تخطى إلى المحتوى

طبت حياً وميتاً 2024.

  • بواسطة
بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد


الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شعارًا ودِثارًا، ولواء أهل التقوى، وأشهد أن حبيبنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، نبي سلم الحجر عليه، ونبع الماء من بين أصبعيه، وحن الجذع إليه، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.


أما بعد:



فإن المتصدر لتدريس شخصية ما، وذكر أحوالها ومناقبها، وما آلت إليه وما قدمته للناس، يجعل النقد أول معاييره، حتى يضع الناس على بينة من أمرهم، في الصواب والخطأ، والهداية والضلالة والسداد وعدم التوفيق، لكن الذي يريد أن يتحدث عن سيد الأنبياء، وإمام الأتقياء، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم فليس عليه إلا أن يُطأطئ رأسه، ويخشع قلبه، وتسكن جوارحه.



إذ أنه يتحدث عن رحمة مهداة، ونعمة مسداة، عن سيد البشر، وخيرة خلق الله وصفوتهم، عن رسول الهدى، ونبي الرحمة – صلوات الله وسلامه عليه -، وينبغي أن يعلم في أول الأمر أن السيرة واحدة لا تزيد ولا تنقص، ولا يستطيع أحد أن يزيد شيئًا لم يثبت فيها، ولا يستطيع أحد أن ينقص شيئًا مما ثبت فيها.


لكن المسلمين في استسقائهم من سيرته صلى الله عليه وسلم تختلف مواردهم، ومناهلهم، ومصادرهم.


فمن سيرته صلى الله عليه وسلم يستسقي الواعظون وينهل القادة، ويغترف الساسة، وينال العلماء، ويبحث الفقهاء، ويجد كل امرئ له حظًا من سيرته – صلوات الله وسلامه عليه -، والأمر كما قيل:

وكلهم من رسول الله ملتمسٌ

غرفًا من البحر أو رشفًا من الدِيمِ






صلوات الله وسلامه عليه. ثم إنني قلبت الأمور في الوجه الذي أريد أن تخرج به هذه الرسالة على النحو الأتم، والوجه الأكمل، على ما يسعى الإنسان أن ينال به رضوان الله، ثم نفع إخوانه المسلمين، فبدا لي – والإنسان ناقص مهما سعى إلى الكمال – أن أعرض السيرة إجمالاً من الميلاد إلى الوفاة، والوقوف بعد ذلك عند الفضائل والعظات، والعبر أقرب طريق إلى فقه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل والنحو الأتم.

حفاوة الله والأنبياء به صلى الله عليه وسلم:


نبينا صلى الله عليه وسلم نال الحفاوة الكاملة، والاحتفاء التام من ربه – جل وعلا -، وحفاوة الله بأنبيائه سُنة ماضية، قال الله – جل وعلا في حق نبيه إبراهيم عليه السلام: ]قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا[ [مريم: 47]، وقال الله جل وعلا في حق موسى: ]وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي[ [طه: 41].



وقد نال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل حفاوة وأتمها من قبل ربه جل وعلا؛ فلقد مهد الله – جل وعلا – لذلك من قبل، يقول صلوات الله وسلامه عليه: «إني عند الله لخاتم النبيين، وإنَّ آدم لمجندل في طينته».


ثم لمَّا بعث الأنبياء، وبُعث المرسلون – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – أخذ الله – جل وعلا – العهد والميثاق أنه إذا بعث رسولنا صلى الله عليه وسلم وهم أحياء يرزقون أن يصدقوه ويؤمنوا به ]وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين[ [آل عمران: 81].



تبشير الأنبياء به صلى الله عليه وسلم:

ثم كانت دعوة (أبيه) إبراهيم عليه السلام عندما وقف عند البيت: ]رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[
[البقرة: 129]
.



ثم كانت بشارة عيسى عليه السلام: ]وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ[ [الصف: 6].


ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين رأت أن نورًا خرج منها أضاءت له قصور الشام».



وقال صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وحسنه أنه – عليه الصلاة والسلام – قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، خلق الله الخلق فجعلني في خير فرقة، ثم قسمهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتًا فجعلني في خيرهم بيتًا، فأنا خيرهم بيتًا، وخيرهم نفسًا».


إرهاصات النبوة بعد مولده صلى الله عليه وسلم:



لما أراد الله – جل وعلا – له أن يولد في العام الذي ولد فيه، كان في هذا العام إرهاصات وأمور عظام تدل على أن شيئًا ما سيقع، وأن حدثًا عظيمًا سيكون، كانت ولادته صلى الله عليه وسلم في نفس العام الذي غزا فيه أبرهة بيت الله العتيق، وعاد من ذلك الغزو خائبًا خاسرًا كما هو معروف لكل أحد.


ولد صلى الله عليه وسلم لأب اختلف العلماء هل مات قبل ولادته أو بعدها، والأرجح الأول.


ثم إن الله – جل وعلا – أراد أن يبين لسائر الناس أن محمد بن عبد الله لم يكن يومًا تلميذًا لشيخ، ولا طالبًا في مدرسة، ولا ربيبًا لأبوين، وإنما تولته عناية الله في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، ثم بعد ولاته إلى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، فتوفيت أمه وهو صغير لم يبلغ ستًّا من الأعوام، وعاش طفولته الأولى بعيدًا عن أسرته في بادية بني سعد، حتى لا يقولن أحدٌ بعد ذلك أن رجلاً أو شخصيةً ما تولت رعايته، وكونت شخصيته، وألهمته الدروس، وأعطته العبر، وألهمته الكتاب: ]وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ[ [العنكبوت: 48، 49].



فكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه كان عناية إلهية، وفضلاً ربانيًّا محضًا ليس لأحد من البشر – كائنًا من كان – فيه حظ ولا نصيب.


نشأته صلى الله عليه وسلم:

عاش صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن أسرته ثم عاد إلى مكة، فكفله جده عبد المطلب، ثم ما لبث أن توفي ذلك الجد، ثم كفله عمه أبو طالب، ولم يكن دور أبي طالب أكثر من راع معيشيٍّ له – صلوات الله وسلامه عليه – فلم يكن لدى أبي طالب حظ من علم، أو أثرة من كتاب ينهل من خلالها رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى تكونت شخصيته.


