د. بدر عبد الحميد هميسه
التجرؤ على الفتيا لون من ألوان القول على الله تعالى بغير علم , وهو آفة من آفات بعض المنتسبين إلى التدين الذين يتعجلون قطف الثمر قبل نضوجه وحصد الزرع قبل أوانه , ولقد حذرنا الله تعالى من إضلال الناس بغير علم , والخوض في قضايا الحلال والحرام بغير تمحيص وفقه, قال تعالى : " وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) سورة النحل .
وقال :" قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) سورة يونس.
وقال : " فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) سورة الأنعام .
ولقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أمارات الساعة رفع العلم ونزول الجهل , عَنْ شَقِيقٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُوسَى فَقَالَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ. أخرجه البخاري(7062)، ومسلم (8/58).
وأن الرويبضة ممن لا علم لهم ولا فقه هم الذين سوف يتصدرون المجالس , ويتحدثون بلغة أهل العلم والفهم وهم في حقيقة الأمر لا علم لديهم ولا فقه , فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً ، يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ ، قِيلَ : وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ. أخرجه أحمد 3/220(13331) الألباني في " السلسلة الصحيحة " 4 / 508.
ومن هؤلاء الرويبضة أحداث الأسنان ؛ شباب صغير السن لم يحصل أحدهم من العلم إلا أقله , ولم يجلس إلى الشيوخ ,لكنه يتجرأ على الفتيا دونما تحقق ولا تثبت , عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمَانِ ، قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، فَمَنْ لَقِيَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ عِنْدَ اللهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ.أخرجه أحمد 1/404(3831) و"التِّرمِذي" 2188 الألباني ( صحيح ) انظر حديث رقم : 3654 في صحيح الجامع .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلاَفٌ وَفُرْقَةٌ : قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ ، وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللهِ ، وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللهِ مِنْهُمْ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا سِيمَاهُمْ ؟ قَالَ : التَّحْلِيقُ.- زاد في رواية أَبي عامر : . يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ.
أخرجه أحمد 3/224(13371) و"أبو داود" 4765 الألباني ( صحيح ) انظر حديث رقم : 8063 في صحيح الجامع .
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ . قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو ، مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ ، يَقُولُ : سَمِِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُسًا جُهَّالاً ، فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. أخرجه أحمد2/162 (6511) و"البُخَارِي" 1/36(100) و"مسلم" 8/60(6893).
ولقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الجهل داء وأن علاجه يكون بالجلوس إلى العلماء الثقات الأثبات لسؤالهم وأخذ العلم والأدب منهم , عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُخْبِرُ ؛ أَنَّ رَجُلاً أَصَابَهُ جُرْحٌ في رَأْسِهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَصَابَهُ احْتِلاَمٌ فَأُمِرَ بِالاِغْتِسَالِ فَاغْتَسَلَ فَكُزَّ فَمَاتَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَفَلَمْ يَكُنْ شِفَاءَ الْعِىِّ السُّؤَالُ.قَالَ عَطَاءٌ وَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَوْ غَسَلَ جَسَدَهُ وَتَرَكَ رَأْسَهُ حَيْثُ أَصَابَهُ الْجِرَاحُ.أخرجه أحمد 1/330(3057) و"الدارمي" 752 و"أبو داود" 337 ( صحيح ) انظر حديث رقم : 4362 في صحيح الجامع.
فالتصدر للفتيا دون علم وتهيؤ نوع من الاحتيال والتشبع بما لم يعط , وصاحبه كمن يلبس ثوبي زور , فعَنْ فَاطِمَةَ ، عَنْ أسْمَاءَ ؛جَاءَتِ امْرَأةٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالت: إِنَّ لِي ضَرَّةً ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاح أنْ أتَشَبَّعَ مِنْ مَالِ زَوْجِي بِمَا لَمْ يُعْطِنِي ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِِ صلى الله عليه وسلم: الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ ، كَلابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ.أخرجه أحمد6/345 و"البُخَارِي" 7/44 و45 و"مسلم" 6/169.
