حكم تقسيم الدين إلى أصول وفروع، تبريره والآثار المترتبة عليه
السؤال:
الأصوليون كالمجمعين على تقسيم الدين إلى مسائل أصول ومسائل فروع وضابط التفريق بينهما من جهة كون
مسائل الأصول يطلب فيها العلم والاعتقاد وعليها دليل قاطع وهي معلومة بالعقل،
بينما
مسائل الفروع يطلب فيها العمل ومسائلها ظنية وهي معلومة بالشرع لا بالعقل،
نرجو من الشيخ أبي عبد المعز أن يفصل لنا ما مدى صحة هذا التقسيم وقوة تبريره وهل له من أثر ناتج عنه؟، أفيدونا جزاكم الله خيرا .
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالذي ينبغي معرفته هو أن القاضي الباقلاني هو أوّل من صرح من المتكلمين بالتفريق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع،
وإن كان هذا التفريق أحدثه الجهميّة وأهل الاعتزال، وسرى بعده إلى كافة المتكلمين من أهل الأصول،
لذلك ما صدرتم به سؤالكم بأنّ الأصوليين كالمجمعين على هذا التقسيم فثابت عند معظم المصنفين من أهل الأصول إن لم يكن جميعهم،
والذي ثبت في نظرهم لو كان مجرد اصطلاح وتقسيم جديد يدلّ على معان صحيحة كالاصطلاح على ألفاظ وتقسيمات العلوم الصحيحة لما ذُمَّ هذا النظر، بل يستحسن القول به لاشتماله على الصحة ودلالته على الحق،
لكن هذا المتقرر عندهم مشتمل على حق وباطل بل هذه المقدمة التقسيمية رتبت عليها آثار كاذبة للحق مخالفة للشرع الصريح والعقل الصحيح،
ذلك لأنّ حقيقة هذا التقسيم -فضلا على كونها منتفية شرعا- فإنّه يلزم القول بصحتها نتائج خطيرة بعيدة على المنهج القويم بل في شقٍّ عنه.
أمّا من حيث انتفاء ثبوت هذا التقسيم والتفريق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع: فلكونه حادثا لم يكن معروفا عند الرعيل الأول من الصحابة والتابعين حيث إنّه لم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول الدين وفروعه
فكان إجماعا منهم على عدم تسويغ التفريق بينهما،
وإنّما كان أول ظهوره محدثا عند أهل الاعتزال وأدرجه الباقلاني في تقريبه ثمّ أخذ مجراه إلى من تكلم في أصول الفقه مع الغفلة عن حقيقته وما يترتب عليه من باطل.
ومنه يظهر أنّ أول خطإ فيه مناقضته للإجماع القديم.
أمّا من حيث ترتب الآثار الفاسدة على هذا القول فعديدة يظهر منها :عدم التسوية في رفع إثم الخطأ من المجتهد بين مسائل الأصول والفروع،
ذلك لأنّ معظم الأصوليين من المتكلمين والفقهاء يؤثمون المجتهد المخطئ في الأصول لأنّها من المسائل القطعية العلمية المعلومة بالعقل على نحو ما تفضلتم به في سؤالكم، وبناء على هذا التفريق فلا يساور من ارتضاه أدنى شك في تأثيم المخطئ في الأصول وتفسيقه وتضليله مع اختلافهم في تكفيره، وقد ذكر الزركشي هذا المعنى ونسب للأشعري فيه قولين(1) بل ادّعي الإجماع على تكفيره إن كان على خلاف ملة الإسلام، فإن لم يكن فمُضَلَّل ومبتدع، كأصحاب الأهواء من أهل القبلة(2)
ولا تخفى ما في هذه النتيجة من حكم خطير وباطل ظاهر،
بل إنّ ما زعموه من إجماع على تكفير وتخطئة المخطئ في الأصول مدفوع بإجماع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى والدين فكلهم يعذرون المجتهد المخطئ مطلقا في العقائد أو في غيرها، ولا يكفرونه ولا يفسقونه سواء كان خطؤه في مسألة علمية أصولية أو في مسألة علمية فرعية.
