تخطى إلى المحتوى

تسلية المصاب عند فقد الأقربين والأصحاب 2024.

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:


فإن الله جل وعلا كتب مقادير كل شيء قبل خلق السماوات والأرض، فكل ما هو كائن فهو في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ومنذ أن أهبط آدم عليه السلام من الجنة إلى هذه ألأرض – وهذا والله أعلم – إيذانًا ببدء الابتلاءات والمصائب لأنها دار البلاء والاختبار فهو عليه الصلاة والسلام وذريته من بعده معرضون للمصائب على تنوعها.


ومن ثم انقسم الناس فمنهم الموفقون الذين }إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ{[البقرة: 156] فجزاهم الله بما صبروا إيمانا وتوفيقا وكانت هذه المصائب ممحصة لسيئاتهم ورافعة لدرجاتهم.


وقسم غير موفقين فبمجرد أن تنزل بأحدهم مصيبة إذا هو يتسخط ويجزع ويظهر المخالفة الشرعية فتجده يلطم الخد ويشق الجيب وينوح على ميته ويقول الألفاظ الممنوعة، فيجره ذلك إلى الآثام والشرور ومضاعفة المصاب.


قال عليه الصلاة والسلام: «إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط»([1]).


وإنَّ من أعظم المصائب التي يبتلى بها المرء فقدان الأحبة والأقربين بموتهم وانتقالهم عن هذه الدار. وحيث إن الواجب على المسلم أن يتحلى بالصبر في هذه الحالة ويلتجئ إلى ربه تبارك وتعالى ويكثر من الذكر والاسترجاع. فقد حاولت الإسهام في تسلية من يصاب بهذه المصائب وذكرت فضيلة الصبر وأوردت بعض النصوص وذكر القصص المفيدة وبعض الأحكام الشرعية لأخذ العبرة والاقتداء بالسلف الكرام، قال الإمام أحمد رحمه الله: «ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعًا»([2]) وهذا يدل على فضله وأهميته.


والصبر عند أهل العلم على ثلاثة أنواع:


1- صبر على طاعة الله عز وجل.
2- صبر عن محارم الله عز وجل.
3- صبر على أقدار الله عز وجل.


وتكلمت على النوع الثالث فقط لأن موضوع الصبر يحتاج إلى أكثر من ذلك، وخصصت الكلام أيضًا على فقد الأحبة والأقربين.



أرجو الله جل وعلا أن تكون هذه الكلمات معينة على الصبر ومحتذى لمن ناله شيءٌ من الأذى والعون والسداد من الله، رزقنا الله العلم النافع والعمل الصالح، وجعلنا شاكرين لنعمه مثنين بها عليه قابليها، صابرين على مر القضاء محتسبين الأجر من الله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

([1]) رواه الترمذي في الزهد: باب ما جاء في الصبر على البلاء (2396) وصححه الألباني في صحيح الجامع (285، 2110).

([2]) حاشية كتاب التوحيد (258).

وجوب الإيمان بالقضاء والقدر


الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان لا يتم إيمان العبد حتى يؤمن به خيره وشره، ويدل عليه حديث جبرائيل عليه السلام: «قال أخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»([1]).


فيجب على المسلم أن يؤمن بقضاء الله وقدره ويتقبل ذلك بالقبول والتسليم، وأن الله كتب مقادير كل شيء قبل خلق السماوات والأرض، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.


والإيمان بالقدر يشمل أربعة أشياء وتسمى مراتب القدر:


* العلم: وهو أن الله سبحانه قد علم الأشياء كلها وأحصاها وأنه لا تخفى عليه خافية كما قال سبحانه: }إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{[التوبة: 115].


* الكتابة: وهو أن الله سبحانه قد كتب الأشياء كما قال عز وجل: }مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ{[الحديد: 22].


* مشيئته النافذة: وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يكون شيء في ملكه دون مشيئته جل وعلا، فله سبحانه المشيئة الكاملة النافذة كما قال تعالى: }إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ{[يس: 82].


* خلقه وإيجاده للأشياء وقدرته عليها: فهو سبحانه الذي خلق جميع الأشياء وأوجدها، قال تعالى: }اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ{[الزمر: 62]»([2]).


