فهذا جزء لطيف في بيان حكم شرب الماء دفعة واحدة دون ثلاث انفاس،ذلك ان هذه المسألة من المسائل التي يجهلها الكثير،بل إن البعض ينكر على من شرب دفعة واحدة وكانه اتى بدعا من الفعل والضلال،وسميته: "عطر زهر الآس في حكم شرب الماء دون ثلاث انفاس"،وأسأل الله التوفيق والهداية،وأقول:
مقدمة لا بد منها:
إختلفت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكم التنفس داخل الإناء وخارجه،فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتنفس في الإناء وفي الشراب إذا شرب ،فقد روى البخاري (5305)ومسلم (4223) عن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثا"وفي لفظ عند أحمد 6/5339،ومسلم 4699" كان يتنفس في الشراب ثلاثا ويقول إنه أروى وأبرأ وامرأ"
و ثبت عنه صلى الله عليه وسلم غير ذلك،فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن التنفس في الإناء والشراب والنفخ فيه،فعند البخاري (5307) وغيره انه قال" ذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء وإذا بال أحدكم فلا يمسح ذكره بيمينه وإذا تمسح أحدكم فلا يتمسح بيمينه"،وعند الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي عن ا بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى ان يتنفس في الإناء او ينفخ فيه"،وعند احمد (4/321)،والترمذي (4561) وصححه عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل القذاة أراه في الإناء؟ فقال:أرقها،فقال إني لا أروى من نفس واحد،قال،فأبن القدح إذا عن فيك" ،وغيرها من الروايات.
من اجل ذلك إختلف أهل العلم رحمهم الله في التوفيق بين هذه الروايات ودرء التعارض عنها.
*فذهب بعض أهل العلم إلى تخصيص التنفس في الإناء والنفخ فيه على من لم يستقذر، وعلى من يعلم أنه لا يقذر شيئا مما يأكل منه،كل ذلك مبني على ان العلة في نهيه صلى الله عليه وسلم على التنفس في الإناء والنفخ فيه ألا يخرج من الفم بزاق يستقذره من شرب بعده منه أو تحصل فيه رائحة كريهة تتعلق بالماء أو بالإناء كما ذكر ذلك الشوكاني في "نيل الوطار"(6/312)، ولأنه ربما حصل له تغير من النفس إما لكون المتنفس كان متغير الفم بمأكول مثلا ، أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة ، أو لأن النفس يصعد ببخار المعدة ، والنفخ في هذه الأحوال كلها أشد من التنفس كما ذكر ذلك ابن حجر في "فتح الباري"(12/341)،وغير ذلك مما يصب في هذا المعنى.
قالوا فمن أمن ذلك أو كان مما لا يستقذر فله التنفس في الإناء والنفخ فيه،قال القاضي الوزير المهلب كما في "شرح ابن بطال على البخاري"(9/103):" : التنفس إنما نهى عنه عليه السلام كما نهى عن النفخ فى الطعام والشراب – والله أعلم – من أجل أنه لا يؤمن أن يقع فيه شىء من ريقه ، فيعافه الطاعم له ويستقذر أكله ؛ إذ كان التقذر فى باب الطعام والشراب ، والتنظف فيه الغالب على طباع أكثر الناس ، فنهاه عن ذلك ؛ لئلا يفسد الطعام والشراب على من يريد تناوله هذا إذا أكل أو شرب مع غيره ، وإذا كان الإنسان يأكل او يشرب وحده أو مع أهله أو مع من يعلم أنه لا يقذر شيئا مما يأكل منه ، فلا بأس بالتنفس فى الإناء ، كما فعل النبى مع عمر بن أبى سلمة أمره أن يأكل مما يليه ، وكان هو عليه السلام ، يتتبع الدباء فى الصحفة ، علما منه أنه لا يقذر منه شىء عليه السلام ، وكيف يظن ذلك وكان إذا تنخم تبادر أصحابه نخامته فدلكوا بها وجوههم ، وكذلك فضل وضوئه ، فهذا فرق بين فعل النبى وأمره غيره بالأكل مما يليه".اه
واستنصر لهذا التوجيه ابن بطال رحمه الله في شرحه على البخاري وقال بأن هذا الوجه أولى بالصواب،قال رحمه الله في شرحه (9/103):" والمعنى الثانى : أن يكون نهيه عليه السلام عن التنفس فى الإناء فى حديث أبى قتادة إذا شرب مع من يكره تنفسه فيه ويتقذر الشرب منه ، كما تقدم فى الباب قبل هذا واذا شرب مع من لا يتقذر منه فالتنفس له مباح ، ولذلك تنفس عليه السلام ؛ لعلمه برغبة الناس فيما يتنفس فيه ؛ ليدل أمته على إباحة ذلك ممن لا يتقذر بنفسه ، ألا ترى أنه مج فى وجه محمود بن الربيع مجة فكانت له بذلك فضيلة ، وهذا الوجه أولى بالصواب ؛ لأن عامة الفقهاء لا يختلفون أنه لو تنفس فى الشراب لم يحرم بذلك…".اه
ومع ذلك فلم يرضى بعض أهل العلم بذلك وقالوا بأن الأولى تعميم المنع وهو ما جنح إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله ،وتبعه عليه المباركفوري رحمه الله في شرحه على الترمذي.
قال بن حجر رحمه الله في "فتح الباري"(12/341):" قلت : والأولى تعميم المنع ، لأنه لا يؤمن مع ذلك أن تفضل فضلة أو يحصل التقذر من الإناء أو نحو ذلك…"اه
وقال الحافظ المباركفوري رحمه الله في "تحفة الحوذي"(7/303) بعدما نقل كلام ابن حجر السابق:" قلت : بل هو المتعين عندي والله تعالى أعلم"اه
ولا شك أن هذا من مكارم الأخلاق ومن باب النظافة وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء ثم لا يفعله وإن كان لا يستقذر منه،كما أفاد ذلك الشوكاني رحمه الله في "نيل الوطار"(6/312).
*وذهب بعض أهل العلم إلى أبعد من ذلك فحمل بعضهم رواية البخاري ومسلم عن أنس "ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثا" كما في "نيل الوطار"(6/312) على ظاهرها وأنه يقع التنفس في الإناء ثلاثا وقالوا : فعل ذلك النبي صلى الله عليه ليبين به جواز ذلك.
قلت: يؤيد ذلك أن الفعل المعارض للقول،يدل على الجواز وعلى تنزيل الحكم على ما كان عليه كما هو مذهب بعض أهل التحقيق من الأصوليين والفقهاء ،كما هو مقرر في محله من كتب أهل الأصول.
*وذهب بعض اهل العلم إلى أن معنى قول انس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يتنفس في الإناء ثلاث"،ان ذلك النفس إنما كان خارج الإناء،وهو ما رجحه النووي رحمه الله كما في "المنهاج"(7/221)،فقد نقل ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري"(12/341) عن الإسماعيلي انه قال:" وقال الإسماعيلي : المعنى أنه كان يتنفس أي على الشراب لا فيه داخل الإناء ، قال : وإن لم يحمل على هذا صار الحديثان مختلفين وكان أحدهما منسوخا لا محالة ، والأصل عدم النسخ ، والجمع مهما أمكن أولى . ثم أشار إلى حديث أبي سعيد ، وهو ما أخرجه الترمذي وصححه والحاكم من طريقه ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل القذاة أراه في الإناء؟ فقال:أرقها،فقال إني لا أروى من نفس واحد،قال،فأبن القدح إذا عن فيك ولأبن ماجه من حديث أبي هريرة رفعه إذا شرب احدكم فلا يتنفس في الإناء فإذا أراد ان يعود فلينح الإناء ثم ليعد إن كان يريد"
محل البحث:
هذا وقد إختلف أهل العلم رحمهم الله في حكم شرب الماء دفعة واحدة من غير ان يقطع ذلك بنفس ،بعدما أجمعوا والله اعلم على إستحباب التنفس لم كان بحاجة له.