فنشأ بعيدًا عما فيه قومه؛ وكذلك العاقل إذا رأى مجتمعات الفساد، وأودية الضلال، ومنتجعات الغواية نأى بنفسه عنها ولو عاش وحيدًا، قال جل وعلا: ]فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًّا[ [مريم: 49] وذلك في حق نبيه إبراهيم عليه السلام.


فالبعد عن أهل الهواية والفساد والشرور والآثام أول طرائق الفلاح، وأول طرائق النجاح.

إرهاصات البعثة:


لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بعيدًا عن محافل الخير، فشهد حلف الفضول، وشهد غير ذلك من مآثر قومه في الجاهلية، ثم بدأت إرهاصات البعثة تدريجيًا، شيئًا فشيئًا، من غير أن يعلم – صلوات الله وسلامه عليه -، فلم يحدث نفسه ذات يوم أنه سيكون نبيًّا؛ لأنه لا علم له بذلك أصلاً، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يرى رؤى، فلا يرى رؤيا إلا وتأتي مثل فلق الصبح حاضرة ناصعة كما رآها في المنام، حتى دنت البعثة، فكان يمشي في طرقات مكة، فتسلم عليه الحجارة: (السلام عليك يا نبي الله)، فيلتفت يمينًا وشمالاً، فلا يرى شخصًا ولا خيالاً فيسكت، ويبقى على حاله.

نزول الوحي والبعثة:

كان صلى الله عليه وسلم قد حبب إليه الخلاء، فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد، ثم إنه صلى الله عليه وسلم في ليلة الواحدة والعشرين من شهر رمضان – على الأرجح – لما تم له أربعون عامًا – جاءه الملك بالنقلة التاريخية لشخصه والنقلة التاريخية للكون كله، إذ بعثه الله رحمة للعالمين، رحمةً من لدنه كما أخبر جل وعلا.


جاءه الملك، ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عهد بالملك أصلاً، فأصابه من الرعب والفزع ما أصابه قال له الملك: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» (أي لا أجيد القراءة أصلاً) فردد الملك: اقرأ، ورسول الله باق على جوابه: «ما أنا بقارئ»، فيضمه الملك ثم يتركه، ويضمه ثم يتركه، حتى يشعره في تلك اللحظات أن الملك خارج عن حديث النفس، فليست تلك رؤيا يراها، أو حديثًا يتردد في نفسه فكان الملك يضمه ثم يتركه، حتى يبين أن هذا الحدث ظاهرة منفكة عن حديث النفس، منفكة عن رؤيا الأحلام، منفكة عن أحلام اليقظة، ثم قال له: ]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ[ [العلق: 1-5].



نزل الرسول صلى الله عليه وسلم خائفًا وجلاً إلى زوجته خديجة، ترك النبي صلى الله عليه وسلم عندها أبناءه وبناته، فلم تحدثه ماذا صنع البنون؟ ولا ماذا أصاب البنات، لم تحدثه عن الجوع الذي قاسته، وإنما نسيت همومها في جانب همه صلى الله عليه وسلم، آوته إلى صدرها، وضمته إليها، ثم قال لها: «لقد خشيت على نفسي»، فطمأنته – رضي الله عنها وأرضاها وجعل الجنة دارها ومثواها – فقالت: «والله لن يخزيك الله أبدًا»، ثم عددت مناقبه: «إنك لتطعم الفقير، وتعين على نوائب الدهر، وتقول الصدق»، وأخذت تسرد له مناقبه، وفضائله صلى الله عليه وسلم، فقدمت بذلك أنموذجًا لما ينبغي أن تكون عليه المرأة مع زوجها.



إنَّ كثيرًا من الناس قد يأتي إليك محمّلاً بالهموم، مثقلاً بالخطايا، فليس من الصواب أن تسرد عليه أنت، ترده وتصده، لكنك ينبغي أن تنسى همومك في جانب همه إذا أردت له النفع والفائدة.



ثم أخذت بيده إلى ورقة بن نوفل، ابن عمها وكان رجلاً له حظ من علم وأثرة من كتاب، فقال له: ذلك الناموس الذي كان يأتي موسى.


انقطاع الوحي:

اشتاق صلى الله عليه وسلم إلى الوحي؛ لأنه سمع القرآن، لكن الوحي انقطع، ولم يأت حتى يذهب الرعب، ويبقى الشوق إلى كلام الله – جل وعلا – تلبيةً من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تلك اللحظات.



قال أكثر أهل العلم أنها بقيت ستة أشهر، وهي مرحلة فتور الوحي، أصاب النبي صلى الله عليه وسلم فيها من الحزن ما الله به عليم، حتى نقل الحافظ في الفتح عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما يصعد إلى شواهق الجبال يريد أن يتردى منها مما أصابه من حزن، ومن شك في النفس منذ الحادثة الأولى.


ولكن بعض المحدثين يقولون: إن هذه الرواية على هيئة بلاغ، وهي لا تصح، وتنافي عصمة الأنبياء، والله تعالى أعلم، وإن كان نفيها أقرب إلى الصحة.


أيًّا كان الأمر فقد عاش صلى الله عليه وسلم فترة عصيبة وهي فترة انقطاع الوحي عنه، حتى أصبح يشك في نفسه فيما رآه في السابق، فلما أصبحت نفسه ذات شوق عظيم إلى كلام الله، إذا به صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث جابر يمشي في طرقات مكة فإذا الملك يناديه فيلتفت، فإذا الملك على كرسيٍّ بين السماء والأرض قد سدَّ ما بين المشرق والمغرب يقول له: ]يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ[ [المدثر: 1-7].


عودة نزول الوحي:


ثم نزل الوحي وتتابع وحمي بأعظم من ذلك، قال الله في آية يبين فيها علو قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه فأقسم الله بمخلوقاته إرضاءً له – صلوات الله وسلامه عليه -: ]وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى[ [الضحى: 1-3].


