السؤال:
قال الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- في الفقرة الثانية والثلاثين من «العقائد الإسلامية»: «من ضيَّع الأعمالَ لم يخرج من دائرة الإيمان»، وتكلَّم عن ركوب المعاصي في الفقرة الثالثة والثلاثين فقال: «من ارتكب المعاصيَ سُمِّيَ فاسقًا حتى يتوب»، وفسَّرتم -حفظكم الله- تضييعَ الأعمال بتركِ الواجبات وركوب المعاصي ما لم يبلغ حدَّ الكفر، فالظاهر -والله أعلم- أنَّ الشيخ عبد الحميد بن باديس أراد بتضييع الأعمال تضييعَ ثوابها بفعل السيِّئات لا تَرْكَها نفْسِها للفرق بين تركِ العمل وتضييع العمل، وذلك لِما يأتي من النصوص:
الأوَّل: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [البقرة: ٢٦٤].
الثاني: ما رواه مسلم عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لاَ يُعْطِي شَيْئًا إِلاَّ مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ»(١).
الثالث: ما رواه ابن ماجه من حديث ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا»، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا»(٢).
فالظاهر أنَّ ابن باديس يعني بضياع الأعمال تضييعَ ثوابها بارتكاب الكبائر المحبطة لثوابها لا تَرْكَ الحسناتِ نفسِها، ولمَّا كان القتل من أعظم الكبائر استدلَّ بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: ٩]، فسمَّى القاتلَ والمقتولَ مؤمنَيْن، فكان حبوطُ ثوابه بالكبيرة غيرَ مُخْرجٍ له من دائرة الإيمان بل يبقى معه مُطْلق الإيمان، وأمَّا تركُ العمل (جنسِه) فهو بخلاف ذلك مُخْرِجٌ من دائرة الإيمان، وأمَّا الشرك فيُذْهِب العملَ وثوابَه ولا يُبقي منه شيئًا، وهذا خلافًا للمعتزلة والخوارج الذين يروْنَ ذهاب ثوابه وعين عمله بفعل الكبيرة ولو كانت دون الشرك أو تركِ العمل (جنسه). فما ترون في ذلك أثابكم الله ونفع بكم؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالقول بأنَّ المصنِّف -رحمه الله- أراد في الفقرة الأولى ضياعَ ثواب الأعمال فمحتمَلٌ، واللفظ لا يساعده، بل يعكِّر عليه جملةٌ من التعليلات والاعتراضات تتمثَّل فيما يلي:
أوَّلاً: من المعلوم أنَّ الأصل في اللفظ أن يكون مستقلاًّ بذاته لا يتوقَّف معناه على تقديرٍ ولا إضمارٍ، وإذا دار اللفظ بين أن يكون مستقلاًّ مكتفيًا بذاته أو مضمَرًا يتوقَّف معناه على تقديرٍ فإنه يُحْمَل على استقلاله وهو عدمُ التقدير لقلَّة اضطرابه كما تقرَّر ذلك أصوليًّا(٣)، وعليه فيكون معنى كلام المصنِّف -في الفقرة الأولى- شاملاً للأعمال فعلاً وتركًا، وتقديره بضياع ثواب الأعمال مخالفٌ للأصل المقرَّر.
ثانيًا: إن سُلِّم -جدلاً- تقدير اللفظ ﺑ«ثواب الأعمال» فإنَّ الثواب أثرٌ عن العمل ونتيجةٌ له من حيث الجزاء، فكان الثواب فرعًا مولَّدًا من أصلٍ، فلا يمكن -والحال هذه- تقدير الثواب كأثرٍ فرعيٍّ والعدولُ عن العمل كمؤثِّرٍ أصليٍّ، فكيف يصار إلى الفرع ويُترك الأصل؟!
