س: في كثير من البلدان الاشتراكية- وهي دول إسلامية- تتبع في المحافل المقامة لديها ما يسمى وضع الإكليل من الزهور على الشهداء، أو على قبر الجندي المجهول. فما موقف الإسلام من هذا العمل؟ وهل هناك ما يدل على تحريمها أو تحليلها؟ أم أنها منقولة من الغرب ليس إلا؟
كذلك تتبع كثير من الدول- وهي دول إسلامية- والتي نشأت وتنشأ فيها ثورات ضد الاستعمار، ممارسة عادة مألوفة في افتتاح أو اختتام احتفالاتها الوطنية طلب الوقوف على الأقدام من الحضور لما يسمى دقيقة صمت، ترحما على أرواح الشهداء، فما موقف الإسلام من ذلك تحليلا وتحريما؟ أو هل هناك ما يشير من الكتاب أو السنة على ذلك؟ وهل هذا يتعارض مع قراءة سورة الفاتحة على الميت؟ أو يكون ذلك بديلا عنها؟ أو هي الأخرى بدعة في الإسلام؟
ج:
أولا: وضع الزهور على قبور الشهداء أو قبور غيرهم أو عمل قبر الجندي المعلوم أو المجهول- من البدع التي أحدثها بعض المسلمين في الدول التي اشتدت صلتها بالدول الكافرة، استحسانا لما لدى الكفار من صنيعهم مع موتاهم، وهذا ممنوع شرعا لما فيه من التشبه بالكفار، وأتباعهم فيما ابتدعوه لأنفسهم في تعظيم موتاهم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم» (*) رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني في الكبير وبقوله عليه الصلاة والسلام: «لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه» (*) رواه الحاكم وقال على شرط مسلم وأقره الذهبي ورواه أيضا البزار، قال الهيثمي رجاله ثقات. وقد كان من الصحابة والتابعين وسائر السلف رضي الله عنهم شهداء وجنود لهم وجاهتهم، وآخرون مغمورون، ولم يعرف لديهم وضع شيء من الزهور عليها، فكان وضعها على القبور بدعة محدثة، والخير كل الخير في أتباع سلف هذه الأمة، والشر في ابتداع من خلف.
ثانيا: إقامة احتفال للشهداء ووقوف من حضروا الاحتفال على أقدامهم مدة دقيقة صمت ترحما على أرواح الشهداء بدعة منكرة، لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون، ولا سائر الصحابة رضي الله عنهم، ولا أئمة المسلمين في القرون الأولى، التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون، رحمهم الله تعالى، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (*)، وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (*)، والخير كل الخير في اتباعه صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، والسير على منهجهم القويم، وعدم اتباع ما عليه الكفار مما يخالف هدي الإسلام.
ثالثا: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة الفاتحة أو غيرها من القرآن على أرواح الشهداء، أو غيرهم من الأموات، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم، وقد كان كثيرا ما يزور القبور، ولم يثبت أنه قرأ على من فيها قرآنا، إنما كان يستغفر للمؤمنين، ويدعو لهم بالرحمة ويعتبر بأحوال الأموات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس: عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
نائب رئيس اللجنة: عبدالرزاق عفيفي
عضو: عبدالله بن غديان
عضو: عبدالله بن قعود
هذا الحديث من الأحاديث الخمسة التي عليها مدار الإسلام
ولا تزال البدع يزينها الشيطان لأهلها حتى يخرجهم من الإسلام والعياذ بالله
ورحم الله المشا يخ ابن باز وعبد الرزاق وابن غديان وابن قعود رحمهم الله جميعا
والشيخ عبد الرزاق كان آية من آيات الله تعالى لا يمارى ولا يدانى كانت السماحة تعلوه وتكسو وجهه رحمه الله رحمة واسعة
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة مختصرة عن الشيخ عبد الرزاق عفيفي بن عطية النوبي
اسمه ونسبه :
هو العالم الجليل والسلفي النبيل عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية بن عبد البر بن شرف الدين النوبي ولد في الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري وعلى وجه التحديد في السابع والعشرين من شهر رجب سنة 1323 هـ الموافق 16 ديسمبر سنة 1905 م ، في قرية شنشور مركز أشمون التابع لمحافظة المنوفية وهي إحدى محافظات مصر .