هذا الإشعار الإلهي الذي جاء على هيئة آية قرآنية فيه من الإثبات للمكانة العظمى لرسولنا صلى الله عليه وسلم مكانة لا يرقى إليها أحد من الخلق كائنًا من كان، إلا أنها في نفس الوقت لا تعطيه صلى الله عليه وسلم أي حظ من الألوهية أو الربوبية، فالألوهية والربوبية كمالها وتمامها لله – جل وعلا – وحده لا شريك له فيها أبدًا.

بدء الدعوة:

أخذ صلى الله عليه وسلم يقوم بواجب الدعوة شيئًا فشيئًا، وهو ما عرف تاريخيًّا بالدعوة في مرحلتها السرية، تغير وجه قريش له، ونالوا منه صلى الله عليه وسلم، وساموه وأصحابه سوء العذاب وهو – عليه الصلاة والسلام – صابر محتسب يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يدعو الناس إلى التوحيد.


إيذاء قريش له صلى الله عليه وسلم:


كان أبو جهل يحمل راية السوء ضده، حتى بلغ من إيذائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما أورد البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود: أن جزورًا نحرت بالأمس فلما كان في الغد جاء صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وصلى، فقال أبو جهل وقريش في أنديتها: أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيضع سلا الجزور على كتفي محمد صلى الله عليه وسلم، فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فحمل سلا الجزور وجاء إلى النبي وهو ساجد فوضع سلا الجزور بين كتفيه الطاهرين صلى الله عليه وسلم.


قال ابن مسعود: (فلو كانت لي منعة لرفعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).


ثم إنه ذهب إنسان إلى فاطمة – رضي الله عنها – وأخبرها الخبر فجاءت وهي جويرية يومئذ فرفعت سلا الجزور عن كتفي نبينا صلى الله عليه وسلم، لما أتم صلاته دعا ثلاثًا، وكان صلى الله عليه وسلم إذا دعا، دعا ثلاثًا، وسأل الله ثلاثًا، ثم قال: «اللهم عليك بأبي جهل، وعتبة بن أبي ربيعة، وشيبة بن أبي ربيعة، والوليد بن عتبة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف»، وسمي سبعة – صلوات الله وسلامه عليه -.



قال ابن مسعود: (فوالله لقد رأيت من سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر) كما وعده الله – صلوات الله وسلامه عليه -.


إن وقفنا عند هذا الحديث، هناك يا أخي أعراف وتقاليد تتغير من مجتمع إلى آخر، والعاقل من يستفيد من تلك التقاليد والأعراف ولا يصادمها.


فابن مسعود كان يعلم أن الأعراف الجاهلية لا تسمح للضعفاء ولا عديمي الظهر أن يكون لهم حظ في الناس، فكان يعلم أنه لا يمكن أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو ميت، فأبقى على نفسه، ولم يأت ليرفع سلا الجزور عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو من الإيمان والتقوى بمكان لا يعلمه إلا الله.


وكانت الأعراف الجاهلية تنص على حفظ المرأة وعدم التعرض لها ولو بدأت بالأذى، فكان موقفًا لفاطمة أنها تقدمت بين صفوف الرجال، وحملت سلا الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم دون أن يصيبها أذى.


فالعاقل من الدعاة، والحكيم من أهل الاستقامة من يتعامل مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية بما يتوافق معها، وهذه التقاليد والأعراف لا تبقى في كل زمان على هيئة واحدة، وإنما تتغير الأعراف والتقاليد من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، والشاهد والمشهود أن يوظفها الإنسان لصالح الدعوة ولصالح هداية الناس إلى طريق الله المستقيم.


عجزت قريش عن الإيذاء الجسدي الفردي فعمدوا إلى الحصار العام، فقدموا إلى أبي طالب وطلبوا منه أن يسلم لهم ابن أخيه – صلوات الله وسلامه عليه- فأبي، فقرر القرشيون مقاطعة بني هاشم لا يناكحونهم، ولا يبتاعون منهم، فأوى أبو طالب وبنو هاشم وبنو المطلب في شعب لهم يقال له شعب بني هاشم، ومكث الحصار ثلاث سنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم وآله مؤمنهم وكافرهم ينالهم من الأذى ما الله – جل وعلا – به عليم.


بقي الحصار ثلاث سنين كان أبو طالب خلال مدة الحصار على كفره، إذا هجع الناس وناموا يعمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذه لينام عنده، ويأمر أحد بنيه أن ينام في مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو همَّ أحد بقتله يقتل ابنه بدلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كله ولله الحكمة البالغة لم يرزق أبو طالب الإيمان بالله – جلا وعلا – ومات على الكفر، ولذلك حكمة لا يعلمه إلا الله – جل وعلا.


بعد أن ينتهي الحصار أو قبل أن ينتهي لا يخلو صراع بين الحق والباطل من نشوء أقوام كما يسمى في عرف السياسيين في هذه الأيام، دول عدم الانحياز، هي في عصرنا هذا على هيئة دول، لكنها في العصر السابق كانت على هيئة أفراد، فينشأ في المجتمع قوم حياديون، ليسوا مع قريش، وليسوا بمؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم.


هؤلاء القوم تشاوروا فيما بينهم وعرفوا بطلان ما دعا إليه رؤساء قريش وزعماؤهم فتعاونوا على نقض المعاهدة، وهنا ينبغي للعاقل من الدعاة وغيرهم أن يرى أهل المروءات الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان، فيتسفيد منهم في عالم الصحوة وعالم الدعوة، ويوظف طاقاتهم وقدراتهم في سبيل الدعوة إلى الله – جل وعلا، ولا يصادمهم حتى لا تخسر الدعوة سندًا وقوة لها، فهؤلاء القوم لم يكونوا من أهل الإيمان، لكن كانت في قلوبهم رحمة، وفي أنفسهم شهامة، وفي خصالهم مروءة وظفوها لنقض المعاهدة، وتم لهم ما أرادوا فنقضت الصحيفة وخرج بنو هاشم من الحصار؟


وبعد الخروج من الشعب – شعب بني هاشم – مات أبو طالب، وماتت خديجة في عام واحد، وقيل: بين موتهما ثلاثة أيام فبدا له صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان لعل وعسى.


خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:

فخرج إلى الطائف وكانت أقرب الحواضر إلى مكة، خرج إلى الطائف فبدأ بسادات ثقيف يدعوهم إلى دين الله – جل وعلا – فلم يكونوا بأحسن حظًّا من كفار قريش، سخروا منه، وأمروا صبيانهم أن يرجموه، فرموه بالحجارة حتى أدميت عقباه صلى الله عليه وسلم، ولجأ إلى حائط في الطائف ولمَّا لجأ إليه – صلوات الله وسلامه عليه – رق له بعض الكبراء وأرسلوا له غلامًا نصرانيًّا يقال له: عداس، ومعه قطف من عنب.


فلمَّا وضع العنب بين يديه، قال صلى الله عليه وسلم: «باسم الله»، فقال الغلام: هذا شيء لا يقوله أهل هذه البلدة! فقال صلى الله عليه وسلم: «من أنت؟ وممن؟» قال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال صلى الله عليه وسلم: «من بلدة النبي الصالح يونس بن متى؟» قال الغلام: وما يدريك من يونس بن متى؟ قال: «هو نبي وأنا نبي»، فأكب الغلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله حتى لامه سادة ثقيف يومئذ. ثم نزل صلى الله عليه وسلم وحيدًا ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة.



فإذا انقطعت أسباب الأرض، لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فورد عنه أنه صلى الله عليه وسلم بث إليه شكواه، ورفع إلى الله نجواه، وهو يعلم أنه نبي مرسل، فناجى ربه قائلاً: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت أرحم الراحمين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ سخط فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبي حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».



فتحت لهذه الدعوات أبواب السماء، فما كاد صلى الله عليه وسلم ينزل من الطائف من وادي نخلة، حتى أرسل الله تعالى له نفرًا من الجن مؤمنين به، حتى تطمئن نفسه، ويسكن قلبه، ويعلم أن العاقبة له: ]وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ[
[الأحقاف: 29]
.



فاطمأنت نفسه صلى الله عليه وسلم شيئًا فشيئًا – صلوات ربي وسلامه عليه -، ثم بعث إلى الملأ من قريش، يخبرهم برغبته في دخول مكة، ويريد أن يدخل في حلف أحدهم، فَردَّه ثلاثة منهم، ثم قبل المطعم بن عدي أن يدخل في جواره، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي، رغم أنه مشرك، استبقاءً للمسلمين حتى لا يتعرضوا للأذى.

رحلة الإسراء والمعراج:


بعد رحلة الطائف، مَنَّ الله عليه برحلة الإسراء والمعراج، فجاءه جبريل، وهو نائم في الحجر، فشق صدره، وغسل قلبه بماء في طست من ذهب ثم أفرغ في قلبه الطاهر إناءً مُلئ إيمانًا وحكمة، ثم قدِّم له البراق، ثم أُسري به صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس حيث المسجد الأقصى وربط دابته في مربط للأنبياء هناك.



ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، لمَّا صد أهل الأرض أبوابهم أمامه، فتح الله له أبواب السماء، فاستقبله هنالك سادات الأنبياء، بدأ بآدم، ثم ابني الخالة يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، ثم بيوسف بن يعقوب – عليهما السلام -، ثم إدريس، ثم هارون، ثم موسى، ثم أبوه إبراهيم – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ثم وصل صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، ورأى جبريل مرة أخرى على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها.


أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه

والرسل في المسجد الأقصى على قدم


لما رأوك به التفوا بسيدهم

كالشهب بالبدر والجندي بالعلم


صلى وراءك منهم كل ذي خطرٍ

ومن يَفُزْ بحبيب الله يأتممِ


ركوبةٌ لك من عز ومن شرف

لا في الجياد ولا في الأنيق الرُّسُمِ


مشيئة الخالق الباري وصنعته

وقدرة الله فوق الشك والتُّهمِ







ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى مضجعه الشريف، ثم توالت الأحداث فالتقى صلى الله عليه وسلم برهط من الأنصار فكانت بيعة العقبة الأولى، ثم التقى برهط آخرين فكانت بيعة العقبة الثانية، ثم أذن الله بالهجرة إلى المدينة المنورة صلى الله عليه وسلم.

الهجرة إلى المدينة المنورة:


هاجر قبله جمع من أصحابه ثم تآمرت قريش عليه، وقرروا قتله في مؤامرة مشهورة معروفة، ثم أخرجه الله – جل وعلا – من بين أظهرهم، دون أن يروه، وهو يتلو: ]وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ[ [يس: 9] ثم التحق بصاحبه أبي بكر، وأوى إلى غار في جبل ثور عرف بغار ثور، ومكثا في الغار، والطلبُ والرصدُ تبعٌ لهما، مرة بعد المرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار.


أمرغ في حراء أديم خدي

دواما بالغداة وبالعشي


لعلي أن أنال بحر وجهي

ترابًا مسه قدم النبي

مكث صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام، وقريش تبعث الطلب والرصد، فوقفوا على مقربة من الغار، وأبو بكر يقول: يا رسول الله لو أنَّ أحدهم نظر أسفل قدميه لرآنا، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بالك باثنين الله ثالثهما» هذا نصر الله جل – وعلا – على هيئة الكتمان آتاه الله – جل وعلا – النبي، فلما سكن الرصد، وقل الطلب، خرج صلى الله عليه وسلم من الغار وصاحبه متوجهًا إلى المدينة المباركة، كانت الأنصار قد بلغهم خروجه صلى الله عليه وسلم فصاروا يخرجون كل يوم ينتظرون أوبته، ينتظرون قدومه، حتى وهج الشمس، ثم يرجعون إلى دورهم.



فلما كان اليوم الذي وصل فيه صلى الله عليه وسلم خرج رجل من اليهود على أطم من آطام المدينة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه عرفهم، فنادى بأعلى صوته: يا بني قيلة!! وهو جد تشترك فيه الأوس والخزرج، هذا جدكم الذي تنتظرون، فسمع في المدينة التكبير، وابتدر القوم إلى السيوف، وخرجوا يستقبلون نبيهم صلى الله عليه وسلم.



