شيدوا مسجداً… عوضاً عن الصومعة:
ومن طرف آخر فإن المؤرخ محمد بن أبي القاسم الرعيني القيرواني أورد في كتابه (المؤنس في أخبار إفريقية وتونس) قصة توضح سبب اختيار موقع الجامع الذي لم يأت عبثاً بل لسبب وجيه.
ذلك أن راهباً نصرانياً أشار على المسلمين عند احتلالهم لتونس أن يشيدوا جامعهم في مكان الصومعة التي كان يتعبد فيها. ولما سألوه عن الحكمة في تلك النصيحة قال: إنه يرى في هذا المكان نوراً يتألق أثناء الليل، لذا فهو حقيق بأن يتخذ مسجداً لله…
وهذه القصة مع ما توصل إليه الأثريون الباحثون تشير إلى أن الجامع بني على أطلال كنيسة أو صومعة أو ما يشبه ذلك من بيوت العبادة الصغيرة.
الزيتونة… أكثر من جامع:
وإنما سمي الجامع بالزيتونة نسبة إلى شجرة زيتونة كانت بجانبه عند إنشائه.
ومعلوم أن شجرة الزيتونة شجرة مباركة ورد ذكرها في كتاب الله مع وصفها بذلك، فمن هنا أطلق اسمها على المسجد الجامع في تونس إذ ذاك…
وفي الحقيقة فإن مسجد الزيتونة اسم سمي به أكثر من مسجد في المشرق والمغرب، منها مسجد الزيتونة بالقيروان في تونس نفسها، ومنها ثلاثة مساجد في دمشق تعرف بمسجد الزيتونة ذكرها يوسف بن عبدالهادي في كتابه (ثمار المقاصد)…
إلا أن هذا الاسم إذا أطلق فأول ما يتبادر إلى الذهن المسجد الجامع في مدينة تونس. وهو محل حديثنا.
سجل مفتوح للأسر الحاكمة في تونس:
ونستطيع القول بارتياح إن معظم الأسر التي تداولت الحكم في تونس أولت مسجد الزيتونة مزيداً من العناية والاهتمام فما تكاد تذكر تاريخ أسرة حاكمة هناك إلا ووجدت شيئاً ما في هذا المسجد يخلدها ويجري ذكرها منقوشاً مؤرخا.
يقول الأستاذ طه الولي في كتابه القيم: (المساجد في الإسلام) ومن حسن الحظ أن جامع الزيتونة احتفظ بعمارته التي بدأت واستمرت قائمة منذ إنشائه قبل حوالي أحد عشر قرنا إلى أيامنا، مما أتاح لنا مرافقة نقائشه التي رقمت فيه، وفيها تاريخ هذا الجامع وتاريخ تونس بالذات، وفي نفس الوقت أتاحت لنا هذه النقائش دراسة تطور الخط العربي من عصر إلى عصر.
الأغالبة والصنهاجيون والخراسانيون… الخ:
وأول من نسبت إليه الزيادة والتجديد في جامع الزيتونة أحمد بن محمد بن الأغلب الذي عاجلته المنية، فأتم أخوه من بعده زيادة الله الثاني الأغلبي والي تونس بعده ما كان بدأه من عناية بالمسجد وزيادة ثلاثة اساكيب (عقود) في بيت الصلاة، وإقامة قبة أمام المحراب.
ثم في عام 381هـ في أيام أبي الفتح المنصور بن أبي الفتوح يوسف بن زيري ثاني الملوك الصنهاجيين تم ترميم قبة البهو في جامع الزيتونة حتى غدت في قمة الجمال والروعة.
ثم جاء بنو خراسان فيما بين القرنين الخامس والسادس للهجرة فقام أمراؤهم لاسيما عبدالعزيز بن عبدالحق بن عبدالعزيز بن خراسان بآثار خالدة في جامع الزيتونة منها زيادة أبواب الجامع من ستة إلى اثني عشر بابا منها الباب الضخم المفتوح على سوق القماش الحالي، كما أعادوا بناء السور الخارجي للجامع.