ذلك لأنّ العذر بالخطإ حكم شرعي خاص بهذه الأمّة لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه »(3)
لأنّ الإثم مرتب على المقاصد والنيات،
والمخطئ لا قصد له فلا إثم عليه إذ في اجتهاده صدق النية في إرادة الحق والوصول إلى الصواب،
أمّا أهل الأغراض السيئة وأصحاب المقاصد الخبيثة فلكل منهم ما نوى، والحكم للظاهر، والله يتولى السرائر،
وهذا الأمر إنّما يدور حديثه على المجتهد المؤمن بالله ولو جملة وثبت بيقين إيمانه فإن استفرغ طاقته الاجتهادية وبذل وسعه واتقى الله قدر الاستطاعة، ثمّ أخطأ لعدم بلوغ الحجة أو لقيام شبهة أو لتأويل سائغ فهو معذور لا يترتب عليه إثم ما لم يفرِّط في شيء من ذلك فلا يعذر،
وعليه الإثم بقدر تفريطه ويستصحب إيمانه ولا يزال بالشك، وإنّما يزول بعد إقامة الحجة وإيضاح المحجة وإزالة الشبهة إذ لا يزول يقين إلاّ بمثله.
أمّا إن كان غير مؤمن أصلا فهو كافر واعتذاره غير مقبول بالاجتهاد لقيام أدلة الرسالة وظهور أعلام النبوة.
ويؤيد ما ذكرنا أنّه نقل في بعض المسائل العلمية العقدية اختلاف السلف فيها كرؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه وعروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، وسماع الميت نداء الحي، وإنكار بعض السلف صفة العجب الواردة في قراءة ثابتة متواترة(4) مع كلّ ذلك لم ينقل من أحد منهم القول بتكفير أو تأثيم أو تفسيق من أخطأوا في اجتهادهم، لما تقدم ذكره ولم يرد نص يفرق بين خطأ وآخر في الحديث السابق أو في قوله تعالى: ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ? [الأحزاب:5] وقوله تعالى: ?رَبَنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا? [البقرة:286] ولا يسع الاستدلال بقوله تعالى: ?لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخَاطِئُونَ? [الحاقة:37]، وقوله تعالى: ?وَإِن كنَََّا لَخَاطِئِينَ? [يوسف:91]، وقوله تعالى: ?وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ? [يوسف:29] للتفريق بين خطأ وآخر،
ذلك لأنّ المراد بالخطأ في هذا المقام هو ما يقابل الصواب أي ضده، وهو من الرباعي أخطأ يخطئ وفاعله يسمى: مخطئا أي لم يصب الحق،
أمّا الخطأ في الآية فثلاثي من خطأ يخطأ فهو خاطئ فهو بمعنى أذنب.
والمعلوم أيضا أنّه قد تأتي خطئ بمعنى أخطأ لكن يختلف مقصود كلا منهما من تعمد الفعل من عدمه حيث لا يقال أخطأ إلاّ لمن لم يتعمد الفعل والفاعل مخطئ، والاسم منه الخطأ، فيقال لمن تعمّد الفعل: خطئ فهو خاطئ والاسم منه الخطيئة(5).
هذا، ومن نتائج هذا التفريق أن العاجز عن معرفة الحق في مسائل الأصول غير معذور وأنّ الظنّ والتقليد في العقائد أو الأصول ممّا هو ثابت قطعا غير معتبر أي: إنّه لا يجوز التقليد في مسائل الأصول بل يجب تحصيلها بالاعتماد على النظر والفكر لا على مجرد المحاكات والتشبه بالآخرين،
وقد ادّعي في ذلك إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف، بل ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني إلى القول أنّه:"من اعتقد ما يجب عليه من عقيدة دينه بغير دليل لا يستحق بذلك اسم الإيمان ولا دخول الجنّة والخلوص من الخلود في النيران"(6) .