ثالثًا: ومن زاويةٍ ثانيةٍ فالعمل -باعتباره مؤثِّرًا- أعمُّ من أن يُحْصَرَ في ركوب المعاصي والمحارم -من جهةِ وجوبِ تركِها- دون أن يشمَلَ تضييعَ الطاعات -من جهة وجوب الفعل-، والمصنِّفُ عبَّر بلفظٍ عامٍّ شاملٍ لكلِّ عملٍ في قوله: «من ضيَّع الأعمالَ..»، ولا شكَّ أنه يشمَلُ بالدرجة الأولى تضييعَ الفعل قبل شموله للترك والكفِّ الذي هو فعلٌ، ولا يخفى -أيضًا- أنَّ «جِنْسَ فِعْلِ المَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ المَنْهِيِّ عَنْهُ»، وأنَّ «جِنْسَ تَرْكِ المَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ المَنْهِيِّ عَنْهُ»، وأنَّ المثوبة على أداء الواجبات أعظمُ من المثوبة على ترك المحرَّمات، وأنَّ العقوبة على ترك الواجبات أعظمُ من العقوبة على فعل المحرَّمات، على ما بيَّنه العلماء أتمَّ بيانٍ(٤)، وعليه فكيف يَعْدِل المصنِّف -رحمه الله- عن الأهمِّ إلى المهمِّ؟!
رابعًا: ومن زاويةٍ ثالثةٍ فإنَّ تفسير إضاعة الأعمال بأنها هي: الأوامر والنواهي بدون إضمارٍ على وجه الاستقلال أَوْلى من تقديرها بالثواب، لأنه هو الظاهر المتبادر إلى الذهن من حيث كونُه مستقلاًّ بنفسه يتعلَّق بأفعال المكلَّف الدنيوية، لذلك قال المصنِّف -رحمه الله-: «لم يخرج من دائرة الإيمان» بخلاف الاستظهار بالأحاديث النبوية فجاءت من حيث الجزاء الأخرويُّ، لا يتعلَّق به نصُّ المصنِّف -رحمه الله-.
خامسًا: ومن زاويةٍ أخيرةٍ فإنَّ حَمْلَ الأعمال على تضييع الأوامر والنواهي هو حملٌ على الحقيقة لأنها تستغني عن القرينة، بينما حملُه على تضييع ثواب الأعمال فهو حملٌ على المجاز لاحتياجه إلى قرينةٍ صارفةٍ عن الحقيقة، وإذا تعارضت الحقيقة مع المجاز قُدِّمت الحقيقة لأصالتها.
وهذا المعنى الحقيقيُّ يتوافق مع معنى الإضاعة في قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: ٥٩]، فالآية دلَّت على تركِ المأمور -من جهةٍ- لأنهم إن أضاعوا الصلاة فهُم لِما سواها من الواجبات أضيع، كما تدلُّ -من جهةٍ أخرى- على ارتكاب المنهيِّ عنه لأنهم أقبلوا على شهوات الدنيا وملاذِّها ورَضُوا بالحياة الدنيا واطمأنُّوا بها.
وإلى هذا المعنى ذهب ابن جريرٍ الطبريُّ وابن كثيرٍ رحمهما الله(٥)، قال الشوكانيُّ -رحمه الله-: «والظاهر أنَّ من أخَّر الصلاةَ عن وقتها، أو ترك فرضًا من فروضها، أو شرطًا من شروطها، أو ركنًا من أركانها فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من تركها بالمرَّة أو جحدها دخولاً أوَّليًّا»(٦).
قلت: فهذا يدلُّ على حقيقة المعنى دون مجازه بحَمْلِه على الثواب.