فالواجب على المسلم إذ علم أن الله قد علم الأشياء قبل خلقها وإيجادها وكتبها وشاءها وقضاها وقدرها أن يتحلى بالإيمان الصادق والصبر على البلوى وأن يحذر التسخط وعدم الرضا حتى يجد حلاوة الإيمان ويتلذذ بقبول قضاء الله وقدره.


قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك»([3]).


قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «… وأما أهل الإيمان فيؤمنون بالقضاء والقدر، والأمر والنهي ويفعلون المأمور ويتركون المحظور ويصبرون على المقدور كما قال تعالى: }إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ{[يوسف: 90] فالتقوى تتناول فعل المأمور وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور، وهؤلاء إذا أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم علموا أن ذلك في كتاب وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم فسلموا الأمر لله وصبروا على ما ابتلاهم…»([4]). انتهى المقصود من كلامه.


فالصبر على أقدار الله من الإيمان بالله، وهذا ما بوب به شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه العظيم (كتاب التوحيد) وساق الأدلة من الكتاب والسنة على تقرير هذه المسألة، قال تعالى: }وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ{[التغابن: 11].


قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله: «أي من أصابته مصيبة فعلم أنها من قدر الله فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هُدىً في قلبه ويقينا صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرا منه».


وقال علقمة رحمه الله: «هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم»([5]).

([1]) رواه مسلم (8).

([2]) انظر مجموع مقالات وفتاوى سماحة الشيخ ابن باز (3/32) وما بعدها.

([3]) رواه أبو داود في السنن – باب القدر (4/76) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1/34).

([4]) مجموع الفتاوى (2/303).

([5]) حاشية كتاب التوحيد (258).

الصبر عند الصدمة الأولى


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة جاثمة على قبر تبكي فقال لها: «يا أمة الله اتقي الله واصبري قالت يا عبد الله ثكلى قال يا أمة الله اتقي الله واصبري قالت يا عبد الله لو كنت مصابًا عذرتني قال يا أمة الله اتقي الله واصبري قالت يا عبد الله قد أسمعت فانصرف عني، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه رجل من أصحابه فوقف على المرأة فقال لها: ما قال لك الرجل الذاهب قالت: قال لي كذا وكذا وأجبته بكذا وكذا قال هل تعرفينه؟ قالت: لا. قال: ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فوثبت مسرعة نحوه حتى انتهت إليه وهي تقول: أنا أصبر أنا أصبر يا رسول الله فقال: «الصبر عند الصدمة الأولى الصبر عند الصدمة الأولى»([1]). قال أبو عبيد: معناه أن كل ذي رزية فإن قصاراه الصبر ولكنه إنما يحمد على صبره عند حدة المصيبة وحرارتها.


قال ابن القيم وفي الحديث أنواع العلم:


أحدها: وجوب الصبر على المصائب، وأنه من التقوى التي أمر العبد بها.


الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن سكر المصيبة وشدتها لا يسقطه عن الآمر الناهي.


الثالث: تكرار الأمر والنهي مرة بعد مرة حتى يعذر المرء إلى ربه»([2]).


والمصيبة تختلف عن غيرها فهي تبدأ كبيرة ثم تصغر، فإذا قابلها المسلم بالصبر والاحتساب فإنها تصغر وتهون وقتا بعد وقت، وإلا فإن المصاب سوف يكون مرده إلى السُلو عن مصيبتة ولكن الحمد يكون لمن صبر عند الصدمة الأولى.


وإن من التسخط أن يشتكي المرء إلى غيره جرَاء ما أصابه، وكأنه يشتكي قضاء الله وقدره، وكان الواجب عليه أن يجعل شكواه لربه عز وجل: }قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ{[يوسف: 86].


ويروى أن أحد الصالحين سمع رجلا يشتكي إلى أخيه فقال يا هذا والله ما أردت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك.

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما

تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم







وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله سبحانه: «ابن آدم إن صبرت واحتسبت عند الصدمة الأولى لم أرض لك ثوابًا دون الجنة»([3]).
* * *

([1]) أورده السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للبزار وأبي يعلي وصححه الألباني في صحيح الجامع (3856) وبنحوه عند مسلم على اختلاف في ألفاظه ح (626) كتاب الجنائز باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى – وروى أصله البخاري في كتاب الجنائز (3/205) مع الفتح وفي مواضع أخرى.

([2]) عدة الصابرين (79).

([3]) رواه ابن ماجه (1597) وفي الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.