قال ابن حجر في " الفتح " في شرح هذا الحديث " أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْد فِي تَفْسِير الْخَبَر قَالَ : قَوْله " الْمُتَشَبِّع " أَيْ الْمُتَزَيِّن بِمَا لَيْسَ عِنْده يَتَكَثَّر بِذَلِكَ وَيَتَزَيَّن بِالْبَاطِلِ ؛ كَالْمَرْأَةِ تَكُون عِنْد الرَّجُل وَلَهَا ضَرَّة فَتَدَّعِي مِنْ الْحَظْوَة عِنْد زَوْجهَا أَكْثَر مِمَّا عِنْده تُرِيد بِذَلِكَ غَيْظ ضَرَّتهَا ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الرِّجَال ، قَالَ : وَأَمَّا قَوْله " كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُور " فَإِنَّهُ الرَّجُل يَلْبِس الثِّيَاب الْمُشْبِهَة لِثِيَابِ الزُّهَّاد يُوهِم أَنَّهُ مِنْهُمْ ، وَيَظْهَر مِنْ التَّخَشُّع وَالتَّقَشُّف أَكْثَر مِمَّا فِي قَلْبه مِنْهُ ، قَالَ : وَفِيهِ وَجْه آخَر أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالثِّيَابِ الْأَنْفَس كَقَوْلِهِمْ فُلَان نَقِيّ الثَّوْب إِذَا كَانَ بَرِيئًا مِنْ الدَّنَس ، وَفُلَان دَنِسَ الثَّوْب إِذَا كَانَ مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي دِينه ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : الثَّوْب مَثَل ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ صَاحِب زُور وَكَذِب ، كَمَا يُقَال لِمَنْ وُصِفَ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْأَدْنَاس طَاهِر الثَّوْب وَالْمُرَاد بِهِ نَفْس الرَّجُل ، وَقَالَ أَبُو سَعِيد الضَّرِير : الْمُرَاد بِهِ أَنَّ شَاهِد الزُّور قَدْ يَسْتَعِير ثَوْبَيْنِ يَتَجَمَّل بِهِمَا لِيُوهِم أَنَّهُ مَقْبُول الشَّهَادَة. وَهَذَا نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ نُعَيْم بْن حَمَّاد قَالَ : كَانَ يَكُون فِي الْحَيّ الرَّجُل لَهُ هَيْئَة وَشَارَة ، فَإِذَا اُحْتِيجَ إِلَى شَهَادَة زُور لَبِسَ ثَوْبَيْهِ وَأَقْبَلَ فَشَهِدَ فَقُبِلَ لِنُبْلِ هَيْئَته وَحُسْن ثَوْبَيْهِ ، فَيُقَال أَمْضَاهَا بِثَوْبَيْهِ يَعْنِي الشَّهَادَة ، فَأُضِيفَ الزُّور إِلَيْهِمَا فَقِيلَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُور . وَأَمَّا حُكْم التَّثْنِيَة فِي قَوْله " ثَوْبَيْ زُور " فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ كَذِب الْمُتَحَلِّي مَثْنَى ، لِأَنَّهُ كَذَبَ عَلَى نَفْسه بِمَا لَمْ يَأْخُذ وَعَلَى غَيْره بِمَا لَمْ يُعْطِ ، وَكَذَلِكَ شَاهِد الزُّور يَظْلِم نَفْسه وَيَظْلِم الْمَشْهُود عَلَيْهِ. ابن حجر : فتح الباري بشرح صحيح البخاري 15/23 .
عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر " .أخرجه ابن المبارك في " الزهد " ( 61 ) قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 316 .
اخرج قاسم بن اصبغ في مصنفه بسند صحيح كما قال الحافظ في: الفتح ( 1/201- 202) عن عمر بن الخطاب قال: فساد الدين إذا جاء العلم من ِقبل الصغير000 استعصي عليه الكبير وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير تابعه عليه الصغير.
واخرج ابن عبد البر في جامع العلم ( 1 /159)عن ابن مسعود قال: إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كباركم فإذا كان العلم في صغاركم سفّه الصغير الكبير.
قال الشاعر :
مَتَى يَصِلِ العِطَاشُ إِلىَ ارْتِوَاءٍ * * * إِذَا اسْتَقَت البِحَارُ مِنَ الرّكَايَا
وَمَنْ يَثنِ الأَصَاغِرَ عَنِ مُرَادٍ * * * وَقَدْ جَلَسَ الأَكَابِرُ في الزَّوَايَا
وَإِنَّ تَرَفَّعَ الوُضَعَاءِ يَوْماً * * * عَلَى الرُفَعَاءِ مِن إحدَى الرَّزَايَا
إِذَا اسْتَوَتْ الأَسَافِلُ والأَعَالِيْ * * * فَقدْ طَابَتْ مُنَادَمَةُ المُنَايَا
وإذا مارس المرء مهنة الطب ولم يكن له علم به حوسب على ذلك وضمن ما أفسده , عَنْ شعَيْبٍ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ ، قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ تَطَبَّبَ ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَهُو َضَامِنٌ.أخرجه أبو داود (4586) و"ابن ماجة" 3466 الألباني في "السلسلة الصحيحة" 2 / 228.
