هـــوِّنْ عـليـك وكُــنْ بربِّــك واثقَــا … فــأخُــــو الـتـوكـــل شأنــه الـتـهـويـنُ
طــرَحَ الأذى عـن نفسـه في رزقه … لـمـــا تـــيـــقـــنَ أنـــه مـــضــمــــونُ
قال الجاحظ : إنما خالف الله تعالى بين طبائع الناس ليوفق بينهم في مصالحهم ، ولولا ذلك لاختاروا كلهم الملك ، والسياسة ، والتجارة ، والفلاحة ، وفي ذلك بطلان المصالح ، وذهاب المعايش. فكل صنف من الناس مزين لهم ما هم فيه، فالحائك إذا رأى من صاحبه تقصيرًا أو خلفًا، قال: ويلك يا حجام ، والحجام إذا رأى مثل ذلك من صاحبه قال: ويلك يا حائك، فجعل الله تعالى الاختلاف سبيلاً للائتلاف ، فسبحانه من مدبر قادر حكيم، ألا ترى إلى البدوي في بيت من قطعة خيش معمد بعظام الجيف، كلبه معه في بيته، لباسه شملة من وبر أو شعر، ودواؤه بعر الإبل، وطيبه القطران وبعر الظباء، وحلى زوجته الودع، وثماره المقل<sup>(3)</sup> ، وصيده اليربوع<sup>(4)</sup> ، وهو في مفازة لا يسمع فيها إلا صوت بومة وعواء ذئب، وهو قانع بذلك مفتخر به؟!
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه : يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه في القناعة فإنها مال لا ينفذ ، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وعليك باليأس ، فإنك لم تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه.
وأصاب داود الطائي فاقه كبيرة ، فجاءه حماد بن أبي حنيفة رضي الله عنه بأربعمائة درهم من تركة أبيه ، وقال : هي من مال رجل ما أقدّم عليه أحدًا في زهده وورعه وطيب كسبه. فقال: لو كنت أقبل من أحد شيئًا لقبلتها تعظيمًا للميت، وإكرامًا للحي ، ولكني أحب أن أعيش في عز القناعة.
وقال عيسى عليه السلام: اتخذوا البيوت منازل ، والمساجد مساكن ، وكلوا من بقل البرية، واشربوا من الماء القراح<sup>(5)</sup> ، واخرجوا من الدنيا بسلام.
وأنشد المبرد:
إنَّ الـذي قــدَّر الأشــيــاء بـحـكـمـتِـــهِ … لــم ينسَــنـي قـاعدًا والرحلُ محطوطٌ
قال عبد الواحد بن زيد : ما أحسب أن شيئًا من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا ، ولا أعلم درجة أرفع من الرضا ، وهو رأس المحبة . قيل له : متى يكون العبد راضيًا عن ربه ؟ قال : إذا سرته المصيبة كما تسره النعمة.
وكان عبد الله بن مرزوق من ندماء المهدي ، فسكر يومًا ففاتته الصلاة ، فجاءته جارية له بجمرة فوضعتها على رجله فانتبه مذعورًا. فقالت له: إذا لم تصبر على نار الدنيا ، فكيف تصبر على نار الآخرة ، فقام فصلى الصلوات وتصدق بما يملكه. وذهب يبيع البقل فدخل عليه الفضيل وابن عيينة فإذا تحت رأسه لبنة وما تحت جنبه شيءُ، فقالا له: إنه لم يدع أحد شيئًا لله إلا عوضه الله منه بديلاً فما عوضك عما تركت له؟ قال: الرضا بما أنا فيه.
وقال الثوري : ما وضع أحد يده في قصعة غيره إلا ذُلّ له.
وقال الفضيل : مَنْ رضي بما قسم الله له بارك الله له فيه. وكان عيسى عليه السلام يقول : الشمس في الشتاء جلالي، ونور القمر سراجي، وبقل البرية فاكهتي، وشعر الغنم لباسي، أبيت حيث يدركني الليل، ليس لي ولد يموت، ولا بيت يخرب، أنا الذي كببت الدنيا على وجهها.
وقال عيسى عليه السلام : انظروا إلى الطير تغدو وتروح ، ليس معها شيء من أرزاقها لا تحرث ولا تحصد، والله يرزقها. فإن زعمتم أنكم أكبر بطونًا من الطير، فهذه الوحوش والبقر والحمر لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها.
من كتاب " المستطرف في كل فن مستظرف " للكاتب شهاب الدين محمد الأبهيشي . تحقيق الدكتور مصطفى محمد الذهبي .
(1)- سورة النحل : 97.
(2)- قرين : خليط و صاحب.
(3)- المقل : ثمرة شجر الدَّوم.
(4)- اليربوع : من أنواع الزواحف.
(5)- القراح : البارد الصافي.
(6)- يؤرقه : يحرمه النوم .