من يتصبر يصبره الله


عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد خيرًا أوسع من الصبر»([1]).


فمن تصبر صبره الله وأعانه على مقصده النبيل وكان عاقبة أمره الفلاح والجزاء الحسن: }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{[الزمر: 10].


فالواجب على المسلم التحلي بالصبر وحث إخوانه عليه لأنه من عزم الأمور، قال تعالى حكاية عن لقمان: }يابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ{[لقمان: 17].


وقال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: }وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا{[إبراهيم: 12].


قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: «ومن يتصبر يصبره الله»… ثم ذكر أن الصبر إذا أعطاه الله العبد فهو أفضل العطاء وأوسعه وأعظمه إعانة على الأمور قال تعالى: }وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ{[البقرة: 45] أي على أموركم كلها. والصبر كسائر الأخلاق يحتاج إلى مجاهدة للنفس وتمرينها فلهذا قال: «ومن يتصبر»أي يجاهد نفسه على الصبر «يصبره الله» ويعينه.


وإنما كان الصبر أعظم ال****ا لأنه يتعلق بجميع أمور العبد وكمالاته، وكل حالة من أحواله تحتاج إلى صبر، فإنه يحتاج إلى الصبر على طاعة الله، حتى يقوم بها ويؤديها، وإلى صبر عن معصية الله حتى يتركها، وإلى صبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، بل إلى صبر على نعم الله ومحبوبات النفس، فلا يدع النفس تمرح وتفرح الفرح المذموم بل يشتغل بشكر الله، فهو في كل أحواله يحتاج إلى الصبر وبالصبر ينال الفلاح ولهذا ذكر الله أهل الجنة فقال: }وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ* سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ{[الرعد: 23، 24].


وكذلك قوله: }أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا{[الفرقان: 75] فهم نالوا الجنة بنعيمها وأدركوا المنازل العالية بالصبر ولكن العبد يسأل الله العافية من الابتلاء الذي لا يدري ما عاقبته، ثم إذا ورد عليه فوظيفته الصبر فالعافية هي المطلوبة بالأصالة في أمور الابتلاء والامتحان والصبر يؤمر به عند وجود أسبابه ومتعلقاته، والله هو المعين…»([2]).


وقيل للأحنف: إنك لصبور فقال: «الجزع شر الحالين يبعد المطلوب ويورث الحسرة ويبقى على صاحبه عار الأمر بلا فائدة»([3]).


وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما احتضر أبو بكر قلت:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر







فقال: يا بنية: لا تقولي هكذا ولكن قولي: }وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ{[ق: 19]»([4]).

إن الأمور إذا انسدت مسالكها

فالصبر يفتح منها كل ما ارتججا


لا تيأسن وإن طالت مطالبه

إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا


أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته

ومدمن القرع للأبواب أن يلجا







وقال سهل بن هارون: «التهنئة بآجل الثواب أولى من التعزية بعاجل المصيبة»([5]).
* * *

([1]) رواه البخاري – الزكاة (1469) ومسلم – الزكاة (1053) باب فضل التعفف والصبر.

([2]) بهجة قلوب الأبرار (145-146).

([3]) فيض القدير (4/298).

([4]) بهجة المجالس (3/368).

([5]) المرجع السابق (3/357).

الله يالله
بارك الله فيكْ

موقف المسلم عند المصيبة


قال الله جل وعلا: }يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{[البقرة: 153].


وقال سبحانه: }وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{[البقرة: 155-157].


فهذه بشارة من الله عز وجل للصابرين فهو سبحانه مع الصابرين بتأييده وحفظه وإعانته، وعليهم صلوات من الله ورحمة، وبين سبحانه أنهم من المهتدين.


عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا أخلفه الله خيرًا منها»([1]).


وفي رواية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اصابت أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي فآجرني فيها وأبدلني خيرًا منها»، فلما احتضر أبو سلمة قال: «اللهم أخلفني في أهلي خيرًا مني، فلما قبض قالت أم سلمة إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب مصيبتي»([2]).


قالت: «فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم»([3]).


فكان عاقبة صبرها واسترجاعها أن أخلفها الله من هو خير من أبي سلمة حيث تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثلاث يعز الصبر عند حلولها

ويذهل عنها عقل كل لبيب


خروج اضطرار من بلاد يحبها

وفرقة أخوان وفقد حبيب

عن أنس رضي الله عنه قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان فقال عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة» ثم أتبعها أخرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»([4]).


وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ولد العبد قال الله لمائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم، فيقول ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع فيقول: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد»([5]).


فما أحسن الصبر إذا استحضر المصاب ما أعده الله للصابرين.
فأنت أيها المسلم لو تأملت وما وعدك به ربك جل وعلا من عظيم الأجر والثواب لكان ذلك معينًا لك على الصبر الجميل فما جزاء من صبر عند فقد أحد أصفيائه؟!


عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة»([6]).


ومهما صغرت المصيبة أو كبرت فإن لها ميزان عظيم، والله عز وجل (لا يضيع أجر من أحسن عملا). ففضله واسع، وعطاؤه لا يغيض، وكم من صابر على مصيبة صغيرة حصَّل بصبره الحسنات العظيمة وأدرك بصبره الدرجات الرفيعة.


عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها»([7]).


وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه»([8]).


يقول العلامة السعدي رحمه الله: «ومتى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه ولم يستسلم للأوهام ولا ملكته الخيالات السيئة، ووثق بالله، وطمع في فضله، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم وزال عنه كثير من الأسقام البدنية والقلبية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما يمكن التعبير عنه….»([9]). انتهى المقصود من كلامه.
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه أن ابنًا لي احتضر فأتنا، فأرسل يقريها السلام ويقول: إنَّ لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبيُّ بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع الصبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقعده في حجره ونفسه تقعقع كأنها شنٌّ، ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»([10]).


فهذا هو الموقف الذي ينبغي أن يقفه المسلم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا جزع ولا تسخط ولا كلام مذموم ولا شق للجيوب ولطم للخدود كحال أهل الجاهلية، بل صبر واحتساب واسترجاع.

صبرت فكان الصبر خير مغبة

وهل جزع يجدي علي فأجزع


ملكت دموع العين حتى رددتها

إلى ناظري فالعين في القلب تدمع

ولعل من الحكمة – والله أعلم – حين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الأجلَّة من الصحابة أن يربيهم التربية العملية وهي مشاهدة المحتضر ومعاينة ما يقاسيه من سكرات الموت، وأن هذه الضجعة سوف يضجعونها لا محالة، فيستفيدون من ذلك الشيء الكثير ويستعدون لما أمامهم، فينبغي على المسلم إذا سمع أن أحد أصدقائه يحتضر أو أحد أقاربه أن يجلس عنده ويلقنه الشهادة ويرغبه بما عند الله ويحضه على حسن الظن بالله وأنه قادم على أرحم الراحمين، وأن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وفي المقابل هو أيضًا يستفيد من مشاهد هذه الحالة بالتوبة النصوح والعمل الصالح والإقبال على الله، والتوفيق بيد لله.

([1]) رواه مسلم – الجنائز ح(918) باب ما يقال عند المصيبة.

([2]) رواه أحمد في المسند (4/27) وأبو داود في الجنائز (3119) باب في الاسترجاع والحاكم (4/16) في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي.

([3]) رواه البخاري فتح (3/1303) واللفظ له. ومسلم (2315).

([4]) رواه مسلم – كتاب الجنائز ح(918) باب ما يقال عند المصيبة.

([5]) رواه الترمذي في الجنائز (1021) وحسنه ألألباني في السلسلة الصحيحة (1408) وصحيح الجامع (795).

([6]) رواه البخاري مع الفتح 11 (6424).

([7]) رواه البخاري – كتاب المرضى ح(5640)، ومسلم (2572) كتاب البر والصلة والآداب.

([8]) رواه البخاري – كتاب المرضى ح(5641) وبنحوه عند مسلم (2573) كتاب البر والصلة والآداب.

([9]) الوسائل المفيدة – مطبوع ضمن مؤلفاته (2/491).

([10]) رواه البخاري في الجنائز (3/124/126) ومسلم في الجنائز ح(923) باب البكاء على الميت.

الحذر من الاعتراض على قضاء الله


في الحديث: «إذا أحب الله قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط»([1]). فعلامة رضا الله عز وجل عن عبده أن يصبر عند البلوى، وعلامة السخط أن يسخط العبد إذا ابتلي، ولا تظن أيها المسلم أن تحصيل الصبر غير ممكن بل هو من أيسر الأشياء إذا كان عندك الإيمان الصادق والبصيرة النافذة والعمل الصالح والعلم النافع.