هذا، ومع كون هذا التفريق السابق الحادث منقوضا بإجماع السلف فالبناء عليه لا يثبت، لأنّ إيمان المقلد معتبر غير مشروط فيه النظر والاستدلال، إذ لو كان واجبا لفعله الصحابة رضي الله عنهم وأمروا به، لكنّهم لم يفعلوا ولو فعلوا لنقل عنهم،
والاعتراض بأنّ الصحابة رضي الله عنهم كانت معرفتهم بالعقائد مبنية على الدليل اكتفاء بصفاء أذهانهم واعتمادهم على السليقة ومشاهدتهم الوحي يرده أنّ الصحابة رضي الله عنهم لمّا فتحو البلدان والأمصار قبلوا إيمان العَجَم والأعراب والعوام وإن كان تحت السيف أو تبعا لكبير منهم أسلم، ولم يأمروا أحدا منهم بترديد نظره ولا سألوه عن دليل تصديقه، ولا أرجؤوا أمره حتى يَنْظُر،
بل لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لأحد لا أقبل إسلامك حتى أعلم أنّك نظرت واستدللت، قال ابن حزم:"فإذا لم يقل عليه الصلاة والسلام ذلك فالقول به واعتقاده إفك وضلال، وكذلك أجمع جميع الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء إلى الإسلام وقبوله من كل أحد دون ذكر الاستدلال، ثمّ هكذا جيلا فجيلا حتى حدث من لا وزن له"(7).
ولأنّ الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه، وإنّما هو طريق إلى حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردد، فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شك فيه من غير دلالة، فقد صار مؤمنا وزال عنه كلفة طلب الأدلة، ولو كان النظر في معرفة الله واجبا لأدى إلى الدور، لأنّ وجوب النظر المأمور به متوقف على معرفة الله، ومعرفة الله متوقفة على النظر، ومن أنعم الله عليه بالاعتقاد الصافي من الشبه والشكوك فقد أنعم الله عليه بكلّ أنواع النعم وأجلها، حتى لم يكله إلى النظر والاستدلال لاسيما العوام، فإنّ كثيرا منهم تجد الإيمان في صدره كالجبال الراسيات أكثر ممّن شاهد ذلك بالأدلة، ومن كان هذا وصفه كان مقلدا في الدليل.
وقد جاء في شرح العقيدة الطحاوية قوله:" ولهذا كان الصحيح أنّ أول واجب يجب على المكلّف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك،
كما هي أقوال أرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلّهم متفقون على أنّ أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أنّ من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك، ولم يوجب أحد منهم على وليه أنّه يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين، وإن كان الاقرار بالشهادتين واجبا باتفاق المسلمين ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك"(8) .
أمّا ما ورد في سؤالكم من تبرير للقسمة الثنائية بين الأصول والفروع ممّا ذكرتم من وجوه التفريق بين القطع والظنّ والعلم والعمل والشرع فإنّه لا يشهد على هذا التقسيم دليل من كتاب ولا سنة ولا نقل عن أحد السلف وأئمة الفتوى والدين،
فإن كان دليل القسمة هو ادعاء القطعية في مسائل الأصول دون الفروع فهو فرق يظهر بطلانه ممّا هو معلوم من المسائل الفرعية العملية التي عليها أدلة قاطعة بالإجماع كتحريم المحرمات ووجوب الواجبات الظاهرة وهي المسائل الفقهية المعلومة من الدين بالضرورة وغيرها، ومع وجود قطعية الدليل عليها لم يحكم بكفر من أوَّلها أو أنكرها بجهل حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، كما هو حال خطأ من أكل بعد طلوع الفجر متأولا أو جاهلا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا شك أنّ خطأه عليه دليل قطعي ومع ذلك لم يصدر منه صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ البيان دون تأثيم فضلا عن التكفير
وكذلك الطائفة التي استحلت شرب الخمر على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يكفرهم الصحابة رضي الله عنهم بل بينوا لهم الحكم فتابوا ورجعوا إلى الحق.
هذا والقطع والظن من الأمور النسبية فكون المسألة قطعية أو ظنية أمر إضافي بحسب حال المعتقدين وليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه، فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة وبحسب قدرته على الاستدلال، إذ العبد قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنه، وغيره لا يعرف ذلك لا قطعا ولا ظنا، وقد يحصل القطع لإنسان ولا يحصل لغيره سوى الظنّ على ما حققه ابن تيمية(9) وابن القيم(10) رحمهما الله تعالى.
