السلام عليكم ورحمة الله
والتـي تهـدف إلـى التـعريف بالمـنهج السـلفي وإزالـة كل الشـبهات حول السـلفية.
والله المـوفق
__________________________
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أّصْدّقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وّكُلَّ مُحْدّثّةٍ بِدْعَة، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
إخوتي وأحبتي في الله، لقد اخترتُ هذا العنوان الذي سمعتموه ليكون مدخل هذه المحاضرة؛ وهو:
وهذه العبارة العظيمة: "مَنْهَجُ السَّلَفِ أَسْلَمُ وَأْعَلَمُ وَأَحْكَمُ"، ذَكَرَهَا شيخُ الإسلام ابنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه الله تعالى- في معرض رَدِّهِ على أهل الكلام والمَنْطِقِ، الزاعمين بأن طريقةَ السلف أسلمُ، وطريقةَ الخلف أعلمُ وأحكمُ، ورَدَّ على ما بَنَوْا عليه هذه القاعدةَ الفاسدةَ؛ والتي تتلخص في أمرين:
فقد زعموا في هاتين المُقدّمتَيْن أن السلفَ كانوا لا يَعْلَمُونَ إلا ظَوَاهِرَ النصوص التي ليست لها معانٍ، فَهُمْ يفهمون على أنها ألفاظٌ جوفاءُ؛ خصوصًا في باب الأسماء والصفات. ثم رتَّبوا على ذلك أن الحقَّ هو تلك التأويلاتُ الفاسدةُ التي تَوَصَّل إليها الخَلَفُ، وَهُمُ المشتغلون بِعِلم الفلسفةِ والمنطقِ وعلمِ الكلامِ، الذي ضلَّتْ بِهِ الأمة، أو ضل به كثيرٌ من الناس عن منهج الله الحق.
وما أَشْبَهَ الليلةَ بالبارحةِ!
فإننا نسمع مقولاتٍ من هنا وهناك، شبيهةً بمقولات أهل الكلام والمنطق؛ القائلينبأن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم،وهي قَوْل كثيرٍ من زعماء الفكر في هذا العصر: إِنَّ العلماءَ -يَعْنُونَ بذلك علماءَ الأمة- عَلَى خَير وعلى -يعني- أمرٍ طيب؛ غَيْرَ أنهم لا يُدرِكون ما يُحيط بالأمة من أخطار، ولا يَعُونَ ذلك، وأن أصحاب الفكر وأصحابَ الثقافة الصحفية والكُتب العصرية، هُمُ الَّذين يُدرِكون أو يَملكون الحلولَ لِمشاكل الأمة وإزالة الأخطار التي تحيط بها من كل مكان!
لذا نسمع أوصافًا لا تليق يُوجِّهونها إلى علماء الأمة: من أنه يُرجع إليهم في فتاوى معينة تتعلق بالطلاق، وأحكام الزواج، والوقف والميراث، وما إلى ذلك، وأمّا بقية الأمور تتعلق بمصير الأمة ومستقبلها وعلاجِ مشاكلها، وما يَجِدُّ لها من أمور؛ فإنَّ هذا يُتْرَك لأهل الفكر وزعماء الفكر، الّذين يَدَّعون أنهم أَتَوْا بما لم تأتِ به الأوائل! وأن بِيَدِهم الحلولَ لمشاكل هذه الأمة.
لِذا فإنه لابد من فهم كلمة المنهج أَوَّلاً، وفَهْمِ كلمة السلف، ثم بيانِ هذا المنهج، وبيان أنه المنهجُ الحق ، وبيانِ مقوماته وما يضاده.
فالمنهج خُلاصة مدلوله أنه الطريق والإطار العامّ الذي يُسَارُ عليه، والذي يشمل رَسْمَ الخطوط العريضة والقواعد العامة، والأسس التي ينبغي أن يَسير عليها المرءُ.
وقد ذكر الله تبارك وتعالى لفظةَ المنهج والمنهاج في القرآن الكريم؛ فقال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المائدة: ٤٨]؛ أَيْ: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- جعل لكل أمةٍ شريعةً وأُسُسًا تَسيرُ عليه في عبادتها، وفي أحكامها، وآدابها وأخلاقها؛ وإن كان الأساس العامّ لكل ما جاء به نبيٌ هو توحيد الله -سبحانه وتعالى-.