يقول ابن القيم رحمه الله: «والصبر وإن كان شاقًا كريهًا على النفوس فتحصيله ممكن، وهو يتركب من مفردين العلم والعمل…»([2]).


واعلم بارك الله فيك أنك عند المصائب بين خيارين وضدين، إما صبر واحتساب يعقبهما الرضا من الله عز وجل، وإما جزع وتسخط يعقبهما السخط من الله تبارك وتعالى.


فأنت بإيمانك وصدق عزيمتك لا أخالك ترغب عما أمرك الله به وهو الصبر، وتقتحم ما نهاك عنه وحذرك منه وهو السخط، فاصبر وتأمل العواقب، وتأمل قول أهل النار عياذًا بالله من حالهم: }سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ{[إبراهيم: 21].


فكذلك كل ما قدره الله عليك كائن لا محالة، ولا يرده جزع ولا تسخط، والمصاب حقيقة من حرم الثواب، وجاء في الحديث: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب»([3])، فهي بذلك جمعت بين السخط الذي لا يقدم ولا يؤخر وبين العذاب في الآخرة، ولو صبرت لنالت فضيلتين الصبر والرضا والثواب الجزيل، بل ورد في الحديث: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه»([4])، والمقصود ليس مطلق البكاء بل بكاء خاص وهو النياحة.


فلا يليق بالمسلم أن يجزع فيضر نفسه، ويلحق الضرر بأخيه المسلم وهو في قبره، في وقت يلتمس من إخوانه المسلمين أن يسدوا له أقلَ الأعمال الصالحة.


واختلف العلماء كيف يُعَذَّبُ والله جل وعلا يقول: }وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى{[الأنعام: 164].


قال الألباني رحمه الله: وقد اختلف العلماء في الجواب عن ذلك على ثمانية أقوال وأقربها إلى الصواب قولان:


الأول: ما ذهب إليه الجمهور وهو أن الحديث محمول على من أوصى بالنوح عليه، أو لم يوص بتركه مع علمه بأن الناس يفعلونه عادة.


والآخر: أن معنى (يُعَذَّبُ) أي يتألم بسماعه بكاء أهله ويرقُ لهم ويحزن وذلك في البرزخ، وليس يوم القيامة»([5]).


ويجب على من حضر وفاة أخيه أن لا يدعو إلا بخير لأن الملائكة يُؤَمِّنُونَ على ما يدعو به، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقَّ بصره فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قُبِضَ تبعه البصر» فضج ناس من أهله فقال لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: «اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في أهله في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره ونَوِّر له فيه»([6]).


ثم احذر – أيها المسلم – كلمة (لو) فإنها من عمل الشيطان قال عليه الصلاة والسلام: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن اصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قَدَّرَ الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان»([7])، فإذا أصبت بمصيبة كحادث سيارة أو حريق ونحوه، فلا تفتح على نفسك بابًا للشيطان فتقول: لو أنه لم يركب السيارة لما حصل الحادث وهكذا، لما فيه من الاعتراض على القدر، وإنما عليك التسليم بما حصل واليقين بأن ما حصل لابد من وقوعه، قال السعدي رحمه الله: «إذا أصاب العبد ما يكرهه فلا ينسب ذلك إلى ترك بعض الأسباب التي يظن نفعها لو فعلها، بل يسكن إلى قضاء الله وقدره فيزداد إيمانه ويسكن قلبه، وتستريح نفسه، فإن لو في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص إيمانه بالقدر واعتراضه عليه وفتح باب الهَمِّ والحزن المضعف للقلب»([8]).

([1]) تقدم تخريجه.

([2]) عدة الصابرين (56).

([3]) رواه مسلم (1/58) كتاب الجنائز ح(934) باب التشديد في النياحة.

([4]) رواه البخاري (3/128) ومسلم ح (927) الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

([5]) أحكام الجنائز وبدعها (41) وانظر كلام ابن القيم في تهذيب السنن (4/290-293).

([6]) رواه مسلم كتاب – الجنائز ح(920) باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر.

([7]) رواه مسلم في الزهد (4/2295).

([8]) بهجة قلوب الأبرار (39-40) وانظر التفصيل المهم لاستعمال (لو) في فتاوى الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله (3/127).