فإذا كان ذلك كذلك في أمر من أمور الدنيا فما بالنا في أمر من أمور الدين ؟ .
لذا فقد حذر الإسلام من التجرؤ على الفتيا والقول على الله بغير علم , قال الإمام ابن القيم :" وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها, فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه. ابن القيم : أعلام الموقعين عن رب العالمين/1:38.
وعن مالك قال : أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي ، فقال : " ما يبكيك ؟ أمصيبة دخلت ليك ؟ " ، وارتاع لبكائه ، فقال : " لا ، و لكن استُفتي من لا علم له ، وظهر في الإسلام أمرٌ عظيم " ، فقال ربيعة : " ولبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السُّرَّاق ". ابن عبد البر : جامع بيان العلم " ص 1225 .
قال ابن حزم رحمه الله : لا آفة على العلوم وأهلها أضّرمن الدخلاء فيها وهم من غير أهلها ، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدّرون أنهم يصلحون.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : أَدْرَكْت عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَرَاهُ قَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ مُحَدِّثٌ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ ، وَلَا مُفْتٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا .
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ كُلَّ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ لَمَجْنُونٌ ، قَالَ مَالِكٌ : وَبَلَغَنِي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ .وَقَالَ سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ : أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا ، يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْبَابُ الْوَاحِدُ مِنْ الْعِلْمِ يَظُنُّ أَنَّ الْحَقَّ كُلَّهُ فِيهِ .
وسئل مالك عن مسألة فقال: (لا أدري)، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: (ليس في العلم شيء خفيف). وقال الشافعي: (ما رأيتُ أحداً جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا). وقال أبو حنيفة: (لولا الفَرَقُ من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيتُ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر). راجع : آدَابُ الفَتـْوَى والمفتي والمستفتي ص 2-4.
عن ابن سيرين قال : قال حذيفة : إنما يفتي الناس أحد ثلاثة : من يعلم ما نُسخ من القرآن ، أو أمير لا يجد بُدّا ، أو أحمق متكلف ، قال : فربما قال ابن سيرين : فلست بواحد من هذين ، ولا أحب أن أكون الثالث .
إعلام الموقعين ( 1 / 28 ، 29 ).
وعن ابن عيينة وسحنون بن سعيد قالا: « أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه » .
وعن الهيثم بن جميل: شَهِدْتُ مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: (لا أدري).
وفي : ( معيد النعم للسبكي- رحمه الله تعالى – : ( 63 و73 و82 ) : ولبعضهم :
إن الـذي يـروي ولــكـنـه * * * يـجــهـل ما يروي وما يـكتـب
كــصخــرةٍ تنبع أمــواهــها * * * تسـقي الأراضـي وهي لا تشرب
وقال بعض الظرفاء في الواحد من هذه الطائِفة : إنه قليل المعرفة والمخبرة يمشي ومعه أوراق ومِحبرة ؛ معه أجزاء يدورُ بها على شيخ وعجوز , لا يعرف ما يجوز مما لا يجوز .
وما أجمل قول الخطيب البغدادي في كتابه [الفقيه والمتفقه] (2/350): وقل من حرص على الفتوى, وسابق إليها, وثابر عليها إلا قل توفيقه, واضطرب في أمره, وإذا كان كارهاً لذلك غير مختار له, ما وجد مندوحة عنه, وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتواه وجوابه أغلب.
قال ابن جماعة الكناني في ( تذكرة السامع والمتكلم 23 ) : واعلم أن قول المسئول لا أدري لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه لأنه دليل عظيم على عظم محله وقوة دينه وتقوى ربه وطهارة قلبه وكمال معرفته وحسن تثبته. وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته وقلت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورقة دين وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فر منه ويتصف عندهم بما احترز عنه، وقد أدب الله تعالى العلماء بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، حين لم يرد موسى عليه الصلاة والسلام العلم إلى الله تعالى لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك.
وهذا إمام أهل السنة والجماعة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، قيل له: "يا أبا عبد الله: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟ يكفيه مائة ألف؟، قال: لا، قيل: مائتا ألف؟ قال: لا، قيل: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قيل: أربعمائة ألف؟ قال: لا، قيل: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو . الخطيب البغدادي : الفقيه والمتفقه (2/349).
قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى :
يقولون هذا عندنا غير جائز* * * ومن أنتمو حتى يكون لكم عندُ
وقال الأمير شكيب أرسلان : ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين : العلم الناقص ، والذي هو أشد جهلًا من الخطر البسيط ، لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدًا عالمًا أطاعه ، ولم يتفلسف عليه ، فأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ، ولا يقتنع بأنه لا يدري ، و كما قيل " ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون " ، وأقول : ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم . لماذا تأخر المسلمون ؟ " ص 75.