وأما محمد بن يحيى الذي حكم تونس ما بين سنتي 647 و675هـ فقد استفاد هذا الحاكم من القناطر الرومانية القديمة التي طولها 90كم فجلب فيها مياهاً للمسجد من زاغون، واستحدث الخزانات المملوءة ماء ليزود المسجد بالماء الطهور بشكل دائم، وفي عام 676هـ كسي الجامع وزين بأمر من يحيى بن المنتصر من الحفصيين.
وفي عام 716هـ أمر السلطان زكريا الحفصي بصنع أبواب خشبية وعوارض خشبية مزخرفة في بيت الصلاة.
وفي عهد السلطان ابي عبدالله الحفصي بنى بالمسجد المقصورة التي بابها مما يلي صحن الجنائز، وبني السبيل الذي تحتها.
وفي أوائل العقد الثالث من القرن الحادي عشر الهجري تولى إمامة المسجد عدد من العلماء من الأسرة البكرية منهم تاج العارفين الشيخ محمد الذي بنى في صحن مسجد الزيتونة الرواق الشرقي، وأدخل على الجامع ترميمات واسعة، ونقشت في عهده على واجهة المحراب وأعالي السواري تيجان بديعة من الجبس هي الأجمل من نوعها في بلاد تونس.
المئذنة والقبتان:
ومن ناحية أخرى فإن المئذنة التي بنيت مع البناء الأول للجامع تداعت للسقوط عام 1309هـ فأمر حاكم تونس الباري علي باشا بهدمها وإعادة بنائها مع الإتقان والاهتمام.
فأعيد بناؤها ثانية بارتفاع 43 متراً، بعد أن كانت من قبل لا تزيد على ثلاثين مترا. وجرى يوم الاحتفال بإتمامها حفل ديني رائع.
ولمسجد الزيتونة قبتان: واحدة أمام المحراب، والثانية على مدخل البلاط الأوسط مما يلي الصحن. ويحمل قبة المحراب اثنان وثلاثون عوداً، تتخللها طاقات مفتوحة ومغلقة متعاقبة في المحيط الدائري لعنق القبة.
أما قبة البهو التي أقيمت عام 381هـ فتعد من أروع القباب التونسية جميعا، لما فيها من تناسق الزخرفة وإتقان المعمار وتوافق النسب.
معالم رئيسية مهمة:
ويتميز مسجد الزيتونة بأنه يحتوي على أجمل ختمه للقرآن الكريم كتبت في البلاد التونسية، وقد تم الانتهاء منها وإهداؤها للمسجد أيام الشيخ تاج الدين البكري بأواخر القرن الثاني عشر الهجري.
كما يتميز بوجود مزْولة لضبط أوقات الصلاة حسب الفصول السنوية، وقد تم الاستغناء عنها اليوم بوجود الساعات الدقيقة، إلا أنها (المزولة) كانت من قبل من أتقن الصناعات واضبطها للأوقات.
كما يتميز بزخرفة فريدة تقوم على تناوب اللونين الأبيض والرمادي في كتل الحجارة التي تؤلف سنج العقود أو مداميك البناء داخل قبة المحراب، ولعل مهندس جامع الزيتونة قد استلهم فكر وتناوب اللونين من عقود جامع قرطبة التي فيها حجارة ذات ألوان عديدة.
وبجامع الزيتونة منبر خشبي بديع يعود صنعه إلى عام 250هـ، وهو قريب الشبه بمنبر جامع القيروان وإن كان أصغر منه، إذ فيه اثنتان وعشرون حشوة مستطيلة الشكل في كل من الكتفين، مع أن كل حشوة تنفرد عن أخواتها ولا تشابهها.
وتزدان هذه الحشوات بزخارف هندسية على شكل مربعات ودوائر ومعينات محفورة بمهارة في الخشب حفراً غائراً مفرغا، لتضفي على المنبر جمالاً ورونقاً، بل وإجلالاً ومهابة حتى زعم بعض أهل تونس ـ ولهم جميعاً تعلق شديد بهذا المسجد ـ أن الدعاء بين حافتي المنبر مستجاب.
أوقاف كثيرة خاصة:
ولكي يستمر جامع الزيتونة في أداء المهام الكثيرة التي يقوم بها من إقامة الصلوات ورفع تكبيرات المؤذنين وإحياء الأوقات الفاضلة بالقرآن والحديث والدعاء والعلم كثرت أوقاف أهل الخير من المسلمين من أمراء وأغنياء وغيرهم عليه.