مواقف في الصبر


كان الصحابة والتابعون وسادات الأمة لهم مواقف ذات عجب، يتحير عندها أولوا الألباب، فإذا نزل بأحدهم مصيبة فإذا هو يضرب أروع الأمثلة بصبره وحزمه وتجلده حتى إنه ليَعْجَبُ الحليم ولسان حاله يقول سبحان من رزقهم تلك العقول ووهبهم الإيمان والصبر، فهم يقابلون المصيبة الداهية بما أمرهم ربهم تبارك وتعالى فتتحول إلى أمر يسير فما أجمل الاقتداء بهم، وما أحسن النظر في سيرهم وتتبع أحوالهم التي هي مدرسة تقتبس منها الآداب والأخلاق الفاضلة.


عن أنس رضي الله عنه قال: «اشتكى ابن لأبي طلحة فمات وأبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيَّأت شيئًا وسجته في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه وأرجو أن يكون قد استراح، فظن أبو طلحة أنها صادقة، قالت فبات معها، فلما أصبح اغتسل فلمَّا أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخبره بما كان منهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعلَ الله أن يبارك لكما في ليلتكما»، قال ابن عيينة: فقال رجل من الأنصار: فرأيت له تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن»([1]).


فما أعقل هذه المرأة – أم سليم – وما أشد تجلدها وصبرها، وفق الله نساء المسلمين للاقتداء بها وبنساء الصحابة ورزقهن الستر والعفاف.


ويُروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه مرض فعادوه فقالوا ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال: قد رآني الطبيب، قالوا: فأي شيء قال لك؟ قال: إني فعَّال لما أريد»([2]).


وكان محمد بن شبرمة إذا نزل به بلاء قال: «سحابة صيف ثم تنقشع»([3]).

إني رأيت وفي الأيام تجربة

للصبر عاقبة محمودة الأثر


وقل من جدَّ في أمر تطلعه

واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

ومات ابن للحسين بن عبد العزيز المروزي فقال لأمه: «اتقي الله واحتسبيه واصبري فقالت: مصيبتي أعظم من أن أفسدها بالجزع»([4]).


وقيل للأحنف: «إنك لصبور فقال الجزع شر الحالين يبعد المطلوب ويورث الحسرة ويُبقي على صاحبه عار الأمد بلا فائدة». وعن أنس رضي الله عنه قال: «أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: «ويحك – أو هبلت – أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة وإنه لفي الفردوس»([5]).


قال سليمان بن القاسم رحمه الله: «كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر قال تعالى: }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{ [الزمر: 10]. قال: كالماء المنهمر»([6]).

أما والذي لا خلد إلا لوجهه

ومن ليس في العز المنيع له كفو


لئن كان بدء الصبر مرا مذاقه

لقد يجتنى من غبه الثمر الحلو



وقال الأوزاعي في قوله تعالى: }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{ ليس يوزن لهم ولا يكال لهم إنما يغرف لهم غرفا»([7]).


وقال عمر رضي الله عنه: «وجدنا خير عيشنا بالصبر»([8]).


قال لقمان لابنه: «أوصيك بخصال تقربك من الله وتباعدك من سخطه: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت»([9]).


وهذا غيض من فيض في مواقف السلف رحمهم الله عند المصائب فبهم يُقتدى وعلى نهجهم يحتذى فالخير كامنٌ في سيرتهم ومواقفهم لأنهم أخذوا بحظ وافر من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقول ابن القيم: «… وبالجملة فعاداتهم – يعني السلف – أنهم لم يكونوا يغيرون شيئا من زيهم قبل المصيبة ولا يتركون ما كانوا يعملون فهذا كله مناف للصبر»([10]). رزقنا الله الاقتداء بهم والسير على نهجهم.

([1]) رواه البخاري: باب من لم يظهر حزنه عند المصيبة فتح (3/201).

([2]) رواه أحمد.

([3]) عدة الصابرين (96).

([4]) عدة الصابرين (299).

([5]) رواه البخاري (6550).

([6]) عدة الصابرين (96).

([7]) رواه أحمد.

([8]) عدة الصابرين (96).

([9]) عدة الصابرين (100).

([10]) المرجع السابق (100).