*فذهب بعض أهل العلم إلى إستحباب التنفس ثلاث مطلقا إذا شرب كان بحاجة للتنفس أو لم يكن بحاجة،واستدلوا بما رواه البخاري (5305)ومسلم (4223) عن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثا " عند أحمد 6/5339،ومسلم 4699" كان يتنفس في الشراب ثلاثا ويقول إنه أروى وأبرأ وامرأ"
*وذهب بعض أهل العلم رحمهم الله إلى المنع من الشرب بنفس واحدة دفعة واحدة،وهذا القول مروي عن جماعة منهم ابن عباس ، ورواية عن عكرمة وطاووس وقالوا : " هو شرب الشيطان "،ولم اجد لهم دليلا لقلتي مراجعي وضعف بحثي والله المستعان.
*وذهب بعض أهل العلم إلى جواز شرب الماء دفعة واحدة من غير تنفس او قطع،وهذا القول مروي عن جماعة منهم عمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب وعطاء والإمام مالك رحمهم الله وغيرهم
واستدلوا بما رواه رواه احمد 4/321 والترمذي 4561 وصححه عن أبي سعيد ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل القذاة أراه في الإناء؟ فقال:أرقها،فقال إني لا أروى من نفس واحد،قال،فأبن القدح إذا عن فيك" قالو وظاهره ان النبي صلى الله عليه وسلم أباح له الشرب في نفس واحد إذا كان يروى منه،ذكر ذلك الشوكاني رحمه الله في "نيل الوطار"( 6/ 313 ) .
فروى عيسى عن ابن القاسم ، أن مالكًا سئل عن قول الرجل للنبى ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنى لا أروى من نفس واحد ، فقال له عليه السلام : فأبن القدح عن فيك ) فقال مالك : أرى ذلك رخصة أن يشرب من نفس واحد ما شاء ". كما في"شرح ابن بطال" (9/103).
قال بن بطال في"شرح ابن بطال" (9/103):" يريد مالك أن النبى لما لم ينه الرجل أن يشرب من نفس واحد ، وقال له : ( أبن القدح عن فيك ) عُلم أن ذلك كالإباحة" اه.
واستدلوا كذلك بما رواه النسائي (3427) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله وسلم إذا شرب احدكم فلا يتنفس في الإناء فإذا أراد ان يعود فلينح الإناء ثم ليعود إن كان يريد" رسول الله صلى الله وسلم قال الهيثمي في الزوائد 4/123 إسناد حديث أبي هريرة صحيح رجاله ثقات" اه
وأورد كذلك ابن بطال في شرحه على البخاري(9/104) عن ميمون بن مهران قال: رآنى عمر بن عبد العزيز وأنا أشرب ، فجعلت أقطع شرابى وأتنفس ، فقال : إنما نُهى أن يتنفس فى الإناء ، فأما إذا لم تتفس فى الإناء فاشربه إن شئت بنفس واحد" اه.
ورجح هذا التفصيل ورضي به الحافظ ابن حجر رحه الله في "الفتح" والشوكاني في "النيل".
قال بن حجر في "فتح الباري"(12/342):" … وقال عمر بن عبد العزيز : إنما نهى عن التنفس داخل الإناء ، فأما من لم يتنفس فإن شاء فليشرب بنفس واحد . قلت : وهو تفصيل حسن . وقد ورد الأمر بالشرب بنفس واحد من حديث أبي قتادةمرفوعا اخرجه الحاكم ، وهو محمول على التفصيل المذكور"
وقال الشوكاني رحمه الله في "نيل الوطار"( 6/ 313 ) بعد ان ذكر الخلاف في المسألة:" وأجازه جماعة منهم ابن المسيب وعطاء ومالك بن انس ، وكره ذلك جماعة منهم ابن عباس، ورواية عكرمة وطاووس وقالوا : " هو شرب الشيطان " والقول الأول أظهر لقوله في حديث الباب للذي قال له إنه لا يروى من نفس واحد " أبن القدح عن فيك"…" اه ،وقد مر النقل عنه انفة.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ان لا إله إلا انت أستغفرك واتوب إليك
بارك الله فيك
تحيآتي الحارة لك…
وفقكم الله