قال أحدهم :
تصدر للتدريس كل مـهـوس *** جهول ليسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثـلـوا *** ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها *** كلاها وحتى سامها كل مفلس
ولقد عرَّف أهل العلم الإفتاء بأنه: "الإخبار بحكم الله تعالى عن دليل شرعي". ولما كان الإفتاء بهذه المنزلة من الأهمية اشترط له العلماء شروطاً عديدة، لا بد من توفرها فيمن أراد التصدي لهذا المنصب الخطير. والشروط باختصار- هي:الإسلام , والبلوغ , والعقل, والعدالة , والاجتهاد.
وقد ذكر العلماء للمجتهد عدة شروطٍ، منها ما هو محل وفاق، ومنها ما هو محل خلاف، وأهم هذه الشروط إجمالاً:العلم بآيات الأحكام من القرآن الكريم, والعلم بأحاديث الأحكام من السنة الشريفة, والعلم باللغة العربية, والعلم بأصول الفقه, والعلم بمسائل الإجماع حتى لا يخالفها.
قال الشّافعيّ فيما رواه عنه الخطيب: لا يحلّ لأحد أن يفتي في دين اللّه، إلاّ رجلاً عارفاً بكتاب اللّه: بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكّيّه ومدنيّه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللّغة، بصيراً بالشّعر، وما يحتاج إليه للسّنّة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي . إعلام الموقعين ( 1 / 46 ) .
ويذكر أبو الفرج ابن الجوزي – رحمه الله تعالى – مثالين لهذ التخبط من عصره ؛ فيقول عن أحدهم :جاءته امرأة فقالت: أيها الشيخ ما تقول في بئر سقطت فيه دجاجة فماتت فهل الماء طاهر أو نجس فقال يحيى ويحك كيف سقطت الدجاجة إلى البئر قالت: لم تكن البئر مغطاة فقال يحيى: ألا غطيتها حتى لا يقع فيها شيء قال الأبهري فقلت يا هذه إن كان الماء تغير فهو نجس وإلا فهو طاهر . تلبيس إبليس 138.
وهناك أسباب للجرأة على الفتوى بغير علم منها :
1- الهوى وهو: المرض العضال الذي تنتهك بسببه كثير من الحماقات ، وما ذاك إلا ضعف في الإخلاص وفساد في الإرادة ولا يسلك هذا السبيل إلا من كان قلبه كالقبر أو البيت الخرب، قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) سورة فاطر , وقال : " أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) سورة محمد.
2- العجب والاغترار وهو: أن يُعجب المرء بنفسه، ويغتر بعلمه فيقدم على الفتوى، وإكثار الكلام وإن لم يعلم , قال تعالى : " قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) سورة الكهف .
ولقد ضرب الفقهاء الكبار أروع الأمثلة في التواضع وترك التكبر والتعالم وأخذ العلم ممن دونهم .
قال ابن خلكان : وحُكي عن وكيع؛قال:قال لي أبو حنيفة النعمان بن ثابت:أخطأتُ في خمسة أبواب من المناسك بمكة، فعلَّمنيها حجام،وذلك أني أردت أن أحلق رأسي،فقال لي:أعربيٌّ أنت؟قلت:نعم،وكنت قد قلت له:بكم تحلق رأسي؟فقال: النسك لا يُشارَطُ فيه،اجلس،فجلست منحرفاً عن القبلة،فأومأ لي باستقبال القبلة،وأردتُ أن أحلق رأسي من الجانب الأيسر،فقال:أدر شِقَّك الأيمن من رأسك؛فأدرته،وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت،فقال لي:كَبِّر،فجعلت أكبر حتى قمتُ لأذهب،فقال:أين تريد؟فقلت:رحلي،فقال:صلِّ ركعتين ثم امض.فقلت ما ينبغي أن يكون هذا من مثل هذا الحجام إلاَّ ومعه علم.فقلت:من أين لك ما رأيتك أمرتني به؟فقال:رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا . ابن خلكان : وفيات الأعيان 3/261.