الكل مبتلى


فمنذ أن خلق الله أبانا آدم عليه الصلاة والسلام والمصائب والأحزان والابتلاءات ترد عليه وعلى زوجه ثم على ذريتهما وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فآدم عليه السلام بعد أن كان هو وزوجه في الجنة ينعمان، وسوس لهما الشيطان فكان سببًا في إخراجهما منها ثم أهبط إلى الأرض وأهبط معهما عدوهما رأس المصائب وداعية الشر الذي أقسم بعزة الله ليغوين ذرية آدم: }قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{[ص: 82، 83].

فأيُّ مصيبة وأيُّ حسرة أعظم من مصيبة آدم عليه الصلاة والسلام الذي كان في الجنة ثم يُهْبطُ منها إلى دار المصائب والأحزان ومع ذلك كله صبر عليه الصلاة والسلام هو وزوجه وكان أهم شيءٍ عندهما أنْ يرضى عنهما ربهما تبارك وتعالى: }قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ{[الأعراف: 23].

ثم يستمر الشيطان الرجيم في الغواية وإلحاق الضرر إلى بني آدم فيغوي أحدهما بقتل أخيه فيقتله([1])، وهذا ديدنه في كل عصر ومصر ففي كل شر له نصيب وفي كل تقصير له حظ أعاذنا الله منه وكفانا شره ووسوسته.

وكذلك أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام تعرضوا لكثير من المصائب ولكنهم صابرون محتسبون لا تتغير أحوالهم إلا إلى الخير ولا تنقص أعمالهم الصالحة، بل كانوا يستعينون عليها بالصبر والصلاة تحقيقًا لقوله تعالى:}وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ{[البقرة: 45].

فخيرهم وأفضلهم نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة فلطالما وجد راحته فيها.

وثَمَّ أمرٌ بالغ الأهمية وهو أنَّ المصائب وفجائع الزمان أنواع مختلفة فبعضها تكون في النفس وبعضها في الأهل وبعضها في الأولاد وبعضها في الأموال، ولكن قاصمة الظهر والفاجعة الحقيقية هي التي تكون في الدِّين – نسأل الله العافية والسلامة – وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «ولا تجعل مصيبتنا في ديننا»([2]).

قال شريح رحمه الله: «مما أُصيب عبدٌ بمصيبة إلا كان لله فيها ثلاث نعم: ألا تكون في دينه، وألا تكون أعظم ما كانت، وأنها لا بد كائنة فقد كانت»([3]).

ومما قاله أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس:

فجائع الدهر ألوان ملونة

وللزمان مسرات وأحزان


وللحوداث سلوان يسهلها

وما لما حل بالإسلام سلوان

ومما يؤثر عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «لكل فرحة ترحه، وما ملئ بيت فرحًا إلا ملئ ترحًا»([4]). وكتب عمر رضي الله عنه، لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أما بعد فإن الخير كله في الرضا فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر)»([5]).

ومن نظر في أحوال المسلمين اليوم وطالع كيف تنزل البلوى والمصائب بهم، وكيف يُحصدُ المسلمون جماعات وفرادى، وتُصفَّى جموعهم، وتُهدَم ديارهم، فإنه يعلم أن ما نزل به من مصيبة لا تساوي مصائب المسلمين لأنه قد يفقد شخصًا أو شخصين لكن غيره يتساقطون هلكى جماعة بعد جماعة، نسأل الله أن يرفع عن إخواننا المسلمين الضر والبلاء وأن ينصرهم في كل مكان وأن يجعل الدائرة على أعدائهم وأن يجعلنا آمنين، ويحفظنا وإياهم من كل شر وكيد، والله المستعان.

يجري القضاء وفيه الخير نافلة

لمؤمن واثق بالله لا لاهي


إن جاءه فرح أو نابه ترح

في الحالتين يقول الحمد لله



ويروى أن الإسكندر لما حضرته الوفاة كتب إلى أمه أن اصنعي طعامًا يحضره الناس ثم تقدمي إليهم أن لا يأكل منه محزون، ففعلت، فلم يبسط أحد إليه يده، فقالت: ما لكم لا تأكلون؟! فقالوا: إنك تقدمت إلينا أن لا يأكل منه محزون، وليس منا إلا من قد أصيب بحميم أو قريب!! فقالت: مات والله ابني وما أوصى إليَّ بهذا إلاَّ ليعزيني به ([6]).

