أمر الله في كتابه العزيز بالأدب معه صلى الله عليه وسلم فقال{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي لا تفتاتوا على رسول الله بشئ حتى يقضيه الله على لسانه وانظر أدب الصديق معه عليه الصلاة والسلام في الصلاة لما تقدم بين يديه كيف تأخر فقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله وكيف أورثه الله مقامه والإمامة بعده وقال الضحاك: لا تقضوا أمرًا دون رسول الله وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر ولا تنهوا حتى ينهى فمن الأدب: أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما أمر الله تعالى بذلك في هذه الآية وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ فالتقدم بين يدي سنته وبعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم: أن لا ترفع الأصوات فوق صوته كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} وأفاد أنه ينبغي أن لا يتكلم المؤمن عنده صلى الله عليه وسلم كما يتكلم العبد عند سيد، أي بل يكون صوته دون صوته مع سيده وإذا كان رفع الأصوات فوق صوته صلى الله عليه وسلم موجبًا لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به صلى الله عليه وسلم؟
وَرُوِيَ أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال (وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لا أُكَلِّمُكَ إِلاَّ كَأَخِي السِّرَارِ) أي: الكلام الخفِيّ الذي يراد كتمه (وأن عمر كان إذا حدَّثه حدَّثه كأخي السراري ما كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حديثه بعد هذه الآية حتى يستفهمه) وروي أن أبا جعفر أمير المؤمنين ناظر مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدَّب قوماً فقال {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ومدح قومًا فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} وذم قومًا فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ} وأن حرمته ميتًا كحرمته حيًّا فاستكان لها أبو جعفر ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن لا يُجعل دعاؤه كدعاء بعضنا بعضاً قال تعالى {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً} وفيه قولان للمفسرين: أحدهما: لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضًا بل قولوا: يا رسول الله، يا نبيَّ الله – مع التوقير والتواضع والثاني: أن المعنى لا تجعلوا دعاءه لكم منزلة دعاء بعضكم بعضاً إن شاء المدعو أجاب وإن شاء ترك بل إذا دعاكم لم يكن لكم بُدّ من إجابته ولم يسعكم التخلف عنها البتَّة فإن المبادرة إلى إجابته واجبة والمراجعة بغير إذنه محرمة ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم: أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع – مع خطبة أو جهاد أو رباط لم يذهب أحد مذهبًا في حاجة له حتى يستأذنه كما قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أنه لا يستشكل قوله بل تستشكل الآراء بقوله ولا يعارض نصُّه بقياس بل تُهدر الأقيسة وتُلقي لنصوصه ولا يُحرَّف كلامه من حقيقته لخيال مخالف تسميه أصحابه معقولاً نعم هو مجهول وعن الصواب معزول ولا يتوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد فكل هذا من قلَة الأدب معه وهو عين الجرأة عليه صلى الله عليه وسلم ورأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم:كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقِّي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل على أن يقدم عليه آراء الرجال فيوحد التحكيم والتسليم والانقياد للرسول كما وحد المرسل بالعبادة فهما توحيدان لا نجاة إلاَّ بهما والقرآن مملوء بالآيات المرشدة إلى الأدب معه صلى الله عليه وسلم: لما قال المشركون {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} أجاب تعالى عنه عدوه بنفسه من غير واسطة فقال {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}ولما قالوا{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}أجاب تعالى عنه فقال{بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} ولما قالوا {لَسْتَ مُرْسَلاً} أجاب الله عنه فقال{يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ولما قالوا {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} أجاب تعالى عنه فقال {بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } فصدَّقه ثم ذكر وعيد خصمائه فقال {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ}
ولما قالوا {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} أجاب الله تعالى عنه فقال {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} ولما حكي الله عنهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أجاب الله عنه فقال {فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً} وقال ردًّا لقولهم {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ولما قالوا (يلقيه إليه الشيطان) قال تعالى {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ } ولما تلا عليهم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث{لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} أجاب الله عنه فقال {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } ولما قال الوليد بن المغيرة {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}أجاب عنه تعالى فقال {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } تسلية له عليه الصلاة والسلام
ولما قالوا: محمد قلاه ربُّه أجاب الله عنه فقال {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ولما قالوا {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} أجاب الله عنه فقال {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ}ولما حسدته أعداء الله اليهود على كثرة النكاح والزوجات وقالوا (ما همَّته إلاَّ النكاح) أجاب الله عنه فقال {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً} ولما استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر بقولهم الذي حكاه الله عنه {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً} وجهلوا أن التجانس يورث التآنس وأن التخالف يورث التباين أجاب الله عنه {قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً} أي لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة، لكن لما كان أهل الأرض من البشر وجب أن يكون رسولهم من البشر
منقول من كتاب [الكمالات المحمدية]