3- الاستحياء والخوف من التجهيل , مرض أبو يوسف مرضًا شديدًا، فعاده أستاذه أبو حنيفة مرارًا. فلما صار إليه آخر مرة، رآه ثقيلاً، استرجع، ثم قال: لقد كنتُ أُؤَمّله بعدي للمسلمين، ولئن أُصيبَ الناسُ به ليموتَنّ علمٌ كثير. ثم رُزق أبو يوسف العافية، وخرج من العِلَّة. فلما أُخبِر بقول أبي حنيفة فيه، ارتفعت نفسُه، وانصرفت وجوه الناس إليه، فعقد لنفسه مجلسـًا في الفقه، وقصـَّر عن لُزوم مجلس أبي حنيفة. وسأل أبو حنيفة عنه فأُخبر أنه عقد لنفسه مجلسًا بعد أن بلغه كلام أستاذه فيه. فدعا أبو حنيفة رجلاً وقال له: صـِرْ إلى مجلس أبي يوسف، فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قَصَّار ثوبًا ليصبغه بدرهم، فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب، فقال له القصار: ما لك عندي شيء، وأنكره. ثم إن صاحب الثوب رجع إليه، فدفع إليه الثوب مصبوغًا، أَلَه أجرُه؟ فإن قال أبو يوسف: له أجره، فقل له: أخطأت. وإن قال: لا أجرَ له فقل له: أخطأت! فصار الرجل إلى أبي يوسف وسأله، فقال أبو يوسف: له الأجرة. قال الرجل: أخطأت. ففكر ساعة، ثم قال: لا أجرة له. فقال له: أخطأت! فقام أبو يوسف من ساعته، فأتى أبا حنيفة. فقال له :ما جاء بك إلا مسألةُ القصَّار. قال: أجل. فقال أبو حنيفة: سبحان اللّه! من قعد يُفتي الناس، وعقد مجلسًا يتكلم في دين اللّه، لا يُحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات؟! فقال: يا أبا حنيفة، علِّمني. فقال: إنْ صبغه القصار بعدما غَصَبه فلا أجرة له، لأنه صبغ لنفسه، وإن كان صبغه قبل أن يغصبه، فله الأجرة، لأنه صبغه لصاحبه ثم قال: مَن ظن أن يستغني عن التعلُّم فَلْيَبكِ على نفسه. تاريخ بغداد 13/350 , وفيات الأعيان 5/408 .
قال الشاعر :
إن تكن عندك مستحقرة *** فهي عند الله والناس جبل
أنت ملح الأرض ما يصلحه *** إن بدا فيه فساد وخلل
3- تتبُّعهم للغرائب الشواذ من المسائل، وتفيهقهم وتشدقهم حباً للظهور، وعلوّاً في الأرض.
4- زهدهم في الجلوس إلى من هو دونهم أو في مرتبتهم في العلم لئلا يُنسبوا للجهل وقلة العلم.
5- الولع بتصنيف الناس تصنيفاً يفرق ولا يجمع , يعادي ولا يؤلف , قال أبو بكر زيد : " تصنيف الناس " وظاهرة عجيب نفوذها هي : " رمز الجراحين " أو :" مرض التشكيك وعدم الثقة " حمله فئام غلاظ من الناس يعبدون الله على حرف , فألقوا جلباب الحياء , وشغلوا به أغرار التبس عليهم الأمر فضلوا , وأضلوا , فلبس الجميع أثواب الجرح والتعديل, وتدثروا بشهوة التجريح , ونسج الأحاديث , والتعلق بخيوط الأوهام , فبهذه الوسائل ركبوا ثبج التصنيف للآخرين ؛ للتشهير , والتنفير , والصد عن سواء السبيل .ومن هذا المنطلق الواهي , غمسوا ألسنتهم في ركام من الأوهام والآثام , ثم بسطوها بإصدار الأحكام عليهم , والتشكيك فيهم , وخدشهم , وإلصاق التهم بهم , وطمس محاسنهم , والتشهير بهم , وتوزيعهم أشتاتا وعزين :في عقائدهم , وسلوكهم , ودواخل أعمالهم , وخلجات قلوبهم , وتفسير مقاصدهم , ونياتهم … كل ذلك وأضعاف ذلك مما هنالك من الويلات , يجري على طرفي, التصنيف : الديني , واللاديني .فترى وتسمع رمي ذاك , أو هذا بأنه : خارجي. معتزلي. أشعري . طرقي . إخواني . تبليغي . مقلد متعصب . متطرف . متزمت . رجعي . أصولي .وفي السلوك : مداهن . مراء . من علماء السلطان . من علماء الوضوء والغسل .ومن طرف لا ديني : ماسوني . علماني . شيوعي . اشتراكي . بعثي . قومي . عميل .وإن نقبوا في البلاد , وفتشوا عنه العباد , ولم يجدوا عليه أي عثرة , أو زلة , تصيدوا له العثرات , وأوجدوا له الزلات , مبينة على شبه واهية , وألفاظ محتملة .أبو بكر زيد : تصنيف الناس بين الظن واليقين ص 3 وما بعدها .