وعليه فإنَّ مراد المصنِّف -رحمه الله- من تضييع الأعمال هو مطلق الترك، سواءٌ من جهة ترك المأمور أو ركوب المحرَّم والمحذور ما لم يصل إلى حدِّ الكفر أو الشرك الأكبر، فإنه لا يخرج من دائرة الإيمان، بل يبقى معه مطلق الإيمان لا الإيمان المطلق، لأنَّ هذا المعنى هو الظاهر المتبادر إلى الذهن، ولأنَّ ظواهر أخرى تؤيِّده -كما قدَّمتُ- من العموم السابق، والأصل المستقلِّ والمؤثِّر، وأنَّ العمل -الذي هو الأصل- أَوْلى من الأثر الفرعيِّ، فضلاً عن أنَّ حَمْلَه على المحتمَل المرجوح -وهو الثواب- مجازٌ مخالفٌ للحقيقة وهي أَوْلى منه من جهةٍ، ولأنه لم يَرِدْ -في حدود علمي- عن أحدٍ من العلماء حملُه على تقدير الثواب.
* أمَّا العبارة الثانية فهي واضحةٌ في سياقها وسباقها فإنه -رحمه الله- إنما عنى بها جوازَ تسمية من ارتكب المعاصيَ دون الكفر فاسقًا كما هو مذهب أهل السنَّة والجماعة، خلافًا لمعتقد الخوارج الذين يكفِّرون مرتكب الكبيرة كفرًا مُخْرِجًا من الملَّة، وقريبٌ من هذا المعتقد مذهبُ المعتزلة الذين وافقوا الخوارجَ في الحكم وخالفوهم في التسمية، وخلافًا للمرجئة -أيضًا- الذين أسبغوا على الفاسق المنحرف اسمَ الإيمان المطلق.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
قال الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- في الفقرة الثانية والثلاثين من «العقائد الإسلامية»: «من ضيَّع الأعمالَ لم يخرج من دائرة الإيمان»، وتكلَّم عن ركوب المعاصي في الفقرة الثالثة والثلاثين فقال: «من ارتكب المعاصيَ سُمِّيَ فاسقًا حتى يتوب»، وفسَّرتم -حفظكم الله- تضييعَ الأعمال بتركِ الواجبات وركوب المعاصي ما لم يبلغ حدَّ الكفر، فالظاهر -والله أعلم- أنَّ الشيخ عبد الحميد بن باديس أراد بتضييع الأعمال تضييعَ ثوابها بفعل السيِّئات لا تَرْكَها نفْسِها للفرق بين تركِ العمل وتضييع العمل، وذلك لِما يأتي من النصوص:
الأوَّل: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [البقرة: ٢٦٤].
الثاني: ما رواه مسلم عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لاَ يُعْطِي شَيْئًا إِلاَّ مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ»(١).
الثالث: ما رواه ابن ماجه من حديث ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا»، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا»(٢).
فالظاهر أنَّ ابن باديس يعني بضياع الأعمال تضييعَ ثوابها بارتكاب الكبائر المحبطة لثوابها لا تَرْكَ الحسناتِ نفسِها، ولمَّا كان القتل من أعظم الكبائر استدلَّ بقوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: ٩]، فسمَّى القاتلَ والمقتولَ مؤمنَيْن، فكان حبوطُ ثوابه بالكبيرة غيرَ مُخْرجٍ له من دائرة الإيمان بل يبقى معه مُطْلق الإيمان، وأمَّا تركُ العمل (جنسِه) فهو بخلاف ذلك مُخْرِجٌ من دائرة الإيمان، وأمَّا الشرك فيُذْهِب العملَ وثوابَه ولا يُبقي منه شيئًا، وهذا خلافًا للمعتزلة والخوارج الذين يروْنَ ذهاب ثوابه وعين عمله بفعل الكبيرة ولو كانت دون الشرك أو تركِ العمل (جنسه). فما ترون في ذلك أثابكم الله ونفع بكم؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالقول بأنَّ المصنِّف -رحمه الله- أراد في الفقرة الأولى ضياعَ ثواب الأعمال فمحتمَلٌ، واللفظ لا يساعده، بل يعكِّر عليه جملةٌ من التعليلات والاعتراضات تتمثَّل فيما يلي:
أوَّلاً: من المعلوم أنَّ الأصل في اللفظ أن يكون مستقلاًّ بذاته لا يتوقَّف معناه على تقديرٍ ولا إضمارٍ، وإذا دار اللفظ بين أن يكون مستقلاًّ مكتفيًا بذاته أو مضمَرًا يتوقَّف معناه على تقديرٍ فإنه يُحْمَل على استقلاله وهو عدمُ التقدير لقلَّة اضطرابه كما تقرَّر ذلك أصوليًّا(٣)، وعليه فيكون معنى كلام المصنِّف -في الفقرة الأولى- شاملاً للأعمال فعلاً وتركًا، وتقديره بضياع ثواب الأعمال مخالفٌ للأصل المقرَّر.