نشأته وبيئته :
نشأ الشيخ عبد الرزاق في بيئة معطرة بأنفاس القرآن الكريم وسط أسرة محافظة وفي مجتمع ريفي بعيد عن فتن الحواضر ومفاسدها .
ففي قرية شنشور ، تلك القرية الهادئة المتواضعة التي تترابط أسرها وتمتزج في كيان واحد وتتنسم عبير الإخاء والود : في هذه القرية نشأ الفتى عبد الرزاق عفيفي ، نشأة صالحة ، تغمرها العاطفة الدينية الجياشة وتوثق عراها سلامة الفطرة وحسن الخلق والبعد عن الخرافات والخزعبلات وكان لهذه النشأة الطيبة أثرها البالغ في حياة المترجم له حيث بدأ حياته العلمية بحفظه لكتاب الله تعالى حفظاً متقناً مع تجويده على يد عدد من مشايخه آنذاك ومنهم الشيخ محمد بن حسن عافية والشيخ محمد بن عبود عافية هذا فضلاً عن والده الذي قام على تربيته وتنشئته أحسن ما ينشأ الفتيان الذين في مثل سنه ، قال الشاعر :
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
وما كان الفتى نجماً ولكن يعوده التدين أقربوه
أصوله وفروعه :
ينتمي الشيخ عبد الرازق عفيفي إلى أسرة كريمة ، طيبة الأخلاق محمودة السيرة حسنة السمعة متمسكة بالأخلاق الإسلامية وأخلاق أهل القرية والريف التي لم تتلون بمظاهر الحضارة الكاذبة .
فوالده هو الشيخ عفيفي بن عطية النوبي ، من مشاهير قرية شنشور وصالحيها ، كان حافظاً لكتاب الله تعالى ، وكان الشيخ عبد الرازق كثيراً ما يتحدث عن والده للخاصة من طلابه وقد ذكر لي فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام – حفظه الله – أنه رأى والد الشيخ عبد الرازق عند أول قدوم له إلى المملكة سنة (1368هـ) وهي نفس السنة التي قدم فيها الشيخ عبد الرازق إلى أرض الحرمين الشريفين وكان والد الشيخ عبد الرازق يرتدي العمامة البيضاء المستديرة فوق رأسه وهي لباس أهل مصر آنذاك .
فروع الشيخ عبد الرزاق عفيفي :
إن من أعظم النعم وأكبر المنن أن يوفق الإنسان بعد تقوى الله عز وجل إلى زوجة صالحة تعينه على أمر دينه ودنياه ، تطيعه إذا أمر وتسره إذا نظر ، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله ، تتقن عملها وتعتني بنفسها وبيتها وزوجها ، فهي زوجة صالحة ، وأم شفيقة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ولا أدل على ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم : " المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها " وقوله صلى الله عليه وسلم وقوله عليه الصلاة والسلام : " الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة" وقوله صلى الله عليه وسلم :" من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة ، والمسكن الصالح والمركب الصالح "
ولقد كان من نعم الله وحسن بلائه على فضيلة الشيخ عبد الرزاق أن وفقه لزوجة صالحة وسيدة فاضلة من أسرة كريمة وعائلة فاضلة هي عائلة (سالم ) بالإسكندرية ، وأصلها من إسنا بصعيد مصر وقد رزقه الله منها عدداً من البنبن والبنات .
أما الأبناء فهم :
1- المهندس الزراعي أحمد عاصم بن عبد الرزاق عفيفي ولد سنة 1364هـ – 1944م ، وتوفى في حرب العاشر من رمضان سنة 1393هـ – 1973م بمصر
2- الأستاذ محمد نبيل بن عبد الرزاق عفيفي – حفظه الله – ويعمل مراقباً مالياً بالخطوط السعودية بجدة ، وهو من أبر أبناء الشيخ وأرعاهم لحقوقه في حياته وبعد وفاته جزاه الله خيرا وهو من مواليد سنة 1366هـ – 1946 م
3- الأستاذ محمود بن عبد الرزاق عفيفي – حفظه الله – عمل مدرساً بالرياض ثم ترك التدريس وتفرغ لخدمة والده في السنوات الأخيرة من حياته – رحمه الله – فجزاه الله خيراً وجعل أعماله الصالحة في موازين حسناته ، وهو من مواليد سنة 1369 هـ – 1949م .
