قال ابن القيم رحمه الله : وللمعصية من الآثار القبيحة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله :
فمنها : حرمان العلم , فإن العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئ ذلك النور .. ولما جلس الشافعي بين يديي مالك وقرأ عليه أعجبه من وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه فقال إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية.
ومنها : وحشه يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله لا توازنها ولا تقارنها لذة أصلا ولو اجتمعت لذات الدنيا بأسرها لم تفِ بتلك الوحشة وهذا أمر لا يحس به إلا من كان في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام .
ومنها : الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس ولاسيما أهل الخير منهم . فإنه يجد وحشه بينه وبينهم , وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم , ومن مجالستهم وحرم بركة الانتفاع بهم , وقرب من حزب الشيطان وبقدر مابعد من حزب الرحمن تقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه وبينه وبين نفسه ..
قال بعض السلف : ( إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي ) .
ومنها : تعسير أموره فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً أو متعسراً عليه .
ومنها : ظلمه يجدها في قلبه .
ومنها : أنها توهن القلب والبدن .
ومنها :حرمان الطاعة .
ومنها : تضعف القلب عن إرادته .
ومنها : أنه ينسلخ من القلب استقباحها فتصير عاده .
ومنها : أنها سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه .
ومنها : أن غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه فيحترق هو وغيره بشؤم الذنب والظلم .
ومنها : أن المعصية تورث الذل ولابد فإن العز كل العز في طاعة الله , قال تعالى : ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ) .
ومنها : أنها تطفىء نار الغيرة والعياذ بالله , فكلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس .
ومنها : أنها تعمي بصيرة القلب , وتطمس نوره وتسد طرق العلم وتحجب موارد الهداية.
ومنها : سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه .
ومنها : أنها تمحق بركة العمر .
ومنها :ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف والقلق في قلب العاصي فلا تراه إلا خائفاً مرعوباً , فإن الطاعة حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبة الدنيا والآخرة فمن خاف الله أمنه الله كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء .
أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبد الذي سطرت عليه صحائف لم يخف فيها الرقيبا
أنا العبد المسيء عصيت سراً فمالي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري فلم أرع الشبيبة والمشيبا
أنا العبد الغريق بلج بحرٍ أصيح لربما ألقى مجيبا
أنا العبد السقيم من الخطايا وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا العبد المخلف عن أناسٍ حووا من كل معروفٍ نصيبا
أنا العبد الشرير ظلمت نفسي وقد وافيت بابكم منيبا
أنا العبد الحقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا
أنا الغدار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفى به كذوبا
أنا المهجور هل لي من شفيعٍ يكلم في الوصال لي الحبيبا
أنا المقطوع فارحمني وصلني ويسر منك لي فرجاً قريبا
فوا أسفي على عمرٍ تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا
وأحذر أن يعاجلني مماتٌ يحير لهول مصرعه اللبيبا
ويا حزناه من نشري ليومٍ يجعل الولدان شيبا
تفطرت السماء به ومارت وأصبحت الجبال به كثيبا
إذا ما قمت حيراناً ظميا حسير الطرف عرياناً سليبا
ويا خجلاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا
وذلة موقفٍ لحساب عدلٍ أكون به على نفسي حسيبا
ويا حذراه من نار تلظى إذا زفرت فأقلعت القلوبا
تكاد إذا بدت تنشق غيظاً على من كان معتدياً مريبا
فيا من مدّ في كسب الخطايا خطاه أما بدا لك أن تتوبا
ألا فاقلع وتب واجتهد فإنا رأينا كل مجتهدٍ مصيبا
وأقبِل صادقاً في العزم واقصد جناباً ناضراً عطراً رحيبا
وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيا غريبا
وكن عن كل فاحشةٍ جباناً وكن في الخير مقداماً نجيبا
ولاحظ زينة الدنيا ببغضٍ تكن عبداً إلى المولى حبيبا
فمن يخبر زخارفها يجدها مخادعةً لطالبها حلوبا
وغض عن المحارم منك طرفاً طموحاً يفتن الرجل الأريبا
فخائنة العين كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا
ومن يغضض فضول الطرف عنها يجد في قلبه روحاً وطيبا
ولا تطلق لسانك في كلامٍ يجر عليك أحقاداً وحوبا
ولا يبرح لسانك كل وقتٍ بذكر الله ريّاناً رطيبا
وصل إذا الدجى أرخى سدولاً ولا تكن للظّلام به هيوبا
تجد أجرأ إذا أدخلت قبراً فقدت به المعاشر والنسيبا
وصم مهما استطعت تجده رياً إذا ما قمت ظمآناً سغيبا
وكن متصدقاً سراُ وجهراً ولا تبخل وكن سمحاً وهوبا
تجد ما قدمته يداك ظلاً عليك إذا اشتكى الناس الكروبا
وكن حسن الخلائق ذا حياء طليق الوجه لا شكساً قطوبا
فيا مولاي جد بالعفو وارحم عبيداً لم يزل يشكي الذنوبا
وسامح هفوتي وأجب دعائي فإنك لم تزل أبداً مجيبا
وشفِّع فيّ خير الخلق طراً نبياً لم يزل أبداً حبيبا
هو الهادي المشفّع في البرايا وكان لهم رحيماً مستجيبا
عليه من المهمين كل وقتٍ صلاة تملأ الأكوان طيبا
ياعين فلتبكي ولتذرفي الدمع ذنبا أحاط القلب وأضغى له سمعا
أين الدموع على الخدين قد سالت
فالنفس للعصيان يا ربي قد مالت
رباه فاغفر لي
اللهم أنت ربي خلقتني وأنا عبدك وأنا علي عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت