الحمد لله وحده، وأصلي وأسلم على خاتم أنبيائه ورسله، معلم الناس الخير وهاديهم إلى الحق بإذن ربه.
وبعد:
فيا أيها الآباء والمربون، ويا معشر الخطباء الواعظين، ويا أيها القادة والمصلحون، هلموا إلى خير معين، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.
وفي الحديث الصحيح عن أبي بكرة أنه وصف تعامل النبي معه حين أخطأ – وكان حديث عهد بإسلام – وكيف كان رفقه وتعليمه، قال: «.. لا والله ما نهرني ولا كهرني ولا زجرني…» الحديث.
ما كان صلوات الله وسلام عليه يتصيد الأخطاء، بل كان طبيبًا يداوي، وقائدًا يوجِّه، وأبًا يربي، وهو في كل ذلك كما وصفه ربه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
تبقى الأنظمة البشرية والقوانين الأرضية عاجزة عن تحقيق الرفاهية والطمأنينة، والأمة في وقتنا هي بأشد الحاجة إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو معين صاف لا ينضب مع كثرة الواردين، ولا يأسن مع مرور الأعوام والسنين، ففي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نور وهداية، فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم محاسن الأخلاق وأعلى الشمائل والفضائل.
جمع العدل والرحمة والرفق واللين والحزم والصراحة والوضوح وصفاء النفس ونقاء السريرة والإنصاف من النفس، حتى ترك لنا ميراثًا من الأخلاق وفن التعامل مع جميع الطبقات ومع اختلاف المستويات؛ أوذي فصبر، واعتُدي عليه فغفر، وجُهل عليه فعفا فظفر، أنصف من نفسه وعفا عن حقه، وأخذ بحق الله بكل قوة وحزم، فدانت له القلوب وأحبته النفوس.
يعطي قريشًا ويتركنا:
روى البخاري ومسلم عن أنس وعبد الله بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب غنائم حنين، وقسم للمتآلفين من قريش وسائر العرب ما قسم، وفي رواية: طفق يعطي رجلاً المائة من الإبل، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، فوجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت القالة، حتى قال قائلهم: يغفر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، إن هذا لهو العجب؛ يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا، وددنا أن نعلم ممن كان هذا، فإن كان من أمر الله تعالى صبرنا، وإن كان من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه، فحُدِّث رسول الله بمقالتهم.
فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم، قال: «فيم؟» قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهم من ذلك شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: ما أنا إلا واحد من قومي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجمع لي قومك في هذه الحظيرة فإذا اجتمعوا فأعلمني».
فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدعُ غيرهم، حتى إذا لم يبق أحد من الأنصار إلا اجتمع له قال: يا رسول الله، قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هل منكم أحد من غيركم؟» قالوا: لا يا رسول الله إلا ابن اختنا، قال: «ابن أخت القوم منهم» فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم – وفي رواية –: متفرقين فألَّفكم الله» قالوا: بلى يا رسول الله، الله ورسوله أمنّ وأفضل، وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟» قالوا: وما نقول يا رسول الله، وماذا نجيبك؟! المنُّ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لو شئتم لقلتم – فصدقتم وصُدقتم –: جئتنا طريدًا فآويناك، ومخذولاً فنصرناك، ومكذَّبًا فصدقناك» فقالوا: المنُّ لله تعالى ورسوله.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما حديث بلغني عنكم؟» فسكتوا، فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟» فقال فقهاء الأنصار: أما رؤوسنا فلم يقولوا شيئًا، وأما أُناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعطي رجالاً حديثي عهد بكفر لأتألفهم بذلك – وفي رواية –: إن قريشًا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أَجْبُرهم وأتألفهم، أَوَجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله تعالى لكم من الإسلام؟! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم تحوزونه إلى بيوتكم، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، فوالله الذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار – وفي رواية –: لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعبهم، أنتم الشعار والناس دثار، الأنصار كرشي وعيبتي، ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار» فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا بالله ورسوله حظًا وقسما، وفي رواية قالوا: لا حاجة لنا بالدنيا بعدك.
محاورة رائعة، وصراحة غسلت القلوب وأبكت العيون، إنصاف وعدل، وحفظ للحقوق.
موقفه مع من أراد قتله:
وهذا فضالة بن عمير بن الملوح الليثي، أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضالة!» قال: نعم، قال: «ما كنت تحدث به نفسك؟» قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «استغفر الله» ثم وضع يده على صدره فسكن، وكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خُلق شيء أحب إلى منه، ورجع فضالة إلى أهله قال: فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث، فقال: لا، وانبعث يقول:
يأبى عليَّ الله والإسلام
إذا ما رأيت محمدًا وقبيله
بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا
والشرك يغشى وجهه الإظلام
قصته مع عدي بن حاتم وأخته:
هذا عدي بن حاتم – رضي الله عنه – لما قدمت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض قومه هرب بأهله إلى الشام، وأخذ الجيش أخته مع السبي، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت إليه فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليَّ منّ الله عليك.
قال: «من وافدك؟» قالت: عدي بن حاتم، قال: «الفارُّ من الله ورسوله»، فمضى وتركها حتى اعترضته مرارًا.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة» فخرجتْ حتى أتتْ عدي بن حاتم وقالت: أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكًا فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت، قال عدي: فقدمت المدينة ودخلت عليه وهو في المسجد، فسلمت عليه فقال: «مَن الرجل؟» فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك، قال: ثم مضي بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفًا فقذفها إلى فقال: «أجلس على هذه» قلت: بل أنت فاجلس عليها، قال: «بل أنت» فجلستُ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر مَلِك.
ثم قال: «إيه عدي بن حاتم، ألم تكن ركوسيًا؟» قال: قلت: بلى، قال: «أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟» قال: قلت: بلى، قال: «فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك» قال: قلت: أجل والله، قال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يُجهل، ثم قال: «لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض منهم حتى لا يوجد من يأخذه، والله لعلك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى أن المُلك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم» قال: فأسلمتُ.
قال عدي: مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن، قد رأيتُ القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيتُ المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وايم الله لتكونن الثالثة، وليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه.
حوار فتح آفاق القلوب، وغسل أدران الشرك، وبعث في النفس الأمل.
ملك كملك سليمان:
هذا عبد الرحمن بن أبي عقيل، قال: انطلقتُ في وفد إلى رسول الله، فأتيناه فأنخنا بالباب وما في الناس أبغض إلينا من رجل ندخل عليه، فلما دخلنا وخرجنا فما أصبح في الناس رجل أحب إلينا من رجل دخلنا عليه، قال: فقال قائل منا: يا رسول الله، ألا سألت ربك ملكًا كملك سليمان؟ قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «فلعل ما لصاحبك عند الله أفضل من ملك سليمان، إن الله عز وجل لم يبعث نبيًا إلا أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذها دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه فأهلكوا بها، وإن الله أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة».
هذه المواقف التي تقلب العدو صديقًا والمبغض محبًا.
عدل وإنصاف:
إن المواقف التي ينبع منها العدل والإنصاف والحوار والصراحة والرفق واللين والرحمة والشفقة والصبر كثيرة لا تحصر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن في مثل هذا العصر يتأكد علينا في زمن الفتن أن نأخذ بالأساليب النبوية في علاج كثير من الأخطاء، وأن نستلهم العبر والدروس والعظات من المنهج النبوي الكريم في التواضع مع المخالف، وإعطائه قيمة معنوية وحسية، والاهتمام بطرحه ومقالته، وحواره بالأسلوب المناسب مع العفو والرفق واللين واحترام المشاعر، وإظهار الاهتمام بكل ما يطرح لنصل إلى النتائج الصحيحة المرضية، وألا ننشغل بقضية واحدة عن قضايا أهم وأكبر، والبذل في مجال إصلاح المال والوقت والجهد والعلم، والبعد عن التشفي والانتقام وإظهار الشماتة، بل إظهار النصح والشفقة والعطف والرحمة، والإقناع بالحجة والبيان والعلم والإيضاح.
وإن وجـود الأخطـاء طريق للإصلاح والبناء ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾([1])، فقد تكون المحنة منحة وعبرة إذا أُحسن العلاج وعُرفت الأسباب، وسعى للإصلاح الجاد.
([1]) سورة النور، الآية:11.