فالمنهجُ هُوَ القَوَاعِدُ الأَسَاسِيَّةُ وَالأُصُولُ الثَّابِتَةُ الّتِي يَجِبُ أَنْ تَسِيرَ عَلَيْهَا الْأُمَّةُ؛ حتى تُحقِّقَ ما تصبو إليه من مَجْدٍ ورفعةٍ وسؤددٍ.
وهل كلمة السلف قاصرةٌ على أصحاب القرون الثلاثة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((خير الناس قرني ثم الدين يلونهم ثم الذين يلونهم)) [1]؟ أمْ أنَّ ذلك يَعُمُّ كلَّ من تقدم من علماء الأمة وأهل الحلّ والعقد فيها، والذين دعوا إلى السير على المنهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه؟
أظن أنَّ الأمر فيه سَعَة، وأنَّ من قَصَرَ إطلاق كلمة السلف على أصحاب القرون المفضلة، لا يعارِضون إطلاق كلمة السلف على من جاء بعدهم من العلماء الربانين الذين يجددون لهذه الأمة كل ما اندثر من أمر دينها في كل قرن.
وهم السائرون على هذا المنهج القويم، الذي قال الله في أهله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْها} [التوبة: ١٠٠].
وقد وصف الله -تعالى- السلفَ وأتباعَهم ومن سار على نهجهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ في ثلاث آيات في سورة الحشر؛ قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: ٨ – ١٠] .
هذا هو الصراط المستقيم، وهذا هو الطريق القويم، وهذه هي الجماعة التي أَمَرَ الله -تبارك وتعالى- بلُزُومِها؛ فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: ١٠٣]. وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام: ١٥٣]. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: ٧] . وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن يَدَ الله عَلَى الجَماعة)) [2]. وقال بعد أَنْ ذَكَرَ افتراقَ الأمة إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا واحدة قال: ((هِيَ الجماعة)) [3]، وفي رواية: ((هِيَ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ وَأَصْحَابي)) [4]. الرواية الأولى: ((هي الجماعة)) أَصَحّ.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعَضُّو عليها بالنواجذِ)) [5].
فلقد تُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أوضَح السبيل، وأقام الدليل، وأنار السبيل، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترك فينا كتابَ ربنا وسُنَّتَهُ صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو حبل الله المتين، وهذا هو الصراط المستقيم؛ صراطُ {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: ٦٩]. الصراطُ الذي من تمسَّكَ به نجا، ومن سار على هديهِ اهتدى، وَمَنْ طبَّقَهُ قولاً وعملاً واعتقادًا؛ سعد في الدارين، ومن طَلَبَ الهُدَى من غيره؛ أضَلَّه الله، ومن ابتغى سبيلَ الخير من غيره؛ أبعده الله. فهو حبْلُ الله المتين، وصراطُه المستقيم، وطريقُ السالكين ابتغاءَ مرضاةِ رب العالمين.
فيجب علينا أن نَعَضَّ عليه بالنواجذ؛ كما أمرنا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بقوله : ((عَلَيْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاءِ الراشدينَ المهديِّين من بعدي، تَمَسَّكُوا بها، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّوَاجذِ)) [6]. يقول أبو ذَرٍّ -رضي الله عنه-: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما مِنْ طائرٍ يَطِيرُ بـجَناحَيْهِ إلا وَقَدْ تَرَكَ لَنَا فِيهِ عِلْمًا"– أوْ كما قال رَضِي الله عنه- كَمَا رَوَاهُ الإمام البُخَارِيّ وغيرُه في صحيحه.
فإذا عَلِمْنَا سلامةَ هذَا المنهج، وأَنه أسْلَمُ وأعلَمُ وأحْكَمُ- لأَنّه من عند الله؛ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢]-، إذَا عَلِمْنا ذلك؛ فإنه ينبغي لنا أَنْ ندعُوَ بدُعاء النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ أجْل أن يُثَبِّتَنَا الله -عزّ وجل- على هذا المنهج في قوله: ((اللَّهُمَّ ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالِمَ الغيب والشهادة، أنت تَحكُم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اِهْدِنَا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) [7]. ودعائِه عليه الصلاة والسلام في سُجوده: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ» [8].