يقول الحشائشي في كتابه (تاريخ جامع الزيتونة) ولأهل هذه الحاضرة ـ تونس ـ عمرها الله تعالى ـ تعلق شديد بهذا البيت ـ مسجد الزيتونة ـ وتشبث عظيم بلوحاته. حتى أنك تراه مرجعاً لغالب أوقافهم ولهم في ذلك المنازع الغريبة، فمنهم من يوقف على الإمام، ومنهم على القارئ، أو المؤذن، ومنهم من يوقف على الحمام الوحشي ـ أي البري ـ الذي يأوي إليه.
وعلى سبيل المثال فحاكم تونس المتوفى عام 893هـ (عثمان المنصور الحفصي) بنى ميضأة في المسجد ـ وهي التي عرفت فيما بعد باسم ميضة السلطان ـ وأوقف عليها أوقافاً كثيرة، وكان يسخن بها الماء زمن الشتاء.
وعلى سبيل المثال أيضاً فإن قرابة ثلاثمائة قارئ كانوا يتسلمون معاشات من ريع أوقاف أهل الخير في مقابل مداومتهم على قراءة أحزاب مقررة من القرآن الكريم لكل منهم، فكانوا يتناوبون القراءة في المسجد في حلقات قد تبلغ خمسين حلقة، وربما كان لهم بين الظهرين دوي كدوي النحل.
نشاط علمي رائد… وعادات أصيلة راسخة:
ونقل لنا الحشائشي في تاريخه صوراً من النشاط الديني والعلمي داخل مسجد الزيتونة قديماً فيقول: ومن ذلك قراءة "الترهيب والترغيب" بعد العصر، ورواية الصحيحين بين الظهرين ـ الظهر والعصر، وهي منقبة ابتدأها أبو فارس عبدالعزيز من العائلة الحفصية.
وصفتها الجارية الآن ـ أي في أيامه أوائل القرن الحالي ـ يجلس الأئمة الثلاثة بباب الشفاء، فيبتدئ الإمام الأكبر برواية صحيح البخاري برهة من الزمان، ثم يتلوه الإمام الثاني برواية صحيح مسلم، ثم يعقبه الإمام الثالث برواية شفاء القاضي عياض، وهذا المجلس تحضره أمم لا تحصى على اختلاف طبقاتهم…
أما في رمضان فالعمل في مسجد الزيتونة جار على قدم وساق ـ كباقي مساجد الدنيا ـ فبعد صلاة العصر من السادس والعشرين من شهر رمضان يبتدئ الإمام الثالث رواية الشفاء للقاضي عياض، ثم يتلوه الإمام الثاني برواية مسلم، ثم يختم الإمام الأول برواية صحيح البخاري، وذلك بمحضر أمير العصر ووزرائه والعلماء، والجامع غاص على اتساعه بالمسلمين.
وفي الليل يقع ختم القرآن العظيم بصلاة التراويح، والناس يزدحمون على أبوابه، ويتبركون بعُلى أعتابه.
البداية والتطور الشكلي:
وإذا كانت مهمة التعليم الديني العالي التي اضطلع بها مسجد الزيتونة سنين طويلة قد ختمت بإنشاء جامعة الزيتونة عام 1961م، وفيها كليتا الشريعة وأصول الدين، فإن بداية التعليم فيه تعود إلى أوائل القرن الثالث الهجري حينما يتردد على أسماعنا اسم أبي البشر زيد بن بشر الأزدي أحد العلماء المحدثين من أبناء تونس.
لكن في عهد بني حفص تبدل حال التعليم من نظام قديم يعتمد على المبادرة الشخصية للعلماء والرغبة القوية عند الطلبة، إلى نظام متطور يلتزم به المدرسون والدارسون التزاماً تاماً، فقد فرضت الدولة الحفصية على العاملين في جامع الزيتونة قوانين تعليمية ملزمة، وجعلت له أوقافاً مجزية، مستفيدة من الظروف التاريخية التي ألجأت الكثير من العلماء والنابهين الأندلسيين ـ بعد سقوط الأندلس ـ إلى اللجوء إلى تونس حتى غدا مسجد الزيتونة منذ ذلك الحين المركز العلمي الذي تدرس فيه العلوم الإسلامية على اختلاف أصولها وفروعها مع علوم الطب والهندسة والرياضيات.