بالأمس خرج من مكة شريدًا طريدًا، في ظلمة من الليل، ثم ما لبث أن نصره الله، فدخل المدينة كأعظم ما يدخلها الملوك، والأنصار من حوله، كلَّما مر على ملأ قالوا له: هلم إلى العدد والعدة، هلم إلى العزة والمنعة يا رسول الله، وهو يقول: «خلُّوا سبيلها فإنها مأمورɻ، حتى بركت الناقة في موطن مسجده اليوم صلى الله عليه وسلم، على مقربة من بيت أبي أيوب، فعمد أبو أيوب إلى متاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدخله بيته، فقال – عليه الصلاة والسلام -: «المرء مع رحله» ثم بنى مسجده وبدأ يضع النواة الأولى لدولة الإسلام – صلوات الله وسلامه عليه.

غزوة بدر:


ثم جاءت الغزوات فكانت غزوة بدر وهي حدث عظيم، لكن من أعظم ما يلفت النظر فيها أنه صلى الله عليه وسلم بعد ما أخذ بالأسباب المادية وجهز الجيش وأعد العدة، لجأ إلى ربه، فاللجوء إلى الله – جل وعلا – لا يستغنى عنه أحد كائنًا من كان، مهما عظمت قدراتنا، وبلغ حولنا ما بلغ، وزادت قوتنا، فإن حاجتنا إلى الله جل وعلا حاجة أبدية؛ لأننا فقراء إلى الله – جل وعلا – مهما بلغنا، مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ينادي ربه حتى سقط رداؤه عن منكبه – صلوات الله وسلامه عليه – وأبو بكر يأتيه من الخلف ويضمه ويقول: بعض مناشدتك ربك يا رسول الله، فأنزل الله: ]إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ[ [الأنفال: 9].



فكان النصر له – صلوات الله وسلامه عليه -، فلما أقر الله عينه بالنصر ووضع القتلى في قليب بدر نظر إليهم – عليه الصلاة والسلام – وأخذ يقول: «يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان – يناديهم بأسمائهم -: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا» فتعجب أصحابه، قالوا: يا رسول الله، تكلم قومًا قد جيفوا؟ قال: «يا عمر! والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يملكون جوابًا».



كان هذا النصر أعظم ما يكون المسلمون في حاجة إليه، حتى تطمئن أنفسهم، ويثقوا بنصر الله؛ لأنه كان أول نزال بين أهل الكفر وأهل الإيمان بعد أن أذن الله بالقتال.

غزوة أحد:


ثم كانت أحد، وما أدراك ما أحد؟! فيها من العظات الشيء الكثير، لكن فيها أن وجهه صلى الله عليه وسلم كان نورًا يتلألأ، كأنه فلقة قمر، ومع ذلك يريد الله أن يثبت أن الكمال المطلق لله وحده سبحانه، فيشاع في أرض المعركة أنه صلى الله عليه وسلم، قتل ويشج رأسه، وتكسر رباعيته، ويسيل الدم على وجهه الشريف ثم يمسح صلى الله عليه وسلم وجهه الطاهر بيديه، ويقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الإسلام؟» فأنزل الله – جل وعلا – قوله: ]لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ[ [آل عمران: 128]. فالأمر كله لله –جل وعلا– وحده.



وليت بني قومي اليوم إذا سمعوا بهلاك أحد، أو بموت أحد، لا يشغلون أنفسهم هل هو في جنة أو هو في نار؟ فهذه أمور لله تبارك وتعالى وحده، ولم يكلفنا الله تبارك وتعالى بأن ندخل من نشاء الجنة أو أن نحرم من نشاء منها، أو ندخل من نشاء النار، أو نمنع من نشاء منها، الجنة والنار بيد الله العزيز الغفار، والله –جلا وعلا– أعلم بخلقه، وأعلم بما تكنه الصدور، وهو تبارك وتعالى أسرع الحاسبين، وقد قال بعض الصالحين لولده ينصحه: يا بنيَّ! إن الله لن يسألك لم لم تلعن فرعون، مع أن فرعون ملعون في كتاب الله، لكن العاقل من لا يلقي لمثل هذه الأمور بالاً، ولا يشغل بها نفسه، الجنة والنار بيد أسرع الحاسبين، وبيد رب العالمين، وبيد أرحم الراحمين، ولن يسألنا الله من هم أهل الجنة؟ ومن هم أهل النار؟ ولكننا لأنفسنا نسأل الله الجنة ونستجير بالله – جل وعلا – من النار.



وفي مسند البزار: إن لا إله إلا الله كلمة كريمة على الله، من قالها في الدنيا صادقًا دخل الجنة، ومن قالها في الدنيا كاذبًا حقنت دمه وحسابه على الله – جل وعلا – فالعاقل لا يشغل نفسه بما لا يعنيه، لكنه في حوادث الدهر يحكم فيهن ما أمر الله به ورسوله.

أما الحوادث الأخروية فلسنا مسؤولين عنها؛ لأن علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.



وفي غزوة أحد أراد الله – جل وعلا – أن يربي المسلمين على أن القادة العظماء، والزعماء الأفذاذ، لا يربون الناس على التعلق بذواتهم، وعلى حبهم، والمبالغة في الغلو فيهم ولكنهم يربون الناس على التعلق بالله – جل وعلا، فلما أصاب المسلمين ما أصابهم يوم أحد قال الله – جل وعلا – معاتبًا أهل الإيمان: ]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ[ [آل عمران: 144، 145].



فالعاقل لا يربي من حوله على التعلق به، وإنما يربيهم على التعلق بالله – جل وعلا – وحده.



فلا إله إلا الله تعني أن الكمال المطلق، والحب المطلق، والتوحيد المطلق، والتكبير المطلق لا يكون إلا لله – جل وعلا – وحده، فإذا كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وجوده رحمة، وعدمه لا يضر المسلمين شيئًا إذا اعتصموا بما جاء به، كان غيره أولى وأجدر أن تطبق عليه هذه القاعدة فكان صلى الله عليه وسلم حي المبادئ، حي الدين الذي جاء به، أما هو صلى الله عليه وسلم فيجري عليه قلم القضاء: ]إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ[ [الزمر: 30، 31]، فهذا أعظم ما خرج المسلمون به يوم أحد من تربية إلهية لهم.