ثانيًا: إن سُلِّم -جدلاً- تقدير اللفظ ﺑ«ثواب الأعمال» فإنَّ الثواب أثرٌ عن العمل ونتيجةٌ له من حيث الجزاء، فكان الثواب فرعًا مولَّدًا من أصلٍ، فلا يمكن -والحال هذه- تقدير الثواب كأثرٍ فرعيٍّ والعدولُ عن العمل كمؤثِّرٍ أصليٍّ، فكيف يصار إلى الفرع ويُترك الأصل؟!
ثالثًا: ومن زاويةٍ ثانيةٍ فالعمل -باعتباره مؤثِّرًا- أعمُّ من أن يُحْصَرَ في ركوب المعاصي والمحارم -من جهةِ وجوبِ تركِها- دون أن يشمَلَ تضييعَ الطاعات -من جهة وجوب الفعل-، والمصنِّفُ عبَّر بلفظٍ عامٍّ شاملٍ لكلِّ عملٍ في قوله: «من ضيَّع الأعمالَ..»، ولا شكَّ أنه يشمَلُ بالدرجة الأولى تضييعَ الفعل قبل شموله للترك والكفِّ الذي هو فعلٌ، ولا يخفى -أيضًا- أنَّ «جِنْسَ فِعْلِ المَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ المَنْهِيِّ عَنْهُ»، وأنَّ «جِنْسَ تَرْكِ المَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ المَنْهِيِّ عَنْهُ»، وأنَّ المثوبة على أداء الواجبات أعظمُ من المثوبة على ترك المحرَّمات، وأنَّ العقوبة على ترك الواجبات أعظمُ من العقوبة على فعل المحرَّمات، على ما بيَّنه العلماء أتمَّ بيانٍ(٤)، وعليه فكيف يَعْدِل المصنِّف -رحمه الله- عن الأهمِّ إلى المهمِّ؟!
رابعًا: ومن زاويةٍ ثالثةٍ فإنَّ تفسير إضاعة الأعمال بأنها هي: الأوامر والنواهي بدون إضمارٍ على وجه الاستقلال أَوْلى من تقديرها بالثواب، لأنه هو الظاهر المتبادر إلى الذهن من حيث كونُه مستقلاًّ بنفسه يتعلَّق بأفعال المكلَّف الدنيوية، لذلك قال المصنِّف -رحمه الله-: «لم يخرج من دائرة الإيمان» بخلاف الاستظهار بالأحاديث النبوية فجاءت من حيث الجزاء الأخرويُّ، لا يتعلَّق به نصُّ المصنِّف -رحمه الله-.
خامسًا: ومن زاويةٍ أخيرةٍ فإنَّ حَمْلَ الأعمال على تضييع الأوامر والنواهي هو حملٌ على الحقيقة لأنها تستغني عن القرينة، بينما حملُه على تضييع ثواب الأعمال فهو حملٌ على المجاز لاحتياجه إلى قرينةٍ صارفةٍ عن الحقيقة، وإذا تعارضت الحقيقة مع المجاز قُدِّمت الحقيقة لأصالتها.
وهذا المعنى الحقيقيُّ يتوافق مع معنى الإضاعة في قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: ٥٩]، فالآية دلَّت على تركِ المأمور -من جهةٍ- لأنهم إن أضاعوا الصلاة فهُم لِما سواها من الواجبات أضيع، كما تدلُّ -من جهةٍ أخرى- على ارتكاب المنهيِّ عنه لأنهم أقبلوا على شهوات الدنيا وملاذِّها ورَضُوا بالحياة الدنيا واطمأنُّوا بها.