وَالبَيْتُ لاَ يُبْتَنَى إِلاّ لَهُ عُمُدٌ وَلا عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَـادُ
فَالأَسَاسُ الأَوَّلُ: هُوَ الْعِلْمُ وَالتَّعَلُّمُ وَالتَّفَقُّهُ فِي دِينِ اللهِ؛لِذا نَرى الإمامَ البخاريَّ -رحمه الله تعالى- يَعْقِدُ باباً في هذا المعنى بعُنْوان: "العلم قبل القول والعمل"، ثم يُصَدِّرُه بقول الله -عَزَّ وَجَلّ-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: ١٩].
فأساسُ هذا المنهجِ هو العِلم والتعلُّم والتَّفَقُّه في دين الله؛ قال الله -تعالى-: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَل } [الزمر: ٩]، وقاالله -تعالى-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١]
وقال –تعالى؛ مُبَيِّنًا منزلةَ أهل العلم وأنهم أَشَدُّ الناسِ خشيةً لله-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨]، وقال -تعالى-: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: ١٨]، وقال -تعالى-: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: ١٢٢] .
وقال رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُرِدِ الله بهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)) [9].
فالفِقهُ في الدين هو أساس كل خيرٍ، وهو أساس صلاح العمل. وعمل لا يبنى على علم؛ فإنه عرضة أن يكون عملاً غير متقبل؛ لأن صحاحبة يتخبط في دياجير الظُّلَمْ؛ يَفعلُ القبيحَ يَظُنُّهُ حسنًا، ويترك الحَسَنَ يظنه قبيحًا:
يُقْضَى عَلَى الـْمَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ حَتَّى يَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ
وقد كان السلفُ الصالحُ لا يُقْدِمون على عَمَلٍ حتى يَعْرِفُوا أَنًّ هذا العملَ مشروعٌ، بأَنْ يَدُلَّ عليه دليلٌ من الكتاب أو السنة. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بالتَّحَلُّمِ)) [10].
فهذا هو الأساس الأول؛ العلم: أعني العلمَ الشرعيَّ المستمَدَّ من كتاب الله -تعالى-، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا:أن يكون مصدرُ هذا العلمِ: الْمَنْهَلانِ العظيمانِ: كتابُ الله -تعالى- وسُنَّةُ رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؛ هما المرجع عند الاختلاف، والْمَلجأُ عند التَّرَدُّدِ، والموئِلُ عند ظهورِ الفِتَنِ؛ قال الله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: ٥٩] .
وقال -تعالى-: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}[الشورى: ١٠].
وقال -تعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: ٧]، فالعِلم- الذي هو إِدْرَاكُ المعلوم على حقيقتِهِ التي هو عليها- لا يتحقق إلا إذا أُخِذ من هَذَيْن المصدرَيْن: الكتاب والسنة.
ثالِثـًا: أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّعَلُّمُ عَلَى مَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ،وذلك بأنْ نأخَذَ العلم وِفْقَ مفاهيمِ السلفِ، الذين خدموا هذا الدِّين، وقدَّموا لنا هذه الكنوزَ العظيمة: من قواعِدَ وَمُتُونٍ وشروحٍ وحواشي، بذلوا فيها أوقاتهم الثمينة، وقدموها لنا طَريَّةً عظيمةً.
فينبغي أن نَسِيرَ على نهْجِهِم، وأن لا ندعِيَ لأنفسنا الاستقلالَ عن مفاهيمهم؛ لأنهُم هُمُ الَّذين نقلوا إلينا هذا الوحي، وَهُمُ الَّذين استنبطوا منه الأحكام، وهُم الذين أفنَوا أعمارهم في خدمته، وهم الذين قدموه إلينا جاهزًا؛ فما علينا إلا أن نَنْهَلَ مِنه {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: ٩٠].