شيئان لو بكت الدماء عليهما

عيناك حتى يأذنا بذهاب


لم يبلغا المعشار من حقيهما

فقد الشباب وفرقة الأحباب

([1]) يذكر في بعض كتب قصص الأنبياء أن آدم حزن لمقتل ابنه وأنه بكى طويلاً ورثى ابنه بأبيات منها:

تغيرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبرٌ قبيح


تغير كل ذي لون وطعم

وقل بشاشة الوجه المليح

وأن الشيطان رد عليهم وهذه القصة باطلة وهي من الإسرائيليات، انظر لزامًا كتاب آراء خاطئة وروايات باطلة (48) للشيخ عبد العزيز السدحان حفظه الله.

([2]) رواه الترمذي (5/493) ح(3502) وحسنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1268).

([3]) عدة الصابرين (121).

([4]) زاد المعاد (4/190).

([5]) مدارج السالكين (2/185).

([6]) العقد الفريد (3/233).

بشرى للصابرين


قال تعالى: }وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{[البقرة: 155-157].


قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نعم العدلان ونعمت العلاوة }أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ{ فهذان العدلان }وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{ فهذه العلاوة وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا»([1]).


وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يزال المؤمن يصاب في ولده وحامَّتِه حتى يلقى الله وليست عليه خطيئة»([2]) – حَامَّتِه – قرابته وخاصته، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم»([3]).


ولا شك أن المصيبة بتنوعها لها غصص ومرارة ومقابلتها بالصبر يحتاج إلى إيمان واحتساب لكن من نظر إلى العواقب الحميدة التي ينالها بالصبر صار الصبر عنده أحلى من العسل.

الصبر مثل اسمه مر مذاقته

لكن عواقبه أحلى من العسل

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار: «لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة. فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟! قال أو اثنين»([4]).


ويقول ابن كثير رحمه الله في قوله: }الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ{[البقرة: 156] قال أي تسلَّوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما شاء وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة)»([5]).


وحُكيَ أن أعرابية دخلت من البادية، فسمعت صراخًا في دار فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: مات لهم إنسان.
فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، ومن قضائه يتبرمون، وعن ثوابه يرغبون.


وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها فقالت: يا نبي الله! ادع الله له فلقد دفنت ثلاثة، قال (دفنت ثلاثة؟) قالت نعم. قال: «لقد احتظرت بحظار شديد من النار»([6]). وورد في أجر من فقد ولدين وولد واحد مثل ذلك.


وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في تفسير قوله تعالى: }إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ{[الزمر: 10]: «… والحاصل أن الآية تدل على ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له، لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه، وهذه فضيلة عظيمة ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر، ويزم نفسه بزمامه ويقيدها بقيده فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل، ولا يجلب خيرًا قد سُلب، ولا يدفع مكروهًا قد وقع، وإذا تصور العاقل هذا حق تصوره وتعقله حق تعقله علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الجزاء الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى، ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع، وما أحسن قول من قال:

أرى الصبر محمودًا وعنه مذاهب

فكيف إذا لم يكن عنه مذهب


هناك يحق الصبر والصبر واجب

وما كان منه للضرورة أوجب ([7])

ومن أعظم البشارات لمن أصيب بمصيبة فذكرها بعد مدة طويلة فجدد لها استرجاعًا وصبرًا، ماله عند الله من الأجر كلما ذكرها واسترجع.
فعن الحسين بن علي رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها
قال عبَّاد: قدم عهدها فيحدث لذلك استرجاعًا، إلا جدد الله له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أثيب بها»([8])، وفضل الله واسع ورحمته بلغت كل شيء.

* * *

([1]) تفسير القرآن العظيم (1/203) وانظر صحيح البخاري (3/205) مع الفتح.

([2]) رواه مالك في الجنائز ح40 (1/236) وأخرجه بنحوه الترمذي (2401) وصححه الألباني في صحيح الجامع (5815).

([3]) رواه البخاري – كتاب الجنائز (1249) ومسلم – البر والصلة (2632) واللفظ له.

([4]) رواه البخاري – كتاب الجنائز (1249) ومسلم – البر والصلة (2632) واللفظ له.

([5]) تفسير القرآن العظيم (1/198).

([6]) رواه مسلم – كتاب البر والصلة والآداب – ح (26360).

([7]) فتح القدير (4/454).

([8]) رواه أحمد في المسند (1/201) وفي سنده هشام بن زياد قال في التقريب ص(572) رقم (7292) (متروك).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.