4- الأستاذ عبد الله بن عبد الرزاق عفيفي توفى في حياة والده سنة 1412هـ – 1992م – رحمة الله
5- الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الرزاق عفيفي توفى في حياة والده اثر حادث وقع عليه سنة1408-1988 وكان من طلبه العلم المبرزين ومن اكثر أبناء الشيخ اتصافا به وكان يعمل بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالرياض – رحمه الله .
واما البنات فثلاث وقد أكرمها الله بأصهار صالحين بررة ولا نزكي علي الله أحدا نحسبهم كذلك وكان الشيخ عبد الرزاق – يرحمن الله –يهتم بتربية أولاده بل وحتى أحفاده وينشئهم تنشئة صالحة – فكانوا مثالا في الاستقامة والبر ورعاية واداء الأمانات .
أوصافة الخلقية :
كان رحمه الله قوي البنية جسيما مهيبا طويل القامة عظيم الهامة مستدير الوجه قمحي اللون له عينان سوداوان يعلوهما حاجبان غزيران ومن دون ذلك فم واسع ولحية كثة غلب البياض فيها علي السواد وكان عريض الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكفين والقدمين ينم مظهره عن القوة في غير شدة .
هيئته ولباسه :
كان الشيخ عبد الرزاق – رحمه الله – حسن الهيئة ، جميل المظهر في غير تكلف ، له سمت خاص في لباسه ، يرتدي ثوبا فضفاضا أشبه ما يكون بلباس أهل مصر ، إلا أنه محاك على السنة . وكان يعجبه اللباس الخشن من الثياب في غالب الأوقات وهو سلفى المظهر والشارة .
ومجمل القول : أن الشيخ – رحمه الله – كان رجلا متميزا في هيئته ولباسه يرتدي ما يراه متفقا مع مكانة العلم والعلماء وظل متمسكا بهذه الهيئة المتميزة من اللباس إلى آخر حياته المليئة بالجد والكفاح والمثابرة .
هيبته :
كان الشيخ – رحمه الله – رجلا مهيبا ، من رآه بديهة هابه ، فيه عزة العلماء ، لا يتزلف إلى أصحاب المناصب زائرا أو مزورا ، يقول أحد تلاميذه : إن الشيخ كان يفرض احترامه على طلابه وكان الطلاب يهابون حياء ويقدرونه في أنفسهم وما سمعت منه كلمة مؤذية قط .
لقد كان الشيخ مهيبا حقا ومع هذه الهيبة كان آية في التواضع وحسن المعاشرة وعلو الهمة ، بعيدا عن الصلف والتكلف المذموم ،
فصاحته :
اللغة العربية لغة جميلة فهي لغة القرآن والسنة ، أسلوبا ومنهجا ومقصدا ومغزى فهي الطريق إلى فهمها والعمدة في إدراك أسرارهما فهي بحق من مستلزمات الإسلام وضروراته .
والشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – يعد وبجدارة من أرباب الفصاحة وأساطين اللغة في علم النحو الخاصة وعلوم العربية كافة .
كان آية في التحدث بلغة الضاد ( اللغة العربية الفصحة ) كتابة ومحادثة وكان هذا بيان مشرق متدفق وأداء جميل ونبرات مؤثرة في غير تكلف وكان إذا تكلم أسمع وعقل عنه .
وكانت إحاطته بمفردات اللغة العربية تكاد تكون شاملة وهو إلى جانب ذلك سهل العبارة ، عذب الأسلوب ، تتسم عباراته بالإيجاز والإحكام والبيان والجزالة وكان بعيدا عن التكلف والتمتمة والفأفأة والتنطع والتشدق .
وإني أتمنى أن يعتني طلبة العلم وحملة الشريعة ورواد المعرفة بهذه اللغة العظيمة ، اللغة العربية ، لغة القرآن الكريم .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : : تعلموا العربية فإنها من دينكم " وعن عمرو بن زيد قال : " تفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي " . وقال عبد الحميد بن يحي : " سمعت شعبة يقول : تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل " .
وقال عبد الملك بن مروان : " اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه " . وأوصى بعض العرب بنيه فقال : " يا بني أصلحوا ألسنتكم فإن الرجل تنوبه النائبة فيحتال فيها فيستعير من أخيه دابته ومن صديقه ثوبه ولا يجد من يعيره لسانه " .
وقال ابن تيمية – رحمه الله – : " الدين فيه فقه أقوال وأعمال . ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله " .
فراسته :
قال ابن القيم – رحمه الله – : الفراسة الإيمانية سببها نور يقذفه الله في قلب عبده ، يفرق به بين الحق والباطل والحال والعاطل والصادق والكاذب وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيء : " أظنه كذا إلا كان كما قال " ويكفي في فراسته موافقته ربه في مواضع عدة .
وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة وأصل هذا النوع من الفراسة من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير فلا تكاد فراسته تخطيء . قال تعالى : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ) .
قال بعض السلف : من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بالمراقبة وظاهره باتباع السنة لم تخطيء فراسته .
قال الماوردي – رحمه الله – : ينبغي أن يكون للعالم فراسة يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه ، ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم .
والشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – ولا أزكى على الله أحدا كان صاحب بصيرة نافذة وفراسة حادة يعرف ذلك عنه من خالطه وأخذ العلم على يديه ومما يدلل ويؤكد على فراسة الشيخ أنه كان يتأمل وجوه تلاميذه ويتفرس فيهم فيعرف المجد من الخامل والنابه من الجاهل فيخص هؤلاء بعلم قد لا يخص به أولئك . وثم دليل آخر على فراسة الشيخ أنه كان – رحمه الله – يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات ويتأمل وجوه أصحابها فيكشف ما وراءها من الدوافع ببصيرته الفذة وقلما ينطلي عليه مكر أو احتيال . ومما يدل كذلك على صدق فراسة الشيخ ومعرفته بالرجال ما ذكره فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد عبد المنعم قائلا : حدثني – رحمه الله – في مجلس الفتوى في ( منى ) فقال : إذا سأل البدوي عن مسألة وكان الجواب موافقا لما يهوي فإنه يسأل سؤالا آخر قريبا من الأول أو بعيدا أما إذا كان الجواب بخلاف ما يهوى فإنه يسأل سؤالا آخر قريبا من الأول أو بعيدا أما إذا كان كان الجواب بخلاف ما يهوى فإنه يسكت وينصرف .
وهكذا أكسبه طول التعامل مع المستفتين معرفة لنفسياتهم فكانت إجاباته بإيضاح الحكم فيما يسأل عنه من التوسع أو من الإيجاز ، ملحوظا فيها ما ينقدح في ذهنه من مقصد السائل عند إلقاء السؤال من رغبة في معرفة الحكم الشرعي في المسألة أو في خلاف ذلك .
زهده وعفته :
إن الزهد في الدنيا معنى جميل ، لا يستقم إلا لكل نفس كبيرة فهو خير معين على التفرغ للعظائم وأقوى محقق لمعاني القوة في النفس والعقل والبدن . وأكبر عامل على صفاء القلب وصوله عما يتورط فيه من الحقد والغل والحسد وأدعى شيء الى العفاف والترفع عن السفاسف والى عزة النفس والصدع بالحق ومقاومة الشر
وعلى الجملة فهو كنز النفس العظيمة وميزة الصفوة المختارة والخيرة الأبرار .
والزهد ليس كما يزعم بعض الجاهلين قبوعا عن كل جليل وعظيم من الاعمال وليس الزهد كما يخيل للحمقى والمغفلين الذين غرر الشيطان بهم . هو الذلة والمسكنة والفقر والمتربة والضعف والحاجة والكسل اللاصق بالارض القانع بالدون من الحياة .
لكنه زهد تربية وزهد النفس التي تعف فيما تملك وتترفع عن أن تمد عينيها الى ما لا تملك إنه العزة التي لا يذلها مطمع من مطامع الدنيا ولا تغريها شهوة من شهواتها إنه زهد القلب وعفة الروح وطهارة الجوارح إنه التجرد الكامل من رق النفس وأهوائها وشهواتها .