وَيُخْطِئُ من يَظُنُّ أَنَّه يستطيع أن يفهم الدِّين فَهْمًا صحيحًا إذَا لم يرجعْ إلى قواعد السلف ومنهجهم في العلم والعمل؛ لأنه مَنْ فَعَلَ ذلك أو من فعل خلاف ذلك؛ فَقَدِ اتَّبَعَ غَيْرَ سبيلِ المؤمنين، وحَادَ عن الطريق السويّ، واتبع السُّبُل التي حذرنا الله -تبارك وتعالى- مِنِ اتِّباعها. فلابد مِنْ أَخْذِ هذا الأمر على مفاهيم السلف الصالح.
وهذا ينقلنا إلى الأساس الرابع: وَهُوَ التَّلَقِّي وَالتَّعَلُّمُ عَلَى أَيْدِي العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيَّينَ الْمُتَخَصِّصِينَ الَّذِينَ سَارُوا عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ، والذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)) [11]. لأن هذه الأمورَ الثلاثَةَ هِيَ مداخلُ الشيطان؛ مَدَاخِلُ الشيطان إما عن طريق الغُلُوِّ، وإِمَّا عَنْ طريق الْجَهْلِ، وإما عن طريق الْهَوَى.
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ)): بيانٌ لخطورة الغلو على الدين.
وقوله: ((وانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ)): بيانٌ لِخُطُورَة الهوَى؛ الذين ليس لهم إلا ما أُشربوا من أهوائهم.
وقوله: ((وتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)): يَدُلّ على خطورة الجهل، وأنه قد يصل بصاحبه إلى مَهَاوِي الرَّدَى، ويُضِلُّه عن طريق الهُدى. ولذلك تَقَدَّمَ لنا ذِكْرُ الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: ((إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم)).
وَمَنْ زعم أنه يستطيع أن يفهم الكتاب والسنة بدون التلقي عن العلماء والدراسةِ عليهِم؛ فإنه على خَطَرٍ عظيم.
ومِمَّا يَنْدَى له الجبين، ومما يُؤسَفُ له، أننا نرى بعضَ أُناسٍ قَرَأُوا لهم، وقرأوا بعض الكتب، وقرأوا بعضَ الأحاديث؛ دون أن يتتلمذوا على العلماء، فنَصبُوا أنفسهم للفتوى، وزعموا أنهم ليسوا بحاجةٍ إلى التَّلَقِّي على هؤلاء العلماء، وَمَنْ كَانَ عِلْمُهُ مِنْ كِتَابهِ فَخَطَؤُهُ أَكْثَرُ مِنْ صَوَابهِ. ولذلك نجد عندهم جُرْأَة خطيرة على الفتوى، وعلى مخالفة أهل العلم، والجُرأة على دين الله، حيث يُفتون بغير عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ ويُضِلُّون. وهؤلاء قد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم خصوصًا عند قِلّة العلماء، أو عند بُعْدِ الناس عن العلماء عندما قال: ((إِنَّ الله لا يَنْتَزِعُ العِلمَ انتزاعًا وإنما يقبضُه بقَبْضِ العلماء، فإذا لم يبق عَالِم اتخذَ الناس رؤوسًا جُهَّالا فسُئِلوا فأَفْتَوْا بغير علمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)) [12].
وهذا ما نشاهده في كثير من المجتمعات، حيث ساد الجُّهال، وأدعياء العلم، وتجرءوا على التَّحَكُّم في مصير الأمة والفتوى بغير علم، حتى في تلك القضايا الْمَصِيرية التي لا يمكنُ أن يفقهوها، وإنما يَفْقَهُهَا أهلُ العلم؛ العلماءُ الربانيون الذين يقولون بالحق وبه يعدلون.
أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إِلاّ بسِتّــَةٍ سَأُنْبيكَ عَنْ تَفْصِيلِيهَا ببَيَانِ
ذَكَاءٌ وَحِرْصٌ وَاصْطِبَارٌ وَبُلْغَةٌ وَصُحْبَةُ أُسْتَاذٍ وَطُولُ زَمَانِ
العلم لا يأتي إلا بالتلقي.
سُئِلَ أَحَدُهُم –أعني: أحد الذين تَصَدَّروا العلم وليسوا من أهله-: هل تَتَلْمذْتَ على الشيخ فلان والشيخ فلان والشيخ فلان، وعَدَّدْنا بعض مشايخنا الكبار؛ وَأَوَّلُهُم شيخُنا الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز؛ قيل هل تَلَقَّيْتَ هذا العلم -عندما يعني كَثُرتْ بعض كتبه وأخطائه التي يعني ينشرها هنا وهناك- سُئِل: هل تتلمذت على الشيخ عبد العزيز؟ قال: لا.