عرف الجامع إذ ذاك ثلة كريمة من العلماء المتفردين في علومهم أمثال ابن عصفور والقاضي ابن عبد السلام وابن عرفة وابن خلدون والبرزلي والآبي وابن ناجي وغيرهم.
أقدم جامعة في العالم:
ومما يدلنا على بعض تلك التقاليد العلمية والأنظمة الإدارية أن الباي المشير أحمد باشا أصدر سنة 1258هـ أمراً بانتخاب 15 عالماً من الأحناف، ومثل عددهم من الموالك، يقوم كل واحد منهم بإعطاء درسين مما يطلب منه من العلوم.
وخَصص لكل واحد من هؤلاء العلماء راتباً شهرياً يبلغ 60 ريالاً يحرم منها من يتخلف عن التدريس لغير عذر شرعي…
ونتيجة استمرار التعليم في جامع الزيتونة على نظام معين، واعتماده الشمولية والتعددية في العلوم والفنون ووجود طرق محددة لامتحان الطلبة وتخريجهم، ووجود الموارد المالية الكافية لذلك منذ القديم يذهب البعض إلى أن جامع الزيتونة ـ بحق ـ هو أقدم جامعة في العالم.
وكان المتخرجون من جامع الزيتونة يطلق عليهم لقب (الزيتوني).
والزيتوني في المجتمع التونسي كان يتمتع بمقام مرموق لأنه أعَدْل القرية التي هو فيها، وهو الذي يبرم عقود البيع والشراء والإجارة والأنكحة، إضافة إلى كونه إمام المسجد والمدرس والواعظ وكاتب الرسائل الخاصة… وهو أيضاً العالم الشاعر الأديب… الخ.
المكتبة القيمة:
ولا ننسى أن ننوه بإعجاب إلى مكتبة جامع الزيتونة التي كانت عامرة منذ القديم، حتى وصل ما فيها إلى ما يزيد على مئتي ألف مجلد في قمة مجدها.
وقد حفظ لنا التاريخ أن أبا فارس عبدالعزيز الحفصي أنشأ عام 696هـ خزانة (مكتبة) الكتب التي بلغت مجلداتها في أيامه ما ينيف على ثلاثين ألف مجلد، زين بها صدر الجامع، وأوقفها على العلماء والمتعلمين، وحبس (أي أوقف) عليها ما تحتاجه ومن يعمل فيها للاستمرار.
كما يذكر التاريخ في هذا المجال السلطان عثمان بن محمد المنصور الذي جمع سنة 839هـ
مكتبة أخرى:
في مسجد الزيتونة تقارب المكتبة السابقة، وبنى لها مقصورة واسعة عرفت باسم مقصورة الكتب.
ومثل هذين الأميرين فعل السلطان محمد بن الحسن سنة 899هـ
إلا أن ما لا ينسى بخصوص مكتبة جامع الزيتونة تلك الجريمة الحضارية النكراء التي ارتكبها جنود الأسبان سنة 970، عندما استباحوا حرمة مسجد الزيتونة ضمن هياج عام لهم في تونس، فأطلقوا أيديهم في إتلافها، حتى صارت نفائس الكتب ملقاة في الطرق تدوسها خيلهم بأرجلها.
كما قاموا بسرقة كثير منها ونقله إلى أسبانيا أو إلى مكتبة البابا… ولا تزال خطوط وقفها على مسجد الزيتونة مثبتة عليها إلى اليوم. تنعي الأسبان جريمتهم وتثبت للمسلمين حقهم.
واستمرت دموع مسجد الزيتونة تبكي مكتبته المنكوبة ردحاً من الزمن حتى كان عهد أبي العباس أحمد باي من الملوك الحسنيين فأعاد لها نضارتها وجددها واعتنى بها، فعرفت المكتبة الموجودة هناك باسم المكتبة الأحمدية نسبة إليه.
بارك الله فيك .