غزوة الأحزاب:

ثم كانت غزوة الأحزاب، تجمعت قريش، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدينته، فاستشار الناس، فأشار عليه سلمان الفارسي أن يحفر الخندق، والخندق وسيلة حربية مجوسية، أخذها سلمان من أهل فارس، لم يكن للعرب عهد ولا علم بها آنذاك، وهنا نأتي لما عرف في عصرنا بصراع الحضارات، ينبغي أن يفرق أهل التقوى ما بين التقارب الديني، وما بين التقارب الحضاري.


الدين يا أخي صنع إلهي، لا يملك أحد أن يزيد فيه وينقص، والحضارة صنع إنساني قابلة للزيادة والنقصان، قابلة للأخذ والعطاء، قابلة للتلاقح بين الأمم، إذا تقاربت وتنافست!


فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مشورة سلمان، وعمل الخندق لما رأى فيه مصلحة يقوم به صلاح أمته، ولم يقل صلى الله عليه وسلم حينها: «من تشبه بقوم فهو منهم»، من تشبه بقوم فهو منهم محمول على من تشبه بهم في أمور الدين، أما الصناعات الإنسانية فليست ملكًا لأحد، ولقد كانت العرب لا تأتي المرأة وهي مرضع خوفًا من أن يؤثر الإتيان على الرضيع، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارس والروم تصنع ذلك، ولا يضر أبناءها شيئًا لم ينه أمته عنه كما روى مسلم في الصحيح من حديث جابر t، فالحضارات حق مفتوح، وأمر مشاع، يجوز للأمة أن تأخذ منه إذا رأت في ذلك مصلحتها، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، أما الدين فـ ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[ [المائدة: 3].



ما عندنا من الدين يمنعنا أن نأخذ ولو قطرة من سقاء من أي دين أو ملةٍ على وجه الأرض؛ لأن الله يقول: ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[
[آل عمران: 85]
.

صلح الحديبية:


ثم توالت الأمور حتى كانت السنة السادسة فعزم صلى الله عليه وسلم على التوجه إلى مكة معتمرًا وأخذ معه رهطًا من أصحابه معهم السيوف في قُرُبها، فلما دنوا من البيت العتيق منعتهم قريش من أن يدخلوا، فجرى ما جرى من التفاوض وكانت قريش تريد أن تطمئن إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت لقتال، فكان أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم عثمان؛ لأنه كان يؤمئذ عزيزًا منيعًا في بني أمية، وكان أكثرهم مشركًا حين ذاك، ثم أشيع أن عثمان قد قتل، فبايع الصحابة – رضي الله عنهم وأرضاهم – نبينا صلى الله عليه وسلم على الموت تحت ظل شجرة سمرة، وكان الذين بايعوه حينئذٍ ألفًا وأربعمائة رجل كلهم إلا الجد بن قيس كان رجلاً منافقًا لم يحضر البيعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء: «أنتم خير أهل الأرض»، وقال لهم: «لا يدخل النار رجل بايع تحت الشجرة».


ثم إنه صلى الله عليه وسلم بسط يمينه وقال: «هذه عن عثمان»، ثم بسط يساره يبايع نفسه بنفسه. قال العلماء: فكانت يد رسول الله لعثمان خيرًا من يد عثمان لعثمان نفسه.


بعد هذه البيعة وبعد مداولات أُقر الصلح بين المسلمين وبين كفار قريش، والصلح ظاهره فيه إجحاف بحق المؤمنين، وباطنه الرحمة، إذ وضعت الحرب، وألقت أوزارها.


وأخذ ذوو العقول يفكرون في الطرائق المثلى للوصول إلى الإيمان، إن هناك أناسًا يرزقهم الله – جل وعلا – عقولاً، ويمنعهم من الاستفادة منها حجب التقليد التي يضعونها أمامهم، أبو جهل كان يعلم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم على الحق، ورأى من الآيات ما يشهد له بذلك، لكن الحسد والتقليد الأعمى منعه وكان سببًا في حرمانه من دخول الإيمان. أمَّا سُراقة بن مالك لما تبع النبي صلى الله عليه وسلم ورأى الآية لما ساخت قوائمُ فرسه آمن أن النبي حق وعرف الآية، وبنذ التقليد وراء ظهره.


خلال هذه الفترة بعد الصلح رجع عقلاء الناس إلى أنفسهم، وأخذوا يناقشونها ويحاسبونها، فدخل كثير من الناس أفواجًا في دين الله، فانقلب ذلك العدد من ألف وأربعمائة رجل إلى عشرة آلاف يوم الفتح، كما سيأتي ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وفي العام الذي بعده كانت عمرة القضاء، ثم إنه صلى الله عليه وسلم غزا خيبر.

فتح مكة:

ثم لما كان العام الثامن كانت من ضمن شروط صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل حلف محمد دخل، ومن شاء أن يدخل في حلف قريش دخل، فدخلت بنو بكر في حلف قريش، ودخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، فأعانت قريش بكرًا على خزاعة، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة يستنصر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: «نصرت يا عمرو بن سالم».


ثم جهز صلى الله عليه وسلم جيشه، وقدم على مكة في عشرة آلاف من أصحابه، ودخلها صلى الله عليه وسلم دخولاً عظيمًا أظهره الله جل وعلا فيه.
دخلها من أعلاها من كداء، وعلى يمينه أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه وأرضاه – يحمل اللواء.


لكنه – عليه الصلاة والسلام – طوال دعوته وجهاده لم يكن يطلب حظًّا لنفسه، وإنما كان يريد أن يبلغ رسالة ربه، فلما أظهره الله، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة طأطأ رأسه حتى إن لحيته الشريفة كانت تمس وسط راحلته، تواضعًا لله – جل وعلا – حتى يعلم الخلق أن التواضع لله أعظم أسباب النصر.


فدخل صلى الله عليه وسلم مطاطئًا رأسه متواضعًا لربه، على بغلته، طاف بالبيت سبعًا، وأشار إلى الأصنام بعود في يده وهو يردد: ]وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[ [الإسراء: 81].