هل تتلمذْتَ على الشيخ محمد بن صالح العُثَيمين؟ قال: لا.
هل تتلمذت على فلان وفلان؟ ( وعُدِّدَ له بعضُ المشايخ ) فأجاب بلا.
وقيل له لماذا ؟ فقال: لا أريد أن أُضيع وقتي! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: ٥]، {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر: ٣٥] .
ما أَجْرَأَهُمْ على الله! إنهم سفهاءُ الأحلام، صِغَارُ العقولِ، نَفَخَ فيهم الشيطان أنهم علماءُ، فتركوا العلماءَ وتصدَّروا، وصار كل واحد منهم يُفتي نفسه ويفتي أتباعه! وهذا دَاءٌ قد دَبَّ في العالم الإسلامي منذ ما يربو على سِتِّينَ أو سبعينَ سنةً، وأخذ لَظَاه ولَهَبُه يصل إلينا عندما ضَعُفَتْ صلة الشباب بعلماء الأمة، وعندما اهتم بعضهم بتقديس البعض، وعندما جعلوا الصحفَ والمجلاتِ والدورياتِ هي مصادر العلم عند الكثير منهم.
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: ٨٣] .
إنَّ هذا -أعني أخْذَ العلم عن مصادره الصحيحة عن العلماء الربانيين- هو طريقُ السلامة والنجاة، وطريقُ الوصول إلى مرضاة الله، وطريق فَهْمِ الكتاب والسنة.
الأساس الخامس: من هذه الأُسُسِ من أُسُسِ منهج السّلَف الذي هو أَسْلَمُ وأَعْلَمُ وأحكم: التَّوَاضُعُ؛وأعني: بالتواضعَ؛ لِينِ الجانب للعلم والتعلُّم وللعلماءِ، فإنه من تواضع لله رَفَعَه، وإنَّ الشيطان لَيَنْفُخُ في رأس البعض أنه قد بلغ درجةً لم يَبلغها أحد، فإذا وَصَل إلى هذه الحال؛ فَلْيَعْلَمْ أنه أَجْهَلُ الناس؛ فلا يزال الرجل عالمًا مادام يطلب العلم، فإذا ظنَّ أنه قد علِم؛ فقد جهِل.
1- إما أن الحديث لم يَبْلُغْهم، وهذا لا يَعِيبُهُم، فَقَدْ خَفِيَتْ بعض الأحاديث على كبار الصحابة.
2- وإماأن يبلُغَهُم ولكنهم لم يَرَوْا أَنه بلغ درجةَ الصحة الثابتة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- وإماأنه بلغهم ولكن فهِمُوه فَهْمًا آخَرَ إِما أنه منسوخ، أو أنه مُخَصَّصٌ، أو مُقَيَّد، أو نحوُ ذلك مِنَ الأعذار. فراجعوا هذا الأمر مُفَصَّلا في كتاب رفع الملام عن أئمة الأعلام.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: ٣٦].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال: ٢٤].
فلا نأخذُ جانبًا على حسابِ تضييعِ جانبٍ آخَرَ؛لأننا نعاني من طرائقَ معاصرةٍ تَهْتَمُّ بجوانِبَ من الدِّينِ، يظُنون أنهم بمنظورهم الضيق أنه يكفي للتطبيق، ويُضيعون ما سواه؛
كالَّذِينَ يُدندنون حول السياسة والسياسيين والأخبار والإخباريين، ويُضيعون أوقاتهم في هذا السبيل.
وطائفةٌ أخرى تهتم بجانب ما يتصورون أنه الزهدُ والعبادةُ، بينما هو تَصَوُّفٌ مَحْضٌ دَخِيلٌ علينا وعلى بلادنا، يتمثل ذلك في الخروج والسِّياحة في الأرض، وهذا هو كل شيء عندهم!
وطائفةٌأخرى تتنازل عن بعض مبادئ الإسلام، من أجل إرضاء اليهود والنصارى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: ١٢].