وإلى هذا المعنى ذهب ابن جريرٍ الطبريُّ وابن كثيرٍ رحمهما الله(٥)، قال الشوكانيُّ -رحمه الله-: «والظاهر أنَّ من أخَّر الصلاةَ عن وقتها، أو ترك فرضًا من فروضها، أو شرطًا من شروطها، أو ركنًا من أركانها فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من تركها بالمرَّة أو جحدها دخولاً أوَّليًّا»(٦).
قلت: فهذا يدلُّ على حقيقة المعنى دون مجازه بحَمْلِه على الثواب.
وعليه فإنَّ مراد المصنِّف -رحمه الله- من تضييع الأعمال هو مطلق الترك، سواءٌ من جهة ترك المأمور أو ركوب المحرَّم والمحذور ما لم يصل إلى حدِّ الكفر أو الشرك الأكبر، فإنه لا يخرج من دائرة الإيمان، بل يبقى معه مطلق الإيمان لا الإيمان المطلق، لأنَّ هذا المعنى هو الظاهر المتبادر إلى الذهن، ولأنَّ ظواهر أخرى تؤيِّده -كما قدَّمتُ- من العموم السابق، والأصل المستقلِّ والمؤثِّر، وأنَّ العمل -الذي هو الأصل- أَوْلى من الأثر الفرعيِّ، فضلاً عن أنَّ حَمْلَه على المحتمَل المرجوح -وهو الثواب- مجازٌ مخالفٌ للحقيقة وهي أَوْلى منه من جهةٍ، ولأنه لم يَرِدْ -في حدود علمي- عن أحدٍ من العلماء حملُه على تقدير الثواب.
* أمَّا العبارة الثانية فهي واضحةٌ في سياقها وسباقها فإنه -رحمه الله- إنما عنى بها جوازَ تسمية من ارتكب المعاصيَ دون الكفر فاسقًا كما هو مذهب أهل السنَّة والجماعة، خلافًا لمعتقد الخوارج الذين يكفِّرون مرتكب الكبيرة كفرًا مُخْرِجًا من الملَّة، وقريبٌ من هذا المعتقد مذهبُ المعتزلة الذين وافقوا الخوارجَ في الحكم وخالفوهم في التسمية، وخلافًا للمرجئة -أيضًا- الذين أسبغوا على الفاسق المنحرف اسمَ الإيمان المطلق.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٠ صفـر ١٤٣٤ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٣ ديسمبر ٢٠١٢م
الموافق ﻟ: ٢٣ ديسمبر ٢٠١٢م
(١) أخرجه مسلم في «الإيمان» (١٠٦) من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه.
(٢) أخرحه ابن ماجه في «الزهد» باب ذكر الذنوب (٤٢٤٥) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «الصحيحة» (٥٠٥)، و«صحيح الجامع الصغير» (٥٠٢٨).
(٣) انظر المصادر الأصولية التي تقرِّر هذا الأصلَ: «المحصول» للفخر الرازي (٢/ ٢/ ٥٧٤)، «الإحكام» للآمدي (١/ ٢٠، ٢٦٧)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (١١٢)، «***** الوصول» للتلمساني (٤٨٢)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (١/ ٢٩٥)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٢٧٨).
(٤) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٠/ ٨٥)، و«عدَّة الصابرين» لابن القيِّم (٤٤).
(٥) انظر: «تفسير ابن جرير» (١٦/ ٩٩)، «تفسير ابن كثير» (٣/ ١٢٧).
(٦) «فتح القدير» للشوكاني (٣/ ٣٣٩).
المصدر موقع الشيخ فركوس حفظه الله
آخي سلمت يمنآكـ على مآحملتهـ لنآ
جزاك الله خيرا اخي سفيان