ثم سأل عن عثمان بن أبي طلحة وكانت حجابة البيت عنده يومئذ، وما زالت، ففتح له باب الكعبة، فدخلها صلى الله عليه وسلم، فوجد فيها صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فقال: «ما أكذبهم! والله لقد علموا ما استقسم بها إبراهيم قط!» ثم أمر بالأصنام والأزلام فأخرجت، ثم كبر في نواحي البيت، وصلى ركعتين ثم خرج.


فلما خرج بدره عليٌّ كرم الله وجهه قائلاً: (يا رسول الله! اجمع لنا السقاية والحجابة)، فقال صلى الله عليه وسلم: «أين عثمان بن أبي طلحة»؟ قال: أنا يا رسول الله، فأعطاه ***** الكعبة، وقال: «اليوم يوم برٍّ ووفاء، خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم»، فإلى اليوم ***** الكعبة في يد بني شيبة يفتحون الكعبة متى شاءوا، و]ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[ [الجمعة: 4].


ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر على مكة عتاب بن أسيد، وقبل أن يدخلها أسلم أبو سفيان وجيء به إليه، وقيل: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فقال صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، الزعماء من الناس والذين تربوا على القيادة، من الصعب أن تسلبهم حقهم بالكلية؛ لأن ذلك يحدث تغيرًا في أنفسهم، ونحن ما بعثنا لنخاصم الناس في دنياهم، وإنما بعثنا كدعاة علماء، لكي ننقذ الناس من الظلام، فاترك للناس دنياهم يتركوا لك دينك، فقال صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، ومعلوم أن دار أبي سفيان لا تحمل أكثر من عشرة نفر، ولكن عندما يعلن في الملأ وفي بيوت مكة «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» يصيب أبا سفيان من الرضا ما يصيبه وينال من الفخر ما يناله دون أن يضر الإسلام شيئًا.


ثم عرج رسول الله على هوازن وثقيف، فكانت غزوة حنين وغزو الطائف غَرَّ كثير من المسلمين ما هم فيه من كثرة العدد، ثم ثبت الله نبيه، وأعاد الأمر إلى نصابه، وعند منقلبه صلى الله عليه وسلم من الطائف، بدا له أن يقسم الغنائم، فأعطى أربعة من رؤساء الناس يومئذ ممن أسلموا حديثًا، ألف بعير لكل واحد، وقسم الكثير من الغنائم على عدد بلغ الستين عند جمهرة المؤرخين، ولم يعط الأنصار شيئًا – صلوات ربي وسلامه عليه – فحزَّ ذلك في أنفسهم، وتغيرت بعض قلوبهم، فقال حدثاء الأسنان منهم؛ يغفر الله لرسول الله، يعطي قومه وإن سيوفنا لتقطر من دمائهم، فبلغ ذلك القول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان – عليه الصلاة والسلام -، من العلم والقدوة بمكان لا يرقى إليه أحد.


يا أخي: القادة العظماء لا يتركون الحزز في النفوس، لكل إنسان مشاعر وأحاسيس وآراء لو أننا كبتناها لانقلبوا علينا، لكن لا يمكن أن ينجح أمير في بلدته، ولا زعيم في دولته، ولا أب في بيته، ولا معلم في فصله ولا مرب في حلقته، إذا كان لا يستمع إلى مشاعر وأحاسيس، من هم تحته فالله – جلا وعلا – كلم موسى واستمتع إليه وهو مخلوق من المخلوقات ]قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ[ [الشعراء: 12]، ]قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ[ [القصص: 33، 34].


يعلم كل ذلك من قبل أن يخلق موسى، مع ذلك استمع إليه وهو الله – جل وعلا – ولله المثل الأعلى.


فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار في قبة، ثم قال لهم في معالجة تربوية يقصر عنها بيان البلغاء، قال: «ما مقولة بلغتني عنكم، ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله؟ ألم تكونوا عالةً فأغناكم الله؟ ألم تكونوا أعداءً فألف الله بين قلوبكم»؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، لله ورسوله المنة والفضل، فقال: «ألا تجيبوني؟» فقالوا: بم نجيب يا رسول الله!


فتولى الإجابة عنهم، قال: «إنكم لو شئتم لقلتم، ولصدقتم، وتصُدِّقْتم: أتيتنا طريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك، ومخذولاً فنصرناك»، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار، أوجدتم في أنفسكم عليًَّ في لعاعةٍ من الدنيا أسلمتها إلى قوم حديثي عهد بالإسلام، وأوكلكتم إلى ما جعل الله في قلوبكم من الإسلام، يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يعود الناس بالشاء والبعير، وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟»، فبكى القوم – رضي الله عنهم وأرضاهم – وقالوا: رضينا بالله ربا وبرسول الله قسمًا وحظًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار»، وانقلبوا راجعين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.


إن حاجتنا ملحة أن نستمع إلى الغير، وإن من أعظم الأخطاء في التربية والدعوة، أن يجعل الإنسان من نفسه سلطانًا على الغير، يفكر بدلاً منه، ويشعر بدلاً منه، ويرى ما حولهم بدلاً منهم؛ ذلك أسلوب فرعوني نقمه القرآن: ]قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ[ [غافر: 29].
وقد قيل:
زمان الفرد يا فرعون ولى

ودالت دولة المتجبرينا


وأصبحت الرعاة بكل أرض

على حكم الرعية نازلينا

عام الوفود:



قفل صلى الله عليه وسلم عائدًا إلى المدينة؛ وفي ذلك العام كان عام الوفود، فبدأت وفود العرب تقدم عليه – صلوات الله وسلامه عليه -، وكان من الوفود التي قدمت وفد نجران، وكان وفد نجران مسيحيًا، يعبدون المسيح بن مريم، فلما قدموا عليه أخذوا يجادلونه، ويقولون له: كيف نتبعك، وأنت تنتقص صاحبنا، وتقول: إنه عبد الله ورسوله؟ قال: «نعم، عيسى بن مريم، عبد الله ورسوله» فقالوا: كيف يكون عبدًا لله رسوله؟ أرأيت ولدًا ولد من غير أب، فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: ]إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ[ [آل عمران: 59، 60] فلئن كان عيسى ولد من غير أب، فإن آدم خلق من غير أم ولا أب، فجاءوا بالغريب، فجاءهم الله بما هو أغرب ردًّا على حجتهم، فلما قال لهم صلى الله عليه وسلم ذلك، أبوا أن يسلموا، فدعاهم إلى المباهلة ودعا عليًا والحسن والحسين وفاطمة، وقال: «إن دعوت فأمنوا» فأنزل الله – جل وعلا -: ]فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ[ [آل عمرن: 61].