وطائفةٌ أخرى عندهم الغايةُ تُبَرِّرُ الوسيلة، فإذا كانت الغايةُ صحيحةً فلا يَهُمُّهُم أن يرتقوا إليها بأَيَّةِ وسيلةٍ ولو كانت مُحَرَّمَةً! فيسلكون في سبيل الدعوة -مثلاً- مسالِكَ مستوردةً؛ كاستخدام المسرحيات والتمثيليات والأناشيد، واستخدامِ بعض الطُّرُق التجميعية التي يَهُمُّها أن تَجْمَعَ من هَبَّ ودَبَّ مَهْمَا كانت عقائدُ أولئك المجتمِعين، تحت ستارِ: (نَجْتَمع فيما نجتمع عليه، ويَعذُر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).
وَكُلُّ هذه الطوائف يجب أن نبتعدَ عنها، وأن نَبْرَأَ منها، وأن نسير على منهج الحق؛ بأَخْذِ الدّين كله من مصادره في العقيدة، في العبادة، في الأحكام، في الأخلاق، في الآداب، في الحدود، في كافة نواحي الحياة. مع مراعاة مُقتضَياتِ الأحوال، وملاحظةِ أنَّ لِكلِّ مقامٍ ما يناسبه، خصوصًا من يهتمون بأمر الدعوة والدعاة؛ فإنهم ينبغي أن يعرِفوا الداء فيُشخصوا الدواء. فقد يقتضي المقامُ الكلامَ على العقيدة، قد يقتضي الكلامَ عن الزهد والورع والعبادة، قد يقتضي المقامُ الكلامَ على الْخُلُق، قد يقتضي المقامُ الكلامَ عن مكافحة المعاصي والمنكرات بالطرق الشرعية المعروفة.
فالإسلام دين واحد ومنهج واحد لا يُجَزَّأُ؛ {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: ٥٢].
وهذا لا يمكن علاجه إلا بالبدء بما بدأَ الله به، فإنَّ كلَّ خَلَل في هذه الأمور راجعٌ إلى الخلل في التوحيد، وفي العبودية لله، وفي التدين الصحيح والعقيدة الصحيحة. فلو صَحَّ التوحيد؛ لَصَحَّت هذه الأمور كلها، وبِقَدْر ما ينقص من التوحيد بقدر ما يَضِلُّ الناس عن منهج الحق؛ لذلك فإنه لابد من البدء بالتوحيد.
فَتَوْحِيدُ الله -عزَّ وجلَّ- هو الرُّكن الرَّكِين الذي اتَّفقت عليه دعوة الرُّسل مِن لَدُن نُوحٍ -عليه السلام- إلى خاتَمِهم وأفضلِهم نبيِّنا محمدٍ رسول الله، كلٌّ منهم يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: ٥٩].
وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل: ٣٦] {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}[الشورى: ١٣]؛ فلابُد من العناية بهذا الأمر أَيَّما عناية.
لَمَّا بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعاذًا إلى اليمن قال له: « إنك تأتي قَوْمًا من أهل الكتاب؛ فَلْيَكُن أَوَّلَ مَا تَدْعوهم إليه شهادةُ أَن لا إله إلا الله، فإنْ هُمْ أطاعوك لِذلك، فَأَخْبرْهم أنَّ الله افترض عليهم خَمْسَ صلواتٍ في كل يوم وليلة، فإِنْ هُمْ أَجَابوك لِذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدَقةً تُؤخذُ من أغنيائهم وتُرَدُّ على فقرائهم … » [13]. فلا بُدَّ من البَدْءِ بما بدأَ الله به، ولابد من التأسيس على هذا الركنِ الركين والحصنِ العظيم، ألا وهو تحقيقُ توحيد الله وتخليصُه من شوائب الشرك والبدع التي علِقتْ به.
فَالإخلاص وصِدْق النية مع الاقتداءِ والمتابعةِ؛ هُمَا شرطَا قَبُولِ أيِّ عملٍ نَتَقَرَّبُ به إلى الله -سبحانه وتعالى-.