لقد كان زهد السلف الصالح رضي الله عنهم وخشونة ملبسهم وجئوبة مطمعهم ، من أبلغ عوامل الرهبة في قلوب أعدائهم وأوكد اسباب خضوع الدنيا لهم .
وعندما خلف من بعدهم خلف خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ورغبوا في العاجل وأعرضوا عن الآجل ، تبددت الرهبة من صدور أعدائهم وتمنعت الدنيا وعزت على عمالهم وتكالبت عليهم الأمم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها " فقال قائل أو من قلة نحن يومئذ ؟ قال " بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن " . فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن . قال : " حيث الدنيا وكراهية الموت " .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – رمزا ومثالا يحتذى وقدوة تؤتسى في الزهد والورع وإنكار الذات .
كان زاهدا في الدنيا متقللا منها معرضا عنها ، متحليا بالطاعة ، مستشعر العفاف والكفاف ، مقتصرا من نفقته وملبسه على ما تدعو اليه الحاجة والضرورة .
لقد كان – رحمه الله – متواضعا في مسكنه ومأكله ومشربه وسائر أموره وما عرفت الدنيا طريقا الى قلبه ولم يكن يهتم بها ومع أن غيره ممن هو دونه كان ينقلب في النعيم وينام على الوثير من الفراش ، كان الشيخ – رحمه الله – متواضعا في مسكنه ومشربه وسائر أموره وما عرفت الدنيا طريقا الى قلبه ولم يكن يهتم بها ومع ان غيره ممن هو دونه كان يتقلب في النعيم وينام على الوثير من الفراش يؤثر خشونة العيش وعدم التوسع في الملذات على الرغم من أنه مد بأسبابها .
والبرهان على أنه ليس طالب مجد دنيوي أنه ما سلك سبيلا لازدياد كسب مادي وما أكثر سبل الكسب المادي لو أرادها ومما يؤكد ذلك ويدعمه أنه كان – رحمه الله – محبا للتستر بعيدا عن المظاهر والتصدر يكره الشهرة ويأبى أن تسلط عليه الأضواء ويبتعد عن وسائل الإعلام بعدا لا هوادة فيه .
يقول أحد طلابه : لقد جاء الشيخ إلى السعودية على علمه وسجيته لم يجتذبه طمع في مال أو جاه أو منصب وقد علم الله صلاح نيته فانقادت له كل أسباب العز الدنيوي وهو لم يطلبها فكان في هذه المملكة أستاذ جيل بحق .
قلت : ومما لا ينكر من أخلاقه الظاهرة وزهده وورعه ، كراهيته الشديدة للمدح والثناء عليه وتقبيل رأسه ويديه فما كان يرضى من أحد أن يثنى عليه أو يبالغ في مدحه .
وأما عفة الشيخ وتعففه فهو بحر لا ساحل له وقد تكفي الإشارة إن لمة تسعف العبارة وصفوة القول أن الشيخ – رحمه الله – كان شديد التعفف ، غاية في الزهد ، نموذجا للأسوة الحسنة والقدوة الصالحة .
كما كان رحمه الله عف اللسان عفيف النفس طاهر الذيل ، بعيدا عن المحارم ، مجانبا للمآثم .
يبيت مشمرا سهر الليالي وصام نهاره لله خيفة
وصان لسانه عن كل إفك وما زالت جوارحه عفيفة
يعف عن المحارم والملاهي ومرضاة الإله له وظيفة
تواضعه :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد " . والتواضع هو انكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة للخلق ومنشأ التواضع من معرفة الإنسان قدر عظمة ربه ومعرفة قدر نفسه فمن عرف نفسه وتواضع لربه فإنه لا يتمرض على خالقه باقتراف الجرائم والآثام كما أنه يعامل الناس معاملة حسنة بلطف ورحمة ورفق ولين جانب ، لا يزهو على مخلوق ولا يبالي بمظاهر العظمة الكاذبة ولا يترفع عن مجالسة الفقراء والمشي معهم وإجابة دعوتهم ومخاطبتهم بالكلام اللين ولا يأنف من استماع نصيحة من هو دونه . قال تعالى : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي لين الجانب ، سهل الخلق ، شديد الزهد في أعراض الدنيا ، يلبس الخشن من الثياب ويرتاح لذلك ويعلله بأنه يناسب بدنه صحيا ولم يكن له ترتيب خاص به في حياته كما هي عدة الأثرياء والوجهاء ، كما أنه ليس له ترتيب خاص به في مجلسه وطعامه ولقائه بالعلماء والعامة وطلبة العلم وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس وكان كثير التأمل ، شديد الملاحظة ، يؤثر الصمت ولا يتكلم إلا عند الحاجة ولا يزيد عن المطلوب منه وكان لا يتشدق في الكلام ولا يتكلف ما ليس عنده ولا يزهو على أحد بعلمه ولا يترفع على جلسائه بل يباسطهم ويمتزج بهم ومع هذا فهو بتواضعه متميز بخفض جناحه لطلابه وجلسائه ، متعزر قد زاده التواضع رفعة وخفض الجناح شرفا .
