الإجابة:الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ وَالاه، ثمَّ أمَّا بعد:
فقد سبق بيان حكم الغناء في فتوى على الموقع بعنوان (حكم الغناء).
وقد بين ابن القيِّم رحمه الله معنى مقولة "الغناء بريد الزِّنا"، فقال: "وذلك لما يجلبه على النفس من التعلُّق بغير ذِكْر الله، والصَّدِّ عن القرآن، والإعراض عن سماعه؛ لأنَّه لا يجد فيه لذَّةً ولا متعةً، بخلاف حاله مع مزمار الشيطان، فكم وجدنا من أناسٍ يردِّدون الأغاني ويخشعون لها أعظم من تردادهم لذِكْر الله أو خشوعهم بسماع القرآن، فيضعف إيمانهم؛ لأنه لا يجتمع في قلب إنسانٍ مزمار الشَّيطان وكلام الرَّحمن، فلابدَّ أن يطرد أحدهما الآخَر".
وقال في "إغاثة اللَّهفان": "إنك لا تجد أحدًا عُنيَ بالغناء وسماع آلاته – إلاَّ وفيه ضلالٌ عن طريق الهُدى علمًا وعملاً، وفيه رغبةٌ عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عَرَضَ له سماع الغناء وسماع القرآن عَدَلَ عن هذا إلى ذاك، وثَقُلَ عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يُسْكِت القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغنِّي ويستقصر نَوْبَتَه، وأقلّ ما في هذا: أنْ يناله نصيبٌ وافرٌ من هذا الذمِّ – إن لم يَحْظَ به جميعه – والكلام في هذا مع مَنْ في قلبه بعض حياةٍ يحسُّ بها فأمَّا مَنْ مات قلبه وعَظُمَتْ فتنته؛ فقد سَدَّ على نفسه طريق النَّصيحة: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [ المائدة: 41]". انتهى.
فضلاً عن تحديث النفس بما يُغَنَّى به من ذِكْر الحبيب، والهُيام به؛ فتهيج النُّفوس، وتنبعث الشَّهوات بتلك الأصوات الدَّاعية للخَنا والبُعْد عن الله؛ ولذلك بريد الزِّنا بسببه.
وقال أيضًا رحمه الله: "وأما تسميتُه (رُقْيَة الزِّنا)؛ فهو اسمٌ موافقٌ لمسمَّاه، ولفظٌ مطابقٌ لمعناه، فليس في رُقَى الزِّنا أَنْجَع منه، وهذه التَّسمية معروفةٌ عن الفُضَيْل بن عِياض".
وذكر عن يزيد بن الوليد أنه قال: يا بني أُمَيَّةَ، إيَّاكم والغناء؛ فإنه يُنْقِص الحياء، ويزيد في الشَّهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السُّكْر. فإن كنتم لابدَّ فاعلين؛ فجنِّبوه النِّساء، فإنَّ الغناء داعيةُ الزِّنا … ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استصعبت على الرَّجل – اجتهد أن يُسمعها صوتَ الغناء، فحينئذٍ تعطي اللّيان. وهذا لأنَّ المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدًّا، فإذا كان الصوت بالغناء؛ صار انفعالها من وجهين: من جهة الصَّوْت، ومن جهة معناه. ولهذا قال النبيُّ لأَنْجَشَة حَادِيهِ: "يا أَنْجَشَة، رويدك، رفقًا بالقوارير"؛ يعني: النِّساء".
وأيضًا؛ فإن الغناء يُنْبِت النِّفاق في القلب، كما ثبت عن ابن مسعود وعامر الشعبي وروي مرفوعا للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يصح، ولمَّا سُئل الإمام أحمد عن الغناء قال: "الغناء يُنْبِت النِّفاق في القلب، لا يُعْجِبُني". ثم ذكر قول مالك: "إنَّما يفعله عندنا الفسَّاق".
وقال ابن القيِّم أيضًا: "اعلم: أن للغناء خواصَّ لها تأثيرٌ في صَبْغ القلب بالنِّفاق، ونَباتَه فيه كنَبات الزَّرع بالماء. فمن خواصِّه: أنه يُلهي القلب، ويصدَّه عن فَهْم القرآن وتدبُّره، والعمل بما فيه، فإنَّ الغناء والقرآن لا يجتمعان في القلب أبدًا لما بينهما من التَّضادِّ، فإنَّ القرآن ينهى عن اتِّباع الهوى، ويأمر بالعفَّة، ومُجانَبة شهوات النُّفوس، وأسباب الغيِّ، وينهى عن اتِّباع خطوات الشَّيطان، والغناء يأمر بضدِّ ذلك كلِّه، ويحسِّنه، ويهيِّج النفوس إلى شهوات الغيِّ؛ فيثير كامِنها، ويزعج قاطنها، ويحرِّكها إلى كلِّ قبيح، ويسوقها إلى وصْل كلِّ مليحةٍ ومليح، فهو والخمر رضيعا لَبانٍ، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رِهانٍ". اهـ. وانظر تمام البحث في: "إغاثة اللَّهفان من مصايد الشيطان" لابن القيِّم.
ولابدَّ أن تَعْلَم: أن بيئة الغناء هي بيئة المنكرات والفضائح، التي فاحت روائحها المُنْتِنَة على صفحات الصُّحف ووسائل الإعلام، فكيف يرضى المسلم لنفسه أن يستمع لأمثال هؤلاء، ويُعجَب بهم وبغنائهم، سواءٌ بقَصْد التَّسلية أو غير ذلك؟! خاصةً ولو وضِعَت كلماتُ الأغاني في ميزان الشَّريعة، لوجدناها تشتمل على الشِّراك والكفر، والفسوق والعُهْر، هذا مع ما يصاحبها من موسيقى محرَّمة، وطريقة أداءٍ فيها تكسر ومُيوعَة وانحلال، أو تخنث وتشبه بالنساء لو كان المطرب ذكرًا. نسأل الله العافية لنا ولجميع المسلمين.
وننبه الأخ السائل على ضرورة تفقد قلبه؛ فَيُخشى أن يكون الاستشكال الذي ذكره من جرّاء الغفلة أو الران الذي يعلو القلب من كثرة الذنوب، ومنها السماع المحرم، أو يكون من إلف المعصية؛ فإن القلب إذا كان فيه بقية حياةٍ فلابد أن يؤثر فيه الغناء تأثيرًا سلبيًا فيشعر بالفارق، وأما إن مات القلب -عياذا بالله- فلا يشعر بالفارق لأن القلب يكون على حالة واحدة "وما لجرح بميت إيلام"؛ ولذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "تُعرضُ الفِتَنُ على القلوبِ كَالحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأَىُّ قلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ، وَأَىُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكتَ فِيهِ نُكتَةٌ بَيْضَاءُ؛ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبيَضَ مثْلِ الصَّفا، فلا تضرُّه فتنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوات والأَرض، والآخرُ أسود مُربادًّا كالكُوزِ مُجَخيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ولا ينْكِر منكرًا إلاَّ ما أشْرب من هَواه" ،، والله تعالى أعلى وأعلم.