ولذلك يقول النبي: ((إِنَّمَا الأعمالُ بالنِّياتِ وإنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)) [14]، فقد صَدَّر كثيرٌ من أهل العلم -لاسيما علم الحديث- كُتُبَهُم بهذا الحديث العظيم، الذي هو أَحَدُ الأحاديث الأربعةِ التي ذَكَرَ أهلُ العلم أنَّ عليها مدارَ الإسلام كلِّه وهي:
1- حديثُ: ((إنما الأعمال بالنيات)).
2- وحديثُ: ((الدِّينُ النصيحةُ, الدِّينُ النصيحةُ، الدِّينُ النصيحةُ؛ قُلْنَا: لِمَنْ يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابهِ ولِرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتِهِم)) [15].
3- وحديث: ((إنَّ الحلالَ بَيِّنٌ وإِنَّ الحرامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبهَات..)) [16].
والبعض يجعل معها أيضًا:
4- حديث: ((مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)) [17].
فإنَّ هذه الأحاديثَ هي جِمَاع الأمر كلِّه.
ومن الأُسُس أيضًا: الحادِيَ عَشَرَ: الْحِرْصُ عَلَى هِدَايَةِ النَّاسِ ومَحَبَّةِ الْخَيْرِ لَهُمْ،انطلاقًا من الأُخُوّة الإيمانية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: ١٠]، وانطلاقًا مِنْ أنْ يُحِبَّ المرءُ لأخيه المسلم ما يُحِبُّهُ لِنَفسه. ولذلك لا يجوز أن يكون هَمُّ الشخصِ هُو التَّشَفِّي من الناس. فلْيُطَهِّرْ قَلْبَه من الغِلِّ والحِقْد، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: ١٠].
والحقُّ ضالَّة المؤمن أنَّى وَجَدَه اتبعه، وهذا يتطلبُ منه إن يتجرد من التعصب، سواء التعصبُ للأشخاص، أو التعصب للعِرْق أو القومِ أو القَوْمية، أو التعصبُ الطائفي الصُّوفي، حتى التعصّب الفقهي المذهبي؛ فالحقُّ واحد لا يتعدد.
وتقديسُ الأشخاص أَمْرٌ معروف عند الْمُبتدِعة؛ لأن العلم عندهم لا يعرفونه بأخذه من مَظَانِّه ومن أهله، وإنما العلمُ عندهم ما يقوله زعماؤُهم وحتى وإنْ خالَفَ الحق. ولِذا تجده يأخذُ قولَ زيدٍ وعَمْرٍو مُسَلَّمًا، ولو خالَفَ هَدْيَ الكتاب والسنة صراحةًَ!
نعم، يجب أن نعظم العلماء، وأنْ نوقرَهم، وأن نعطيَهم حقوقهم، وأن نعرِفَ لهم فضلهم، وأن ندعوَ لهم، وأن نترحم عليهم، وأن نجتهدَ في التلقي عنهم -كما بَيَّنَّا-. ولكنْ لا نغلو في أحد؛لأننا ابتُلِينا منذ انحراف الناس عن منهج الحق في القرون الأولى، عندما ظهرت الفرق والجماعات المتعددة، منذ أن تَأَلَّب الخوارج على عثمانَ -رضي الله عنه- وإلى يومِنا هذا؛ ابتُلينا بأقوام في كل عصر وفي كل مِصْرٍ، لا يَعْدُو الدِّينُ عندهم تقديسَ الأشخاص. فالقول عندهم ما يقوله زعماؤهم، ولو كان مُخالِفًا لِلدِّين جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً.
ولذلك نَجدُ الكثيرَ منهم لو بَيَّنْتَ له خَطَأَ مؤلِّفٍ في كتابٍ وَزَلَّتَهُ -التي ربما كانت بدعةً منكرةً أو إلحادًا، وربما كانت طريقًا إلى الكفر- لو بَيَّنْتَ له هذا الخطأَ؛ تقومُ قِيَامته، لكن لو قلتَ الصحابيُّ فلان أخطأ، والعالِم الفلاني من علماء الأمة أخطأ في هذه المسألة والصواب كذا، تَجدُه؛ بل لو نِيلَ من الصحابة، أَوْ لَوْ غَمَزَ زعيمُه الذي يتعصب له صحابيًّا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّه لا يحرك ساكنًا؛ بل الأمر عنده هَيِّن، إنما لو قلتَ: الكاتبُ الفلاني أخطا في كتابه كذا؛ فقد تَقُومُ عليك القيامة! وتجدهم يرمونك عن قوس واحدة!