يقول الدكتور عبد الله بن حافظ الحكمي : كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – محل القدوة والأسوة ، شديد التواضع تغلب عليه البساطة في مجلسه ، إذا ارتاح لمحدثه استرسل في ذكر الأحداث والمواقف ونزل معه على قدره صغيراً كان أو كبيراً .
وقال الدكتور محمد بن لطفي الصباغ : كان الشيخ عبد الرزاق متواضعاً يكرم الصبيان والفتيان ولا يدعوهم إلا بألقاب التكريم ، وقد رأيته يوم أن جاء الشيخ حسن حبنكة أحد كبار علماء بلاد الشام لزيارة مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله – رأيته في قمة التواضع إذ كان يؤثر الكثيرين في الجلوس في المقاعد المتقدمة مع أنه أحق منهم بهذا التقديم .
ثباته على مبدئه :
إن الأخلاق إذا تعاورتها الشدائد والأهوال سبكتها وأخرجت منها خلقاً قويماً ثابتاً فالشدائد تظهر ما هو كامن في الإنسان فإما أن تجعل منه خلقاً عظيماً يظل على مر الليالي والأعوام نبراساً يستضاء به وإما أن تقضي عليه فتجعله أثراً بعد عين
ومن أجل ذلك وجب على من يطمحون إلى الظفر وبلوغ المقاصد العظيمة أن يعدوا أنفسهم لركوب متن الأهول واحتمال الشدائد وتوطين أنفسهم على المكاره .
وما أروع ما قاله صفي الدين الحلي :
لا يمتطى المجد من لم يركب الخطرا ولا ينال العلا من قدم الحذرا
ومن أراد العلا عفواً بلا تعب قضى ولم يقض من إدراكها وطرا
لابد للشهد من نحل يمنعه لا يجتن النفع من لم يحمل الضررا
لا يبلغ السؤال إلا بعد مؤلمة ولا تتم المنى إلا لمن صبرا
إن على أصحاب النفوس الكبيرة والهمم العالية والأغراض السامية أن يتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ثباته وسائر أخلاقه .
إن السابر لأغوار الشيخ عبد الرزاق والواقف على سيرته والمتتبع لمراحل حياته يدرك تمام الإدراك أن الشيخ تميز بصفة الثبات على المبدأ فما عرف منه التذبذب في الرأي والتعددية في القول وما عرفت المداهنة والمجاملة طريقاً إليه بل كان يقول الحق ويقصده ويتحرى الصدق ويؤثره وادل دليل على ذلك إن الشيخ رحمه الله كانت له آراء خاصة في بعض المسائل العلمية لا يذكرها إلا للخاصة من أصحابه ولا يسؤه أن يكون هناك من يخالف فيها وإذا ذكرت أمامه الآراء التي تخالفه لا ينفعل ولا يتشنج لأنها تخالفه بل يقول : لكل رأيه وكثيراً ما كنت أسمعه يقول لمن يستفتونه ويسألونه في أمور دينهم بعد أن يبين لهم الحكم الشرعي فيما سألوه فيه " ما أعرفه قلته إسألوا غيري ؟ وهذا إن دل فغنما يدل على ثقته بنفسه واعتزازه بدينه وخوفه من ربه لا يخشي في ذات الله لومة لائم وفضلاً عن ذلك فقد كان رحمه الله قوياً صلبا لينا سهلاً في الرجوع إلى الصواب وإلى ما يظهر له انه خلاف الحق الذي ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة .