من حين استقرت قدمه فى هذا الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هى عمره الذى كتب له فالعمر هو مدة سفر الإنسان فى هذه الدار إلى ربه تعالى، ثم قد جعلت الأيام والليالى مراحل لسفره: فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهى السفر. فالكيس الفَطنِ هو الذى يجعل كل مرحلة نصب عينيه فيهتم بقطعها سالماً غانماً، فإِذا قطعها جعل الأُخرى نصب عينيه، ولا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه ويمتد أمله ويحضر بالتسويف والوعد والتأْخير والمطل، بل يعد عمره تلك المرحلة الواحدة فيجتهد فى قطعها بخير ما بحضرته، فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل وطوَّعت له نفسه الانقياد إلى التزود، فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك فلا يزال هذا دأبه حتى يطوى مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ويبتهج بما أَعده ليوم فاقته وحاجته، فإذا طلع صبحالآخرة وانقشع ظلام الدنيا، فحينئذ يحمد سراه وينجل عنه كراه، فما أَحسن ما يستقبل يومه وقد لاح صباحه واستبان فلاحه.
ثم الناس فى قطع هذه المراحل قسمان: قسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاءِ، فكلما قطعوا مرحلة منها قربوا من تلك الدار وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب ومعاداة رسله وأَوليائه ودينه والسعى فى إِطفاءِ نوره وإٍبطال دعوته وإِقامة دعوة غيرها، فهؤلاء جعلت أيامهم يسافرون فيها إلى الدار التى خلقوا لها [واستعملوا] بها، فهم [مصحبون] فيها بالشياطين الموكلة بهم يسوقونهم إلى منازلهم سوقاً كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تُؤُزُّهُمْ أَزَّاً} [مريم: 83]، أى تزعجهم، إلى المعاصى والكفر إزعاجاً وتسوقهم سوقاً.
القسم الثانى: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام. وهم ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله.
وهؤلاء كلهم مستعدون للسير موقنون بالرجعّ إلى الله، ولكن متفاوتون فى التزود وتعبئة الزاد واختياره، وفى نفس السير وسرعته وبطئه.
فالظالم لنفسه مقصر فى الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا فى قدره ولا فى صفته، بل مفرط فى زاده الذى ينبغى له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود ما يتأَذى به فى طريقه، ويجد غب أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذى الضار.