حتى لو قلتَ إن هذا الفُلاني يقول عن الصحابي فُلانٍ كَذَا ..
فلانٌ يقول عن عثمانَ كذا ..
فلانٌ يقول عن معاويةَ -رضي الله عنه- كذا ..
فُلانٌ يقول عن عُمَرَ بْنِ الخطاب كَذَا ..
فُلانٌ يقول عن الصحابي الفُلاني كذا وكذا …
أنت عندما تَذْكُرُ هذا القول معترضًا، تصبحُ أنت مَحَلَّ الاعتراض، وتصبح مَحَلَّ النَّقْد، ورُبّما أُوذيت من أجل هذا الأمر.
فالحقُّ قاعدةُ السلف: "أَنَّ الحق لا يُعْرَفُ بالرِّجَالِ وَإِنّما الرجالُ هم الذين يُعرَفون بالحق" بمعنى أن نبتعد عن الغلو في الأشخاص؛ لأن الغلوَّ هو أَوَّلُ مَعَاوِل هَدْمِ الدِّين، منذُ قوم نوح إلى يومنا هذا. فالغلوُّ في غايةٍ مِنَ الْخُطُورَة.
وقال -تعالى-: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}[ص: ٢٦]
وقال – تعالى-: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } [الجاثية: ٢٣]. والآيات كثيرة …
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل البدَع أنهم ليس لهم إلا ما أُشرِبُوا مِنْ أَهْوَائهم، وأنهم تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه. والكَلَبُ داءٌ يُصيب الكِلاب والسِّباع؛ فإذا عَضَّت الإنسانَ صار مِثْلَهَا ومات بذلك الداء.
الهوى خطيرٌ، الهوى؛ يعني: اتِّبَاعَ شهوات النفس، هذا في غايةٍ من الخطورة؛ لأن صاحِبَه إذا جَرَتْ تِلْكَ الأهواءُ في عُرُوقهِ؛ فإنه نَدَرَ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْه.
وفي الختام فإنَّ طريقَتطبيقِ هذا المنهج يتمثل في اتِّبَاعِ هذه الأسس وغيرِها مِنْ قواعد السلف، ويتطلب من المسلم الجدَّ والاجتهادَ فيما يُقَرِّبُه إلى الله -سبحانه وتعالى- بفِعْلِ أوامره واجتناب نواهيه؛ حتى يكون وَلِيًّا لله -سبحانه وتعالى-.
وقد وصف الله -تبارك وتعالى- أولياءَهُ بأنهم لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون. قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: ٦٢– ٦4].
قال عليه الصلاة والسلام: قال الله –تعالى-: ((وما تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أَحَبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدي يتقرب إلَيَّ بالنوافلِ حتى أُحِبَّه، فإذا أحبَبْتُهُ كُنْتُ سمعَهُ الَّذي يسمَعُ به، وَبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلأِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ)) [18].
وَيَقُول عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ الله فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوها، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوهَا، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان؛ فلا تسألوا عنها)) [19].
[1] رواه البخاري ومسلم .
[2] رواه النسائي ، وصححه الألباني بشواهده .
[3] رواه أبو داود والدارمي وأحمد .
[4] رواه الترمذي بلفظ : « قال ما أنا عليه وأصحابي » وحسنه الألباني .
[5] رواه أحمد والترمذي وابن ماجه ، وصححه الألباني .
[6] تقدم .
[7] رواه مسلم .
[8] رواه الترمذي ، وصححه الأالباني .
[9] رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
[10] حسَّن إسنادَه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة .
[11] رواه البيهقي ، وصححه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح .
[12] رواه ابن حبان ، وصححه الألباني في التعليقات الحسان .
[13] رواه البخاري ومسلم .
[14] رواه البخاري .
[15] رواه مسلم .
[16] رواه البخاري ومسلم .
[17] رواه البخاري ومسلم .
[18] رواه البخاري .
بارك الله فيك واصلي
تكون لي معكم مشاركة.