فعرفوا أنه نبي الله حقًا، لكنهم لم يؤمنوا وخشوا من مباهلته، ثم أنهم صالحوه على ألفي حلة تؤدي له صلى الله عليه وسلم مرتين في العام وأشياء أخرى.



وفي عصرنا هذا نشأ ما يعرف بتقارب الأديان، وحوار الأديان، فأما حوار الأديان فلا حرج فيه شرعًا، إذا أراد المحاور المسلم أن يثبت صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله – جل وعلا – رب لا رب غيره، ولا شريك له، أما تقارب الأديان، فأمر مرفوض؛ لأنه لا يمكن أن تلتقي الأديان في شيء واحد، فإن ذلك يعني تنازلاً عقديًا، والمسلمون أمرهم الله أن يقولوا: ]قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[ [الكافرون: 1-3].



فالمسلم على ملة حنيفية بيضاء لا ينبغي له أن يجيد عنها مثقال ذرة، وليس هناك مصلحة ترقى على مصلحة التوحيد ولا مفسدة أعظم من مفسدة الشرك، وما يسمى بتقارب الأديان يفضي إلى ترك التوحيد، وقد قال الله – جل وعلا -: ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[ [آل عمران: 85].


حجة الوداع:


ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان العام العاشر فأعلن على الناس عزمه على الحج، فلما أعلن عزمه على الحج – صلوات الله وسلامه عليه – تسامع الناس بذلك، فقدموا إليه حتى يأتموا به، فخرج صلى الله عليه وسلم، بعد أن أحرم من ذي الحليفة مهللاً ومكبرًا، حتى وصل مكة فطاف بالبيت سبعًا، ثم رقى الصفا وقال: «أبدأ بما بدأ الله به»، ثم أتم نسكه صلى الله عليه وسلم.



حتى كان اليوم الثالث عشر فنزل بعد أن رمى الجمرات الثلاث، ثم نزل في خيف بني كنانة – صلى الله عليه وسلم – فصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم اضطجع، ثم لما كانت صلاة الفجر نزل إلى الحرم قبل صلاة الفجر، ثم طاف طواف الوداع، ثم صلى بالناس صلاة الفجر، ثم قفل رجعًا إلى المدينة يُكبر على كل شرف من الأرض، ويقول لما دنا منها: «آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون» – صلوات ربي وسلامه عليه.


مرضه ووفاته صلى الله عليه وسلم:


ثم اشتكى الوجع فبدأ يشعر بتغير حاله، واشتدت عليه الحمى، فلما شعر بدنو أجله خرج صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فاستغفر لأهله، ثم خرج إلى أحد فشهد للشهداء معه، ثم تصدق صلى الله عليه وسلم بدنانير كانت عنده، وأعتق غلمانه، ثم إنه – صلوات الله وسلامه عليه – مكث ينتظر أجل ربه يومًا بعد يوم، والحمى تشتد عليه حتى كان صبيحة يوم الاثنين الثاني من ربيع الأول على الأظهر والأصح – والله أعلم – فكان في صبيحتها أن أطل من بيته فرأى أصحابه يصلون صلاة الفجر مأتمين بأبي بكر فقرت عينه، وسكنت نفسه، بعد أن رآهم مجتمعين على إمام واحد خاشعين لربهم، وبذلك أرسل، وبذلك بعث صلى الله عليه وسلم.


ثم إنه عاد إلى فراشه واشتدت عليه وطأة الحمى ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي فمه سواك، ثم استاك – صلوات الله وسلامه عليه -، ثم ما زال يردد: بل الرفيق بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، ثلاثًا ثم فاضت روحه وانتقل إلى رحمة خالقه ومولاه، خير من أرسل وأجلّ من بعث – صلوات الله وسلامه عليه – بعد أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا مهالك.

الخاتمة


ولا ينبغي لمن يقف على السيرة وينظر في مسيرتها أن يغفل عن شيء مهم، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان له من كريم الصفات وجليل النعوت ما حبّب الناس إليه واجتمعوا عليه – صلوات الله وسلام عليه، وكان في كل حينه منقطعًا إلى ربه دائم الصمت، عليه من السمت والوقار ما عليه، حتى إنه صلى الله عليه وسلم تفقده عائشة ذات ليلة، فإذا هو في المسجد منتصبة قدماه يقول في سجوده: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك».


أيها المؤمنون: هذه قطوف من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم من الله علينا وعليكم، وأبحرنا خلالها وإننا مهما قلنا لمقصرون، ومهما تحدثنا لن نبلغ الصواب كله، ولن نبلغ الكمال كله، لكن إن كان من وصية أختم بها فإن الله – جل علا – شرفنا أن جعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي عصرنا هذا من أسباب الفجور، وأسباب البعد عن الله ما لا يخفى على أحد، والبعد عن أسباب الفجور والسلامة منه.


إن السلامة من سلمى وجارتها

ألا تمر على سلمى وواديها







ويحتاج هذا الأمر كله إلى صبر على هدي محمد صلى الله عليه وسلم فليوطن أحدنا نفسه على الصبر، ويوطنها على اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم أن هذه الفتن التي تتابع شررها وتفاقم خطرها إنما هي بلاء وفتنة، يصرف الله – جل وعلا – بها من يشاء من طريقه، ويهدي الله – جل وعلا – من يشاء.



من أخلص لله النية وصلح قلبه واستقامت سريرته وُفق للصواب، وهدي إلى سبيل الرشاد، هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.