وأما تبرير القسمة بأنّ مسائل الأصول يطلب فيها العلم والاعتقاد دون مسائل الفروع المطلوب فيها العمل ففساد هذا الفرق يظهر جليا من ناحية كون الحكم الشرعي يجب اعتقاده، إذ يجب اعتقاد وجوب الواجبات وحرمة المحرمات واستحباب المستحبات وكراهة المكروهات وإباحة المباحات ومن جهة ثانية أنّ من أنكر حكما شرعيا معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر كفرا مخرجا من الملة كوجوب الصلاة المفروضة والزكاة وصوم رمضان وتحريم الزنا والقتل وغيرها من الأحكام فدلّ ذلك على أنّ المسائل التي يطلب فيها العمل يطلب فيها أيضا العلم والاعتقاد، وبالمقابل فإنّ من مسائل الأصول ما لا يترتب عليها تأثيم ولا تفسيق ولا تكفير كما تقدم من اختلاف الصحابة وتنازعهم في بعض مسائل الأصول.
وعليه فإذا تقرر أن الخطأ في المسائل العملية الفرعية التي يطلب فيها العلم والعمل يكون فيها المخطئ معذورا فإنّ الخطأ في مسائل الأصول التي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون المخطئ معذورا فيها.
وأمّا من جعل المسائل العملية هي المعلومة بالشرع والمسائل العلمية المعلومة بالعقل المستقل بدركها فهو تفريق غير ناهض، ذلك لأنّ صفة الكفر والفسق والإيمان والإسلام وغيرها من مسائل الأصول إذا اقترنت بذوات فلا تستحق هذه الصفات إلاّ بوصف الله ورسوله فهي صفات ثابتة بالشرع أي أحكام شرعية لم يستقل العقل بدركها.
أمّا مثال ما استقل العقل بدركه فكالطبيعيات والتجريبيات ومسائل الهندسة والحساب وغيرها، ومنه تدرك أنّ كلا من مسائل الأصول والفروع ثابتة بالشرع وليست الأصول من المسائل العقلية التي يكفر أو يفسق في نفسها إذ يلزم القول بذلك تكفير المخطئ في مسائل الطب والهندسة والحساب وغيرها من المسائل العقلية ؟
هذا، وفي الأخير ينبغي أن تعلم أنّ ما تمسك به المفرقون من المتكلمين وممّن أحدثوه قبلهم بين مسائل الأصول والفروع التي يسمون الأولى يقينية والثانية ظنية غاية في السقوط لا يشهد لهم دليل من الشرع وما استدلوا به لا يقوى على النهوض بل إنّ الآثار المترتبة على هذا التفريق مخالفة للكتاب والسنة والإجماع القديم.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
*****************
************
فتاوى الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس الجزائري
الجزائر في:6ذي القعدة1420ه
الموافق ل :12فبراير2017م
1- البحر المحيط للزركشي(6/239).
2- الملل والنحل للشرهستاني(1/202).
3- أخرجه ابن ماجه في الطلاق(2045)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في الإرواء(1/123).
4- انظر زاد المسير لابن الجوزي(7/50).
5- انظر فتح القدير للشوكاني(3/285،222،19).
6- شرح تنقيح الفصول للقرافي(430).
7- الفصل لابن حزم(5/244).
8- شرح العقيدة الطحاوية لأبي العز الحنفي(78).
9- انظر منهاج السنة لابن تيمية(3/22)، مجموع الفتاوى لابن تيمية(9/157،156)(19/211).
10- مختصر الصواعق501).
مشكور اخي العزيز على المعلومات القيمة
بارك الله فيك
تستاهل ++++++++++++ تقييم
جزاك الله كل خير أخي نور الدين وباررك فيك .ونفعنا وإياك بما نقرأ ونكتب
إنه ولي ذلك والقادر عليه
أتمنى أن تكون قد حصلت فائدة من الموضوع.